المقدمة

خاض نابليون غمار حملتين كبيرتين على الأراضي الروسية، بينهما خمس سنوات، تُوّجت الأولى بالنّصر وعقد معاهدة سلام، بين روسيا وفرنسا، بينما انتهت الثانية بالفشل الذريع، ووضعت بدايات سقوط نابليون وإمبراطوريته، ونهاية حياته. وفيما يلي عرض سريع موجز لأحداث الحملة الأولى على روسيا.

وافق مجلس الشيوخ الفرنسي على اقتراح قُدّم إليه يوم 18 مايو 1804م بمنح لقب إمبراطور للقنصل الأول نابليون بونابرت، وصدر قرار مجلس الشيوخ بذلك في المرسوم الرقم 112. واشترط نابليون إجراء استفتاء شعبي عام على ذلك، وجاءت النتيجة يوم 6 نوفمبر 1804م بموافقة أغلبية الشعب الفرنسي. وفي كنيسة نوتردام، في احتفال يوم 2 ديسمبر 1804م، بحضور رجال البلاط، وأعضاء مجلس الشيوخ، انتزع نابليون التاج من يد البابا، ووضعه بنفسه على رأسه، حتى لا يركع أمام البابا، كما كان يفعل ملوك فرنسا السابقون.

استأنف نابليون نشاطه التوسعي لتكوين إمبراطورية فرنسية شاسعة، وبعد أن تمكن من اجتياح النمسا في 2 أكتوبر 1805م، وسحق الجيش الألماني في موقعة أولم U LM على نهر الدانوب، كان عليه أن يواجه الجيش الروسي، الذي وصل بقيادة كوتوزوف Kutusoff إلى نهر إين، بعد اجتياز النماس، وتجنيد عدد كبير من رجالها للقتال معه. وتمكن نابليون من الانتصار على كوتوزوف، وواصل تقدمه متوغلاً في أراضي النمسا، ودخل فيينا دون مقاومة تذكر، يوم 15 نوفمبر 1805م. وانسحب فرانسوا الثاني، إمبراطور النمسا، من العاصمة. وواصل نابليون تقدمه، فانتصر على القوات الروسية النمساوية في 2 ديسمبر 1805م انتصارًا ساحقاً في أوسترليتز Austerlitz، (وهي مدينة تشيكية)، ويعدُّ هذا الانتصار أعظم انتصاراته؛ إذ خسرت القوات النمساوية ـ الروسية 27 ألف قتيل، فضلا عن معدات هائلة. وانسحبت القوات الروسية، بينما دخل النمساويون في مفاوضات مع نابليون انتهت بالتوقيع على معاهدة بريسبرج Persbourg في 26 ديسمبر 1805، التي تضمنت تنازل النمسا عن جزء كبير من أراضيها لمصلحة المملكة الإيطالية، حسب رغبة نابليون، وعن جزء آخر لصالح فرنسا، ودفع غرامة حرب، قدرها أربعون مليوناً من الفرنكات. ونصب نابليون أخاه جوزيف ملكاً على إيطاليا، كما أخذ في تنظيم ألمانيا، وتقسيم دوقياتها بين قواده، ودخل الأمراء الألمان في الجنوب والغرب في اتحاد كونفيدرالي، تحت سيطرة فرنسا، باسم "اتحاد الراين"، الذي اتخذ من فرانكفورت عاصمة له، والذي فوّض نابليون في إعلان الحرب، وقيادة الجيوش، وإدارة السياسة الخارجية للاتحاد.

    لم تسفر المفاوضات، التي جرت بين نابليون وممثلي إنجلترا وروسيا عن نجاح يذكر؛ لأن إنجلترا رفضت التسليم لنابليون باستيلائه على صقلية؛ ولأن روسيا رفضت اقتراح نابليون بتراجع قواتها إلى الشرق، وعدم التدخل في شؤون أوروبا الغربية.

    أرسل نابليون إلى بروسيا يطلب منها التحالف مع فرنسا، ويقدم لها هانوفر هدية لها مقابل ذلك. ولكن بروسيا رفضت التحالف معه، وفضلت التحالف مع روسيا في 9 أغسطس 1806، وأخذت في حشد قواتها. وفي 26 أغسطس، أرسلت إنذاراً إلى فرنسا، تطالبها بسحب قواتها، والجلاء عن الراين، في موعد أقصاه 8 أكتوبر 1806. ورفض نابليون الإنذار، ودارت الحرب مع بروسيا، وتمكّن من هزيمتها، و تدمير جيوشها تدميراً هائلاً؛ فقد خسرت القوات البروسية 37 ألفاً بين قتيل وجريح، و20 ألفاً من الأسرى، وفقدت جميع مدفعيتها، واستسلمت جميع قلاعها باستثناء ثلاث، ودخل نابليون مدينة برلين، وفرّ الإمبراطور فريدريك غليوم إلى روسيا.

عقب ذلك زحف نابليون لمواجهة الروس في أرض بروسيا الشرقية. واتبع الروس سياسة "الأرض المحروقة"؛ إذ أخذوا ينسحبون أمامه، بعد أن أحرقوا الأرض، وأتلفوا الزرع؛ مما وضع العراقيل أمام جيش نابليون، وتسبب في نقص الإمدادات والتموين. ثم ما لبث أن غاص جيش نابليون في الوحل، وأربكته الثلوج والأمطار والعواصف. وتقابل الجيشان في إيليو Eylau في ليتوانيا في 8 فبراير 1807، وتمكّن نابليون بصعوبة من الانتصار على الروس، الذين فقدوا 25 ألف قتيل، بينما سقط عشرة آلاف من الفرنسيين.

استنزفت هذه المعركة قدرات نابليون، فآثر التوقف فترة قبل استئناف القتال، وعمل على تدعيم قواته، ثم عاد إلى التحرك في الربيع، فسار إلى كونيجسبرج، حيث المستودعات الرئيسية لتموين الجيش الروسي. والتقى الجيشان عند فريدلاند Freidland (تسمى حالياً Tchernia Kowsk ) في ليتوانيا في 14 يونيه 1807. وانتصرت القوات الفرنسية، وتكبد الروس خسائر فادحة (25 ألف قتيل، و 80 مدفعاً)، وأخذوا يتراجعون في اتجاه نييمن Niemen (تسمى الآن Sovietsk) في ليتوانيا، وأرسل القيصر ألكسندر يطلب التفاوض مع نابليون، وتم اللقاء في تيلسيت Tilsitعلى نهر نييمن في 25 يونيه 1807، وتم الصلح، وعُقدت معاهدة تيلسيت.