إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات عسكرية / استيلاء نابليون على موسكو، (يونيه – ديسمبر 1812)





ليبزيغ 1813
معركة سمولنسك 1812م
حملة 1813 (1)
حملة 1813 (2)




استيلاء نابليون على موسكو

1. الحملة الثانية وتجدد الصراع مع روسيا

حدث بعد ذلك ما أدى إلى تباعد فرنسا عن روسيا، بعد زواج نابليون من ماري لويز Marie Louise، ابنة فرانسوا الأول Francois I، ملك النمسا، وطلاقه لجوزفين؛ فقد كان نابليون يرغب في مصاهرة قيصر روسيا، غير أن جواب القيصر تأخر، ولاحت احتمالات الرفض، فخطب نابليون ماري لويز. كذلك لم يكن القيصر ألكسندر راضياً عن تحالفه مع نابليون، فإن هذا التحالف لم يحقق له ما كان يتطلع إليه؛ بعد أن أدى الحصار الاقتصادي الذي فرضه نابليون على إنجلترا إلى إصابة التجارة الروسية بأضرار بالغة؛ فقد كانت روسيا تُعدُّ إنجلترا سوقها الوحيد المفضل. وكذلك كان قيصر روسيا يهدف من تحالفه مع نابليون إلى اقتسام أوروبا، ففوجئ بأن نابليون أقام دوقية فارصوفيا (وارسو الحالية)، على حدود روسيا، وأعلن عن قيام مملكة بولونية، مما حرم روسيا من موانئها على بحر البلطيق. إضافة إلى ذلك فإن نابليون لم يدعم قيصر روسيا في مخططاته التوسعية للاستيلاء على القسطنطينية، فكان لابد من انفجار الصراع.

ويمكن القول إن العلاقات بين روسيا وفرنسا قد وصلت إلى أقصى درجات تدهورها في عام 1811. وقد طلب نابليون من قيصر روسيا في 15 أكتوبر 1810 أن يحتفظ بجميع السفن الإنجليزية الراسية في المياه الروسية، والتي ترفع أعلاماً محايدة، ويمنعها من السفر. ولكن القيصر رفض طلب نابليون قائلاً: "إن روسيا لا تستطيع أن تستغني عن السلع التي تأتي بها تلك السفن من المستعمرات الإنجليزية، أو أن تمنع سفناً تحمل أعلاماً محايدة". وزاد القيصر من تصعيد الخلاف، وتحديه لنابليون فأصدر مرسوماً بتسهيل دخول السفن المحايدة إلى جميع الموانئ الروسية، وبفرض رسوم جمركية باهظة على المنتجات الفرنسية، خاصة النبيذ والحرير، أهم صادرات فرنسا.

وأراد نابليون أن يُلقي تبعة اندلاع الحرب على كاهل قيصر روسيا، فأرسل إليه عدة رسائل. وكان مما تكرر وروده في هذه الرسائل:

"إنني سأظل صديقاً مخلصاً لجلالتكم، حتى ولو كان قدر أوروبا أن يحمل أبناؤها السلاح ضدّ بعضهم البعض، وإنني لن أبدأ قط بالهجوم، ولن تزحف جيوشي إلى أراضيكم إلا إذا مزقتم جلالتكم وثيقة تلست، التي تتضمن معاهدة الوفاق بيننا. كما إنني سأكون أول من يلقي السلاح إذا عادت ثقتكم بي مرة أخرى".

وكان ردّ القيصر أن أرسل بمذكرة، سلمها السفير الروسي في فرنسا إلى نابليون، يطلب منه الانسحاب من دانتزيج Dantzig، (وهي مدينة بولونية على خليج دانتزيج على البلطيق، استولت عليها فرنسا في 1807، وأصبحت مركزاً من مراكز بروسيا الشرقية)، وإخلاء دوقية فرصوفيا. ومن ثم تأكد نابليون أن الحرب لابد منها، فبدأ في حشد قوات هائلة،. واستصدر من مجلس الشيوخ في 23 ديسمبر 1811 قراراً بتفويض وزير الحربية ألكسندر برتييه Alexandre Berthier تعبئة 120 ألف مقاتل، ثم استصدر قراراً آخر في 17 مارس 1811 بتخصيص 60 ألف مقاتل آخرين لتأليف جيش داخلي للدفاع عن فرنسا. كما عقد وثيقة تحالف عسكري مع بروسيا في 24 فبراير 1812، وأخرى مع النمسا في 14 مارس.

ثم أرسل القيصر ألكسندر إنذاراً، في 25 أبريل 1812، إلى نابليون يطلب منه الجلاء عن ألمانيا، فأرسل نابليون إليه مندوبه ناربون Narbone للتفاهم، ولكن القيصر أصر على موقفه.

في ذلك الوقت في عام 1812، كان نابليون قد حقق انتصارات عسكرية حاسمة، في الحملات والمعارك، التي خاضها على أرض القارة الأوروبية، ولم يبق أمامه إلا ثلاثة خصوم:

أ. بريطانيا التي تحتمي بالبحر.

ب. وروسيا التي تحتمي بالبرد؛ وعلى أرضها الشاسعة تفنى الجيوش الصغيرة، وتجوع الجيوش الكبيرة.

ج. وأسبانيا التي تحتمي بالجبال الوعرة، والوديان السحيقة.

ومن ثم أرسل نابليون حملة إلى أسبانيا، وتهيّأ بنفسه للخروج إلى روسيا.

خرج نابليون على رأس جيوشه من باريس، في 9 مايو 1812، وبصحبته زوجته الملكة ماري لويز، وعندما وصل إلى فيينا، خرج لاستقباله صهره إمبراطور النمسا، فرانسوا الأول، ومعه الأمراء بحفاوة كبيرة، ومكث يوم 17 مايو في درسدن Dresden في النمسا، وفي اليوم التالي، تحرك إلى براغ، وهناك ترك ماري لويز، وواصل سيره. كان نابليون قد حشد في ألمانيا، على ضفاف نهر الفيستولا، نحو 510 آلاف جندي، في أربعين فرقة مشاة و 25 فرقة فرسان، وكان ذلك هو أعظم جيش عرفته أوروبا حتى ذلك الوقت. وقد تألف نصف هذا الجيش من عناصر غير فرنسية.

أما القوات الروسية، فكانت تتألف من ثلاثة جيوش، مجموع أفرادها 174 ألف فرد. يتمركز الجيش الأول، وعدده 126 ألفاً، بقيادة الجنرال بركلاي ديتوللي، غرب فيلنا Vilna، ويتمركز الجيش الثاني، وعدده 48 ألفاً بقيادة الجنرال الأمير بيير براجسيون Pierre Bagration، في فيلكسك، شرق نهر بوق، أما الجيش الثالث فكان في لوتسك.

عند المقارنة بين الطرفين، يظهر تفوق قوات نابليون العددي، ومن ثم كان هدف نابليون الاشتباك، في أسرع وقت ممكن، مع الجيوش الروسية قليلة العدد، والانفراد بكل منها على حدة، وتدميره. ووضع نابليون خطته للزحف إلى نهر نييمن؛ للوصول إلى المدينتين الرئيستين في روسيا، وهما سان بطرسبرج (لينيجراد)، وكانت العاصمة، وموسكو. ورأى نابليون أن يستدرج الجيوش الروسية إلى الدفاع عنهما، وكان واثقاً من أن مجرد احتلاله لأي من المدينتين سيجبر الروس على التسليم، ومن ثم يملي شروطه عليهم.

أما القيصر الروسي، فقد وضع ثقته كلها في مستشاره العسكري، الجنرال البروسي فول برنادوت، الذي كان لا يفهم الروسية، وكان يتعالى على الضباط الروس، ويعاملهم بكل ازدراء. وقد أشار فول على القيصر ببناء معسكر حصين، في مدينة دريسّا على نهر دفينا Dvina، على بعد 250 كم شمال نهر نييمن، يتسع لـ 120 ألف فرد؛ يصمدون جميعاً هناك، ويمنعون تقدم قوات نابليون نحو سان بطرسبرج أو موسكو. وكان فول يظن أن الفرنسيين ستتبدّد قواهم عبر الطرق الوعرة المقفرة، وأنّ على الجيوش الروسية أن تمتنع عن التصدي للفرنسيين، وتعمد إلى استدراجهم إلى المناطق التي سوف يغطيها الجليد. ومن ثم إذا وصلوا إلى دريسّا، فلن يتمكنوا من اختراقها.

ولو أخذ القيصر بهذه الخطة لكسب نابليون الحرب، ولكنه اعتمد خطة تقهقر جيوشه في انسحاب منظم، دون اشتباك، أمام جيوش نابليون التي تفوق ثلاثة أضعافهم؛ لاستدراجهم في القفار وبين الثلوج. أما نابليون، فقد رسم خطته لاستمرار الحرب مدة عامين: يقاتل الروس في العام الأول في ليتوانيا، وفي الثاني في موسكو. ومن ثم بدا له أن لديه متسعاً من الوقت للعناية بالاستعدادات الواجبة. وهكذا قسّم نابليون جيوشه إلى ثلاثة عشر فيلقاً، إضافة ثلاثة فيالق من الحرس الخاص. وعهد بقيادة هذه الفيالق ـ على الترتيب ـ إلى كل من: المارشال دافو Davout، والمارشال أودينو، والمارشال ناي Ney، والمارشال يوجين دي بيوهارين Eugene De Beauharnais، والمارشال بونياتسكي، والمارشال جوفيون سان سير، والمارشال رينيه، والمارشال جيروم نابليون ملك وستفالي، وهو شقيق نابليون، والمارشال فكتور مكدونالد، والمارشال بيير أوجيرو Pierre Augereau، والمارشال موران Morand، ،البرنس شوار تزنبرج. أما الحرس فتولى قيادة فيالقها الثلاثة كل من المارشال ليفيفر، والمارشال أدولف مورتييه Adolphe Mortier، والمارشال بسيار.

أما من ناحية الاستعدادات للإسناد اللوجستي، فقد اعتنى بها نابليون بدقة شديدة، استغرقت منه جهد 18 شهرًا؛ لمواجهة توفير طعام لجيوشه الجرارة في مناطق قليلة السكان، في بولندا وروسيا الشرقية؛ فقد أقام مستودعات ضخمة في دانتزيج، وماريانبورج، وثورن، وبلوك، ومودلين، ووارسو، وكلها قريبة من الحدود الروسية. وأعد لنقل المؤن منها ستة آلاف من العربات التي تجرها الخيول والأبقار، في 16 كتيبة، كما أعد مائة ألف من الخيل للفرسان والمدفعية، منها 1350 حصاناً لسحب المدافع. وأمر أن يحمل كل جندي حمولته من الذخيرة، ومعها جعالة طعام، يكفيه لمدة 15 يوماً. وهكذا تزود كل جندي بحقيبة ظهر بها قميص، وثلاثة أزواج من الأحذية، وسروالين من القماش السميك، وطماقات نصفية سوداء، وطماقات طويلة، وسراويل داخلية، وكيساً به 4.5 كجم من الطحين تكفي لمدة خمسة أيام، وخبز يكفي لمدة أربعة أيام، وبسكويت يكفي لمدة ستة أيام.

وصلت قوات نابليون إلى مدينة كوفنو في 23 يونيه 1812، على ضفة نهر نييمن، وعند أسوارها يصب نهر فيلنا في نهر نييمن. ووقف نابليون يتابع الموقف، فإذا بأرنب بري يمر بين قدميه، واختل توازن نابليون، فسقط على الأرض. فصاح أحد الجنود: "يا للشؤم". ونهض نابليون وخطب في جنوده: "إن الأقدار تسوق روسيا سوقًا، ولا مهرب أمامها من الهلاك المبين. أتظن روسيا أننا قد ضعفنا؟ ألسنا رجال أوستراليتز؟ أتريد منا أن نختار بين العار والحرب. لن نتردد إذن في الاختيار.

كانت النباتات في الحقول لا تزال خضراء، لا تصلح لعلف الخيول. وفي اليوم التالي 24 يونيه، انتشر وباء Colic، وهو مرض يصيب معدة الخيل؛ فيقضي عليها. وهكذا هلك ثلث خيول نابليون. وكان الحر شديدًا، فأصيب كثير من الجنود بضربة شمس، كما بدأ البعض يتسرب هاربًا، تاركاً الجيش، يبحث عن طريق نجاة، يعود منه إلى فرنسا.

أرادت القوات الفرنسية عبور نهر نييمن من عند قرية بونيمن، فأقامت ثلاثة جسور في مدى ساعتين، وعبر الجيش في ثلاثة صفوف، وكانت سعة نهر نييمن، عند هذه البقعة، نحو مائتي متر. وعندما تراجع الروس، دمروا الجسر الممتد فوق نهر فيلنا وأشعلوا فيه النيران؛ ومن ثم خاضه الفرنسيون سباحة، والروس يتجنبون الاشتباك، وينسحبون أمامهم. أمر نابليون بتحرك قوة ضاربة من الجيش، مؤلفة من ست فرق بقيادة المارشال دافو، والالتفاف والتوجه نحو فيلنا، عاصمة ليتوانيا، التي كان يقيم بها القيصر وكبار رجاله، في مناورة لتطويق الجيش الروسي الأول، الذي يقوده الأمير براجسيون، وسحقه. وزحف الفرنسيون إلى فيلنا، فوصلوها في 27 يونيه، ووجدوا الروس ينسحبون، بعدما أطلقوا بعض قذائف المدفعية، وأحرقوا المؤن والذخائر.

حين دخل نابليون فيلنا، وجد أن المؤن الروسية الباقية كلها قد أُتلفت. وتغير الجو؛ فهطلت الأمطار الغزيرة وهبت رياح باردة، وظل الحال كذلك خمسة أيام متوالية. وأخذ الفرنسيون يستولون على الطعام والعلف الموجود لدى القرويين. ونفقت آلاف أخرى من  الخيل؛ بسبب شدة البرد ونقص الطعام.

في 29 يونيه، أصدر نابليون أمره إلى المارشال دافو بالهجوم على مدينة منسك، وطلب من أخيه جيروم مساندة دافو؛ فأسرعا إليها، ولكن الروس كانوا قد انسحبوا تاركين المدينة.

كان أول شيء فعله نابليون، لدى دخوله ليتوانيا، هو تأليف حكومة مؤقتة لها، وعيّن المسيو بنيون معتمداً إمبراطورياً له. وهناك جاءه الجنرال بلاكوف، موفداً من قيصر روسيا، يطلب التفاوض والتفاهم، ويقول له إن القيصر لم يبادره بالهجوم، وإنه ما زالت هناك فرصة للتفاهم والسلام، بشرط جلاء الفرنسيين عن الأراضي الروسية. ورفض نابليون الاستجابة لمطالبه؛ إذ أدرك أن هدف القيصر هو كسب الوقت، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من فلول جيشه، أثناء انسحابها.

في 16 يوليه 1812 غادر نابليون فيلنا، وأمر دافو وجيروم بالتحرك لمطاردة الروس، الذين انسحبوا في اتجاه فيتبسك Vitebsk (على نهر دفينا)، وللحيلولة دون وصول القائد الروسي بجراسيون إلى منطقة دريسا، حيث يقيم الاسكندر، بينما اتجه نابليون إلى الالتفاف حول غابة بييسكي متجهاً إلى سمولنسك Smolensk (الواقعة على نهر دنيبر Deniéper) بهدف تطويق الروس. ولكن هذه الخطة فشلت؛ لأن جيروم (شقيق الإمبراطور) كان بطيء الحركة في تعقبه لبجراسيون، مما جعل الأخير يسبقه مسافة ثلاثة أيام. وقد اشتد غيظ نابليون من تصرف أخيه، وأرسل إليه رسالة يعنفه فيها بقوله: "إن تحركاتك البطيئة الفاشلة كانت السبب في إفلات بجراسيون وانسحابه. وإنك بتصرفك هذا سوف تضيّع ثمرة خططي التي وضعتها، وستجعل فرصة من أثمن الفرص تضيع من يدي في هذه الحرب، ومن ثم آمرك، من الآن، بضم قواتك إلى قوات دافو، والانضواء تحت لوائه، والتقيد بأوامره". وقد نفذ جيروم أمر أخيه، وضم قواته إلى قوات دافو، ولكنه ترك الحملة، وعاد أدراجه إلى فرنسا.

مما زاد من وطأة المصاعب على الفرنسيين أن القوزاق  Cossaeks كانوا يحومون حول القوات الفرنسية، ويشنون الغارات عليها. وعجزت خيول الفرنسيين عن ملاحقة خيول القوزاق، ولم يكن للفرنسيين سابق خبرة بالتعامل مع هذا النوع من الغارات.

في هذه الأثناء، كان بركلاي قد نجح في إقناع القيصر بالتخلي عن خطة قائده فول، والمبادرة بالفرار من دريسا وحصونها، والعودة إلى سان بطرسبرج، من خلال الانسحاب شرقاً إلى أن يجتمع الجيشان الأول والثاني. وظل بركلاي في مدينة فيتبسك ينتظر بجراسيون، إلا أن بجراسيون لم يتوجه إلى فيتبسك، وإنما غير وجهته؛ بسبب مطاردة دافو له، إلى سمولنسك، وأرسل يخبر باركلاي بذلك؛ فبادر إلى الانسحاب، تحت جنح الظلام، تاركاً فيتبسك متجهاً إلى أرخا للانضمام إلى بجراسيون. ووقع أثناء انسحابه بعض الاشتباكات الخفيفة، في يومي 25 و26 يوليه 1912، بين مؤخرة قواته وقوات موران ويوجين في أوسترونو، ولكن الجيش الروسي تمكن من الإفلات، عبر الغابات الكثيفة، المؤدية إلى فيتبسك. وهناك توقفت القوات الفرنسية، ولحق بها نابليون ورجاله هناك، وانضموا جميعاً، وبدأوا في اختراق الغابات، ودخلوا فيتبسك، ليلة 27 يوليه، فوجدوا الجيش الروسي قد انسحب منها. ولم يصدق نابليون، في بادئ الأمر، أن يكون الجيش الروسي قد تمكن من إخلاء رجاله بهذه السرعة، دون أن يخلف أثراً، وظن لأول وهلة أن في الأمر خدعة؛ فأمر رجاله بالاقتراب، بكل حذر، من المواقع الروسية.