إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات عسكرية / استيلاء نابليون على موسكو، (يونيه – ديسمبر 1812)





ليبزيغ 1813
معركة سمولنسك 1812م
حملة 1813 (1)
حملة 1813 (2)




استيلاء نابليون على موسكو

5. انسحاب نابليون من روسيا وفشل حملته

في 18 أكتوبر، وبعد أن باءت جميع محاولات نابليون، في التفاوض مع القيادة الروسية، بالفشل. ومع تصريح القيصر ألكسندر بقوله: لابد أن يختفي أحدنا عن مسرح العالم. وبعد أن بدأ الجليد يتساقط بغزارة من يوم 13 أكتوبر، وبعد أن كادت المؤن تنفد دون وجود وسيلة أخرى لتأمين الإمدادات، تشاور نابليون مع كبار رجاله: دافو وبرتييه وموران وناي ويوجين، وعرض عليهم فكرة التقدم إلى فيتبسك؛ لتهديد بطرسبرج، فعارضه قواده جميعاً، وقالوا إن الرجال منهكو القوى، والمعنويات في أسوأ أحوالها؛ فقد كان السكان الروس يقولون للجنود الفرنسيين: أنتم لا تعرفون طبيعة المناخ في أراضينا، بعد شهر ستتساقط أظفاركم من شدة الصقيع. وهكذا أمر نابليون بالاستعداد لمغادرة موسكو، والعودة إلى فرنسا، قائلاً: "لن تستطيع فرنسا احتمال غيابي كل تلك المدة بعيداً عنها".

في 19 أكتوبر 1812، غادر نابليون الكرملين مع قواته، وبدأ رحلة العودة إلى فرنسا، وهي المرحلة التي استغرقت نحو سبعين يومًا، للوصول إلى حدود روسيا الغربية، في نهاية ديسمبر 1812. وقد استخدم رجاله كل ما وجدوه من وسائل النقل في موسكو وضواحيها. وأمر نابليون الفصائل الأخيرة من رجاله، بقيادة أوتون، بنسف قصر الكرملين، وباقي المواقع والجسور والمستودعات، بإشعال 90 ألف كجم من البارود، وتم ذلك في 23 أكتوبر1812.

كان انسحاب نابليون بطيئاً، بسبب معداته الثقيلة. وحين علم كوتوزوف بخط تحرك الجيش الفرنسي، أسرع في 24 أكتوبر إلى مالوجار وسلاوتز، قبل وصول الفرنسيين إليها، فوجد الجنرال يوجين قد نصب معسكره فيها، فشن الهجوم على الفرقة الأولى بقيادة دلزون، وأنزل بها هزيمة سريعة سقط فيها دلزون قتيلاً، وعلى الرغم من صمود الفرنسيين، تمكن كوتوزوف من الاستيلاء على المدينة سبع مرات، وفي كل مرة يصمد الفرنسيون ويستردونها منه. فلما يئس منها، أسرع إلى كالوجا، وفي تلك الأثناء، كان القيصر في بطرسبرج قد أمر جيش شيشاكوف بالتحرك من الجنوب، على الحدود التركية، والانضمام إلى جيش تورماسوف، عند برست ليتوفسك، وقد بلغ مجموع الجيشين مائة ألف، والانتقال إلى دفينا ودنييبر لمواجهة قوات شوارزنبرج النمساوي، التي نقصت إلى 30 ألفاً؛ لسد طريق الانسحاب على الفرنسيين، وكوتوزوف يبذل قصارى جهده ليفاجأ نابليون على طريق كالوجا، ولكن نابليون، وقد أدرك أن المواجهة لن تكون في صالحه، بحال من الأحوال، فقد تحول إلى طريق سمولنسك.

كان الانسحاب يُشكل كابوساً مزعجاً، منذ بدايته؛ فقد كان الفرنسيون يتعرضون يومياً إلى غارات جماعات من خيالة القوزاق والبارتيزان Partisans يهاجمون مؤخرة جيوش الفرنسيين، وينهبون ويسلبون ويقتلون كل فرنسي شرد أو تأخر عن رفاقه. واضطر الفرنسيون إلى التخلي عن الجرحى وتركهم يواجهون مصيرهم، والتخلي كذلك عن صناديق العتاد والمؤن، بعد أن فتك الصقيع والجوع بالخيول، والروس خلفهم يطاردونهم. ولما كفّ الروس عن المطاردة عند نهر نييمن ـ وكان هو الحد الغربي للإمبراطورية الروسية في ذلك الوقت ـ كانت خسائر نابليون نحو نصف مليون فرد أو أكثر.

كان خط الانسحاب كالتالي:

في 27 أكتوبر، وصل نابليون إلى غوردينا، ومنها إلى بوروسك، ونزل في فيريا. وفي مساء 28 أكتوبر، وصل إلى قصر أوبنسكوبي، ثم في 29 أكتوبر، وصل إلى منطقة دير كولتسكوبي، وفي المساء، كان في غجات، ثم في 31 أكتوبر، وصل إلى ويازما، وأقام فيها يومين كاملين. ثم في 3 نوفمبر، تحرك إلى سلوكوفو، تاركًا يوجين ودافو وناي يدافعون هجمات الروس في ويازما، ويحمون مؤخرة القوات الفرنسية المنسحبة. كان الصقيع شديداً، والجليد يتساقط ويغطي الأرض، وساعات الليل تصل إلى 18 ساعة، ويتعثر الرجال، وبعضهم يغور به الجليد، فلا يُعثر له على أثر، والبقية يقاومون الجوع بأكل لحم الجياد، وبعض الطحين يذيبونه في الماء، ينامون في العراء، وبعضهم لا يستيقظ مرة أخرى. ففي كل صباح تتكدس الجثث، والباقون يتابعون السير مذهولين، يتوكئون على العصي، تلسع وجوههم العواصف الثلجية، وتتبعهم كلاب سوداء، أشبه بالذئاب، تفترس من يسقط منهم على الجليد، بعد أن أضناه السير، ولم تعد رجلاه تقويان على حمله، وهو يزحف على الجليد إلى أن يوافيه أجله المحتوم.

وصل نابليون إلى ميكاليوسكا، وهناك جاءته رسالة من الدوق دي بلون يخبره أنه، بعد التحامه بفيلق جوفيون سان سير، انسحب إلى جهة سنو، ولم يزحف إلى وتجنستن، لاسترجاع بولوتسك. فكان لهذا الخبر وقع سيئ على الإمبراطور، وكتب إلى المارشال فكتور يأمره بالإسراع في الزحف إلى وتجنستن، وغزو بولوتسك.

كاد الفرنسيون يتيهون في الطريق إلى سمولنسك، وسط الآلاف من جثث الخيل، التي قتلها البرد والجوع، وكادت مركبة نابليون تضل طريقها، وسط الجليد. ولدى اقترابهم من سمولنسك، فاجأتهم رياح شديدة البرودة من الشمال تلسع الوجوه، وتطيح بالأفراد.

في يوم 10 نوفمبر، وبعد مسيرة 20 يومًا، وصلت فلول الفرنسيين إلى سمولنسك، وقد وعد نابليون رجاله بأن يتركهم يستريحون فيها، وكانت سمولنسك هي المستودع الرئيسي للمؤن على خطوط المواصلات، ولكن فيلق المارشال فكتور كان متمركزا في المدينة، منذ شهرين، لحراسة القاعدة والمستودعات والمستشفيات، وقد استهلك الطعام كله، ولذا لم يجد نابليون ورجاله في المدينة شيئا يأكلونه.

في سمولنسك، جاءت الأخبار من باريس، كالصاعقة على رأس نابليون؛ فقد حدثت مؤامرة لقلب نظام الحكم، بقيادة الجنرال ماليه، الذي أدين في مؤامرة عام 1809، وأُودع السجن. وذلك أنه تمكن من الفرار من السجن، وذهب متنكراً إلى سوليه، قائد الفرقة العاشرة من الحرس الإمبراطوري، وأخبره أن نابليون قد مات في روسيا، وأنه قد تألفت حكومة جديدة، وعليه أن يسلمه قيادة الفرقة. وعقب ذلك، توجه إلى السجن، فأخرج منه شريكيه لاهوري وغيبال، وأمرهما بالقبض على الوزراء ومدير الشرطة، وإعلان حكومة جديدة. ولكن سرعان ما كُشف خبر المؤامرة، وقُبض على المتآمرين، وتم إعدامهم جميعاً، بعد مؤامرة استمرت نحو ست ساعات. ولم يشعر الشعب بشيء، لولا أن نُشرت أخبار المؤامرة في جريدة المونيتور.

تأثر نابليون بهذه الأخبار تأثرًا شديدًا، وأخذه الذهول من حدوث هذا الأمر، وأخذ يقول: "هل النظام الذي وضعته كان هشًّا إلى هذه الدرجة، وهل خبر موتي يعني زوال كل شيء، ويتمكن ثلاثة من السجناء من تقويض نظام بنيته، على مدى اثنتي عشرة سنة، ولا يفكر أحد في ولدي، نابليون الثاني".

خرج نابليون من سمولنسك، في 15 نوفمبر 1812، مسرعًا، والأخبار السيئة تتوالى عليه: فتارة يخبرونه أن يوجين تعرض هو وقواته لهجمات روسية متتالية، عند عبور نهر الفوب، وقد خسر 1200 جواد، و60 مدفعاً، وجميع المؤن والذخائر. وتارة يخبرونه أن دافو ورجاله حاصرهم الروس في ضواحي كراسنوي، واضطر إلى شق طريقه بالسلاح الأبيض، بعد خسائر فادحة، وأن ناي تمكن بصعوبة من الإفلات من قبضة كوتوزوف ورجاله، متسلّلا في جنح الظلام. وفوق ذلك، كان البرد قد اشتدت حدته، وهبطت درجة الحرارة إلى عشرين تحت الصفر. وعندما وصلوا إلى أورشا، لم يكن ما تبقى منهم سوى أربعة وعشرين ألف رجل.

راح نابليون يحرق العربات وأجهزة مد الجسور، محتفظاً فقط بالخيول لجرّ عربات المدفعية، واستدعى إليه فرق أودينو وفكتور، التي فشلت في صدّ لونجتستين عند دفينا. وكان الإمبراطور نابليون، خلال جميع تحركاته، يسير دائماً بين حرسه، والمارشال الدوق دستري يقود الفرسان، والدوق دي دنتزيك يقود المشاة. ووصل في 25 نوفمبر إلى بلدة ستودينكا. وهناك كان كوتوزوف يريد أن يجهز على بقية القوات الفرنسية، قائلاً: "لقد حانت ساعة نابليون، فهنا في مستنقعات نهر  البيريزينا Berezina سينطفىء الشهاب على مشهد من الجيش الروسي بأجمعه".

كلّف نابليون المارشال أودينو أبليه أن يبني جسراً فوق نهر بيريزينا، وقد تحطم الجسر مرتين، وظلوا يعملون طوال الليل، وهم في خضم المياه إلى صدورهم. وبعد يومين، أي في 27 نوفمبر، بدأ عبور فرق المشاة على الجسر، بينما أخذ الفرسان يعبرون بخيولهم. وأدى التزاحم والفوضى إلى سقوط مئات من الأفراد، الذين وطئتهم الأقدام، وهجم القوزاق على المؤخرة؛ فأسروا عددًا كبيرًا من الفرنسيين. ووصل كوتوزوف ورجاله، في ذلك الوقت، فهرع بقية الفرنسيين يتسابقون إلى الجسر للعبور، ولكن دون جدوى. فقد هاجمهم كوتوزوف ورجاله. ولما رأى نابليون ذلك، ولكي يحول دون استخدام كوتوزوف للجسر واللحاق بهم، أمر بإشعال النار فيه، وكانت نتيجة ذلك أن وقع 12 ألف فرنسي أسرى في أيدي الروس.

توجهت فلول الفرنسيين نحو فلنا، ومن خلفهم كوتوزوف ورجاله يتعقبونهم. وفي 4 ديسمبر، وصل الفرنسيون إلى مشارف مدينة سمورجوني، التي تبعد مسيرة ثلاثة أيام عن فلنا. وهناك جمع نابليون مستشاريه، وعلى رأسهم يوجين وموران، وأبلغهم عزمه على ترك الجيش، والعودة سرًّا إلى باريس للدفاع عن الإمبراطورية؛ بعد الفشل الذريع والخسائر الفادحة في روسيا. واستقل عربته برفقة كولنكور ودوروك ولوبو مسرعاً إلى فرنسا، تاركاً القيادة من بعده لموران.

لم يعلم الجيش بسفر نابليون، إلا بعد الوصول إلى فلنا، وفات نابليون أن يأمر موران وبرتييه بالبقاء في المدينة، لتنظيم قواتهما، ومن ثمّ غادراها على وجه السرعة إلى كونو، فوصلا في 12 ديسمبر إلى المكان نفسه، الذي شهد، قبل ستة أشهر، نصف مليون رجل يعبرون نهر نييمن، وهاهو الآن يشهد مجموعات ضئيلة من أناس خارت قواهم، مذعورين، لا يصدقون أنهم يمكن أن ينجوا بحياتهم، تخلوا عن جرحاهم ومدافعهم وأموالهم، يتقدمهم موران، وهو يصرخ أمام ضباطه: "من المحال، بعد الآن، أن نسير في ركاب إنسان فقد صوابه، ولا أمل في الخلاص على يديه..!"

ثم ما لبث موران أن ترك القيادة ليوجين، وفرّ هو إلى إيطاليا.