إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات عسكرية / الإستراتيجية والاقتراب غير المباشر





مناورة الحيثيون بقواتهم
مبادئ/ قواعد الإستراتيجية
ميدان القتال وتمركز الجانبين
أسلوب الموقعة/ المعركة
معركة اليرموك
معركة باتل إكس
معركة بدر الكبرى
معركة جوكيمالا
معركة حطين
الهجوم الخاطف لقوات الحيثيون
المجال القومي للإستراتيجية
الإستراتيجية عبر العصور
المسير إلى أرض فينيقيا
الاقتحام المصري لخط بارليف
التسلل الإسرائيلي
العملية (ضربة صهيون)
العملية العين (حوريب)
بناء السياسات والإستراتيجيات العسكرية
يوم أرماث ويوم أغواث
يوم أعماس ويوم القادسية
عملية عاصفة الصحراء
عملية قادش المعدلة
عناصر القدرة الإستراتيجية للدولة
فكرة العملية الهجومية




الإستراتيجية والاقتراب غير المباشر

المبحث الثالث

إستراتيجية الاقتراب غير المباشر ـ في عصر الثورة الزراعية

(من العصور القديمة حتى القرن السابع عشر)

يعد المجتمع البدائي الأول، منذ عام 50.000 ق.م، هو أول مجتمع ظهر في تاريخ البشرية، وأطولها في تاريخ تطور الإنسان، وحكمت المجتمعات حينها العلاقات القبلية، ولم تظهر الحروب بمفهومها الشامل، وكانت دوافعها غرائزية من أجل البقاء وحماية الوجود، وتطورت فلسفة الحياة. وعندما ظهرت الملكية الخاصة للأرض ووسائل الإنتاج، وتطور استغلال الإنسان للإنسان، برز معها ظاهرة الصراع من أجل التوسع والدفاع عن الأرض، وظهر معها ما يطلق عليه "الديمقراطية العسكرية"، وهي تنظيم خاص لخدمة الحرب، وكان مجلس الزعماء هو العنصر الرئيسي في تطبيق هذه الديمقراطية، وتطور الأمر إلى الجيوش المحترفة، وتطورت أسلحة القتال، وظهرت رماح الطعن والقذف والسيوف والخيل وعربات القتال، وبدأت تكتيكات المعركـة في التطـور، فظهرت المرونة وخفة الحركة والقوات الخفيفة والثقيلة.

عندما ظهرت ظاهرة الصراع، منذ 12.000 عام ق. م، كان ذلك ميلاد عصر جديد في تاريخ البشرية، وأطلق عليه عصر الزراعة، أو الثورة الزراعية، لاستقرار المجتمعات واعتمادهم على الزراعة، أطلق عليه المحللون عصر الموجة الأولى "The 1st Wave".

أولاً: حروب العصور القديمة

على رغم أن ظاهرة الصراع المسلح بين المجتمعات والدول، كانت موجودة منذ عصر الثورة الزراعية، الموجة الأولى، فإن التاريخ لم يسجل معظمها، أو ربما تم تسجيله ولم يتم اكتشافه. ومنذ عام 6000 ق. م. سجل التاريخ العديد من المعارك القديمة، والتي ارتبطت في معظمها بعوامل البيئة الجغرافية، من حيث الموقع الجغرافي والرخاء الاقتصادي المرتبط بالزراعة، وعلى رغم ذلك فإن المعلومات المسجلة على البرديات، وفي المعابد القديمة، والتماثيل والآثار القديمة، تُعد محدودة في تفاصيلها عن سير أحداث هذه المعارك.

    منذ عام 4000 ق. م. مرت الحضارة القديمة بمراحل ازدهار واضمحلال ارتباطاً بالحروب، التي كانت سبباً في تطور الزارعة وصناعة السلاح، وكانت الجندية مظهراً مشرفاً للشعوب، وكان فن الحرب يعتمد على الفطنة الفطرية للقادة والزعماء، وكانت المشاة تحتل القوة الرئيسية في الجيوش، التي تميزت بالتنظيم العسكري والضبط والربط العالي، وسجل التاريخ العديد من الأفكار الإستراتيجية للقادة القدماء، واستخدامهم لإستراتيجية الاقتراب المباشر وغير المباشر، وأساليب الخداع، على رغم عدم انتشارها خلال تلك العصور، حيث كان يحكم الحروب عندها ما يسمى "بقانون المعركة"[1]، وهو قانون يعبر في مجمله عن إستراتيجية الاقتراب المباشر.

وإذا تعرضنا للحضارة المصرية القديمة، كمثال، نجد أن هناك العديد من فراعنة مصر، طبقوا إستراتيجية الاقتراب غير المباشر، وكان أبرزهم الملك سيرخيت عند غزوه لسيناء عام 3370 ق.م.، والملك زوسر حوالي عام 2900 ق.م. في حملاته لصد غزوات البدو من الشرق والزنوج من الجنـوب، وأحمس في حملتـه لطـرد الهكسوس من مصر عام 1580ق. م.، وتحتمس الثالث في إستراتيجيته الكبرى، عندما وجه ضربة رئيسية إلى البلاد الآسيوية، في معركة مجدو عام 1447 ق.م، بقيادته، وضربة أخرى إلى الحدود المتاخمة لمصر الجنوبية، مؤخرة مصر، وتطبيقه لإستراتيجية الاقتراب غير المباشر في مرحلة التقدم إلى مجدو، واختياره الطريق الصعب الأقصر عبر الجبال، وتجنبه لمحاور التقدم الأخرى السهلة والمنبسطة، والذي حقق له المفاجأة ضد قوات الحيثيين وحلفائهم، وحصاره لحصن يافا بدلاً من قتال العدو فيه، وتظاهره بالتسليم، لجذب العدو خارج الحصن، ثم تدميره في الأرض المفتوحة، وبرز أيضا عند قتاله للعدو في مجدو، واتخاذه تشكيل قتال يحقق حصار العدو، وقطع خطوط مواصلاته من الشمال، وحرمانه من أي إجراءات وتعزيزات من قواته في الشمال، أو إمكانية انسحاب العدو شمالاً. وهناك أيضاً رمسيس الثاني في حملته على قادش عام 1285 ق م، التي تعبر عن عظمة الفكر الإستراتيجي، سنختار لهذه الحملة لتكون نموذجاً عن تطبيق إستراتيجية الاقتراب غير المباشر، نظراً لما تتميز به من تفصيلات مسجلة على وثائق أصلية صحيحة.

1. عملية قادش (عام 1285 ق.م.)

أ.  تُعد عملية قادش، من وجهة نظر فن الحرب، مكملة لما قام به تحتمس الثالث عام 1447 ق. م.، ومن المعارك الهامة في التاريخ، حيث قام رمسيس الثاني ببناء جيش قوى قوامه حوالي 30.000 رجل + 5000 مركبة، لم يعرف التاريخ هذا الحجم من قبل، مشكلاً في أربع فرق (أمون، رع، بتاح، سوتخ)، أما قوات الحيثيين فكانت حوالي 20.000 رجل +3500 مركبة، مشكلة في كتائب وسرايا.

ب. المراحل الرئيسية

(1) مرحلة الإعداد للحرب

(أ) تجلى الفكر الإستراتيجي، عند رمسيس الثاني، عندما قام بحملة عام 1286ق م، قبل الحملة الرئيسية على قادش بعام، لتدمير العدو في منطقة نهر ليسيوس (حوالي 12كم شمال بيروت) بهدف تجهيز قاعدة عمليات متقدمة لخدمة عملياته المقبلة.

(ب) إعلان التعبئة العامة، وتجميع الجيش في سهول مصر.

(2) مرحلة التقدم إلى فينيقيا (اُنظر شكل المسير إلى أرض فينيقيا)

عبرت الحملة المصرية حدود مصر من جنوب العريش ـ بئر سبع ـ حبرون ـ غزه ـ مجدو ـ صور وصيدا، ثم اتجهوا شرقاً عبر أراضى صعبة في جبل لبنان، حتى وصلوا إلى منطقة وادي العاصي ثم قادش في اليوم الثلاثين للحملة، وكان معدل السير حوالي 20 كم/ يوم.

(3) مرحلة إدارة العملية: (انظر شكل مناورة الحيثيون بقواتهم) و(شكل الهجوم الخاطف لقوات الحيثيون)  

(أ) قام الحيثيون بالمناورة بقواتهم شرق قادش، وقام رمسيس بإقامة معسكر لفرقة آمون شمال شرق قادش، واستمرار تقدم فرقة رع جنوب غرب قادش، مع وجود فرقة بتاح جنوب شابتون، وفرقة سوتخ متقدمة في العمق.

(ب) قام الحيثيون بهجوم خاطف بعربات القتال ضد فرقة رع المتقدمة، وواصلوا هجومهم شمالا في اتجاه فرقة آمون، وقرر رمسيس القيام بهجوم مضاد ناجح في اتجاه الغرب، وفشل الحيثيون في تنفيذ ست هجمات مضادة، وبعد وصول فرقة بتاح تحسن موقف رمسيس، وأمكن هزيمة العدو وإجباره على الدخول في حصن قادش. واستمر رمسيس في حصار حصن قادش، وعقد صلحاً معهم بعد حوالي 18 عاماً، صلح المساء.

ج. تطبيقات إستراتيجية الهجوم غير المباشر

(1) إن ما قام به رمسيس الثاني في الاستيلاء على قاعدة عمليات متقدمة بالقرب من بيروت، قبل عملية قادش الرئيسية بعام، يعد أحد الأساليب الإستراتيجية غير المباشرة، لتحقيق أهداف إستراتيجية مباشرة وغير مباشرة، من حيث كونها قاعدة ارتكاز للعمليات المقبلة، تكتيكياً وإدارياً، وعاملاً معنوياً ضد الخصم.

(2) اختيار رمسيس الثاني طرق تقدم صعبة في الوصول إلى منطقة مجدو وعبور المنطقة الجبلية شرق جبيل، يعد أسلوب اقتراب غير مباشر لتحقيق المفاجأة.

(3) استخدام الحيثيين عامل الخداع في تضليل رمسيس الثاني، بإعطائه معلومات خاطئة عن تحرك قواتهم، وأسلوب المناورة الميدانية المستورة لقوات الحيثيين من شمال قادش إلى شرقها، وتوجيه ضربة جانبية لقوات رمسيس كل ذلك يعد عملاً بارعاً لنجاح أعمال القتال.

(4) استخدام رمسيس الثاني جيشاً كبيراً، وتشكيله في فرق كبيرة مزودة بأحدث الأسلحة اعتماداً على قوة الصدمة وإرهاب الخصم.

(5) على رغم حصار فرقة آمون شمال شرق قادش بواسطة الحيثيين، قام رمسيس بإعادة تجميع قواته الخفيفة الحركة وتوجيه ضربة مضادة قوية في مواجهة ضيقة إلى جناح الحيثيين الضعيف، والتي غيرت مجرى الحوادث لصالح رمسيس.

(6) لجوء رمسيس إلى حصار قادش بعد نهاية العملية، يعد عملاً إستراتيجياً غير مباشر للوصول إلى صلح مع الأعداء، بدلاً من تدميرهم.

2. الحروب الإغريقية (500 ـ 323) ق.م.

ارتبط تكوين وظهور الجيش في أثينا، بما حدث من تحول اجتماعي وعسكري في المجتمع خلال القرن السادس ق.م.، ويرجع عصر المدن، التي اعتبرت نفسها دولة مستقلة في اليونان، إلى القرون (8 ـ 6) ق.م. وكان أقوى هذه المدن أثينا وإسبرطة، وشهدت القرون (5ـ4) ق.م. عظمة الحضارة اليونانية عقب هزيمة الفرس. وظهر تفوق الإغريق في فنون الحرب والتنظيمات العسكرية، والإبداع في تطبيقات الاقتراب غير المباشر، على مستوى الإستراتيجية والإستراتيجية العليا.

أ. موقعة ماراثون: (490 ق.م.)

(1) تعرضت اليونان لغزو فارسي من الشرق، في منطقة سهل ماراثون، على مسافة 28كم من أثينا، وكانت فكرة الجيش الفارسي مبنية على عملية إنزال عند ماراثون لتكون جزءاً من عملية برمائية، وضعت لجذب الجيش اليوناني، بعيداً عن أثينا، والاستيلاء على أثينا بالطابور الخامس من داخلها، إضافة إلى قوة فارسية أخرى أنزلت في منطقة فلاريوم.

(2) وعلى رغم تفوق الفرس في الإمكانيات، فإن القوات اليونانية ألحقت بها هزيمة كبيرة، بفضل فن الحرب عند اليونان، وتطبيقاتهم لإستراتيجية الهجوم غير المباشر:

(أ) نجاح الإغريق في إضعاف التفوق الفارسي في الخيالة، باستغلال الخواص القتالية للقوات، خاصة المشاة الثقيلة.

(ب) قيام الإغريق بهجوم من الجناحين، ضربات جانبية، باستخدام قوات خفيفة الحركة من المشاة والخيالة، ومدربة جيداً على الاقتحام، مما حقق تطويق القوات الفارسية وحسم المعركة لصالح الإغريق.

ب. الحرب البلوبونيزية: (431 ـ 404) ق. م

(1) استمرت الحرب مدة 27 عاماً، وكان النزاع على السيادة بين أثينا وإسبرطة، وانعدم فيها تحديد الأهداف الإستراتيجية.

(2) كانت إستراتيجية قائد جيش أثينا تعتمد على تجنب الاشتباك البري، واستخدام التفوق البحري اليوناني بشكل أفضل، وقتل رغبة العدو الهجومية، بسلسلة من الإغارات التخريبية، وتُعد في حد ذاتها إستراتيجية عالية، هدفها تفتيت قوة العدو باستمرار، حتى يصل إلى مرحلة العجز عن رد الفعل. ولم تنجح القوات اليونانية في تحقيق النصر، لانتشار الطاعون في أثنيا.

(3) وفي مجال الإستراتيجية العليا للهجوم غير المباشر، قمت القوات اليونانية بعملية ضد سيراكوز مفتاح صقلية، التي كانت مصدر المواد التموينية للإسبارطيين وذلك في إطار التهديد الاقتصادي والمعنوي للعدو.

كان من نتائج الحرب البلوبونيزية سقوط إمبراطورية أثنيا، وبداية مرحلة جديدة في تاريخ اليونان، واستقلت طيبة عن إسبرطة، وبدأت طيبة تأخذ طريقها إلى القمة بفضل "إيبامينونداس" القائد الطيبي، الذي أحدث ثورة في إستراتيجية الهجوم غير المباشر ووضع قواعد قتالية عظيمة، مازالت مستخدمة حتى الآن، ومن أمثلتها:

(1) استخدام أكثر من محور للتقدم والاقتراب، محاور متفرقة، والاقتراب إلى الهدف، بما يحقق إخفاء وخداع العدو عن الهدف الرئيسي، وأيضاً تحرك القوات في اتجاه معين ثم التحول نحو الهدف الرئيسي ـ مفهوم الاقتراب غير المباشر إلى الهدف.

(2) التوزيع غير المتساوي للقوات على المواجهة، إذ لا يمكن أن تكون قوياً في كل مكان، وإذا حاولت ذلك فستكون ضعيفاً في كل مكان.

(3) حشد القوات في اتجاه الضربة الرئيسية، لإحراز التفوق على العدو في هذا الاتجاه، أي تركيز التجميع الرئيسي للقوات في الاتجاه أو القطاع الحاسم.

بعد وفاة إيبامينونداس عام 362 ق.م.، بدأ زوال القوة السياسية لطيبة، وفرضت مقدونيا سيطرتها على اليونان، بفضل فيليب الثاني (382 ـ 336) ق.م. الذي كان بارعاً في الخداع، وإخفاء أهدافه الإستراتيجية، عند تحريك القوات، المناورة والمفاجأة للقوات على المستوى الإستراتيجي والتكتيكي، وحققت إستراتيجيته للاقتراب غير المباشر، سيطرته على اليونان وبلاد الفرس، واستكمل فتوحاته ابنه الإسكندر المقدونى، ذو العبقرية العسكرية الفذة، والانتصارات السياسية والعسكرية الهائلة.

استمر الغزو المقدوني للشرق عشرة أعوام (334 ـ 324) ق.م. وخلال الغزو قطع الجيش المقدوني (20) ألف كم، وخاض العديد من المعارك، وتجلت إستراتيجية الهجوم غير المباشر في معركة جوكيمالا (331)ق.م، (اُنظر شكل معركة جوكيمالا)، حيث انهزم فيها الفرس على رغم تفوقهم المضاعف في قوتهم العسكرية. تلخصت فكرة الموقعة للإسكندر في توجيه الضربة الرئيسية إلى الجناح الأيمن بواسطة فرسان مختارين بالتعاون مع ضربة المشاة الثقيلة بالمواجهة وتدمير العدو الفارسي، وبرز في الموقعة الآتي:

(1) طبق الإسكندر إستراتيجية إيبامينونداس الخاصة بالتوزيع غير المتساوي للقوات على المواجهة، وتركيز الجهود في اتجاه الضربة الرئيسية.

(2) ظهر في الموقعة التعاون الوثيق بين المشاة والفرسان والوحدات المختلفة لتشكيل القتال، وأيضا التعاون الوثيق بين الضربات الأمامية، قوات الهجوم بالمواجهة، والضربات الجانبية. وزاد الخط الثاني من عمق تشكيل القتال، وهذا ما يمكن اعتباره صورة من صور خلق النسق الثاني والاحتياط.

3. الحروب الرومانية

لقد كانت روما أقوى دولة في البحر المتوسط، وكان فن الحرب الروماني على مستوى عالٍ من التطور، ولعبت الحرب بين روما وقرطاجنة[2]، وخاصة معارك هانيبال، دوراً حاسماً في تاريخ أوروبا.

لقد كان هانيبال قائداً بارعاً عندما غزا إيطاليا (218ق.م.)، في اختياره للطريق البرى الطويل والصعب وغير المباشر، بدلاً من الطريق البحري المباشر. وتجنبه الاستيلاء على روما، لما تتميز به من تحصينات قوية، وقرر عزلها وخلق حلف معادٍ لروما، من مدن جنوب إيطاليا والوصول إلى شواطئ البحر المتوسط ليحقق الاتصال بحراً بقرطاجنة. ويبرز لنا أيضاً إستراتيجية هانيبال في معركة كاني (216) ق.م. ضد الرومان، في توجيه الضربات الجانبية الحاسمة، وضربات مؤخرة المشاة الرومانية بفرسانه الثقيلة، وهذا ما حقق لهانيبال حصار وتدمير الجيش الروماني كاملاً.

ومع مضي الزمن تحسن موقف الرومان، وتم إجراء إصلاحات واسعة للقوة العسكرية (107) ق.م. ونتيجة للصراعات الداخلية للإمبراطورية الرومانية تولى الحكم قيصر وبومبي، وكراسس، وفي عام (59) ق.م. أصبح قيصر قنصلاً عاماً، ونشأ صراع بين قيصر وبومبي في معركة فارسالي عام (48) ق.م، التي ظهر فيها إستراتيجية الاقتراب غير المباشر من قيصر وقواده في مجال الاحتفاظ بالاحتياطي واستخدامه، حيث احتفظ بقوتين احتياطيتين في العمق، وكانت مهمته الرئيسية تدمير العدو، وذلك بالمناورة بالاحتياطي وتغيير اتجاهه لمواجهة فرسان بومبي، مما حقق عامل المفاجأة وحسم الموقف، وكانت اهتمامات قيصر يدخل فيها المحاولات المستمرة لتدمير معنويات الوحدات المعادية.

4. الحروب البيزنطية: (527 ـ 1068م)

بعد وفاة يوليوس قيصر، بدأت الإمبراطورية الرومانية في الاضمحلال، الذي استمر خمسة قرون، وتابعت الإمبراطورية الرومانية بقاءها تحت شكل آخر لمدة نحو 1000عام. ويعود طول حياة الإمبراطورية البيزنطية إلى قسطنطين الأكبر، الذي نقل العاصمة من روما إلى بيزنطة، القسطنطينية عام 330م، وتحول العالم الروماني عام 364م إلى إمبراطورية في الشرق، وأخرى في الغرب. في أواسط القرن السادس قام قادة بيزنطة أيام جوستنيان بالاستيلاء على أفريقيا وإيطاليا وأسبانيا الجنوبية، وانتصر على الفرس والفاندال والغوط الشرقيين.

إن انتصارات جوستينيان تعود إلى قادة جيوشه بيليزير ونارسيس، وكان بيليزير له فكر وإستراتيجية خاصة في مجال الاقتراب غير المباشر، وحقق انتصارات كثيرة في المعارك. واشتملت أفكاره على الآتي:

أ. كانت إستراتيجيته دفاعية هجومية

(1) نظراً لضعف قوة جيشه، كان هناك تفوق دائم لأعدائه بنسبة 2 إلى 1، ووصلت أحياناً إلى نسبة 10 إلى 1 لصالح أعدائه، في كل المعارك، استخدم الدفاع بشكل نموذجي، واستغل الأرض لتأمين الأجناب، أو حفر الخنادق في مواجهة الدفاع لإجبار الخصم على الهجوم من اتجاهات محددة طبقاً لخطته.

(2) صد واستنزاف هجمات العدو، والتأثير على روحه المعنوية.

(3) استغلال سرعة الحركة، معظم قواته من الخيالة، وشجاعة قواته في توجيه الضربات الجانبية للعدو.

ب. الضغط على الخصم، وتدمير خطوط مواصلاته في العمق الإستراتيجي، وطبق بيليزير هذا الأسلوب في معركته ضد الفرس عام 540م، عندما كان القتال على شاطئ البحر الأسود، قام بيليزير بالتعاون مع حلفائه بتوجيه إغارات قوية على الفرس وخطوط مواصلاتهم، على طول نهر دجلة حتى حدود أشور.

ج. لجأ إلى الخداع في بعض معاركه؛ لإيهام الفرس بقوة جيشه واحتلاله أوضاعاً يهدد جنب الفرس مادياً ويؤثر عليهم معنوياً، مما أدى إلى انسحاب جيش الفرس بأقل تكاليف.

د. الدعوة إلى تسوية النزاعات بالمباحثات السلمية، واستبدال السلم بالحرب، وذلك في إحدى معاركه عام 530م مع الفرس، على رغم تحصنه وتجهيز الجيش للمعركة، وكان ذلك قبيل يوم نصره الكبير الأول.

كان نارسيس أحد قواد بيليزير ، وأظهر مهارة فائقة في معاركه، وحصل على جيش قوي مجهز تجهيزاً جيداً من جوستنيان ، ولم يختلف كثيراً عن بيليزير في تطبيقاته لإستراتيجية الاقتراب غير المباشر، وتوالى القادة على الإمبراطورية البيزنطية وأخذت بين الانكماش والاتساع، إلى أن تلاشت عام 1068م على أيدي الأتراك.

ثانياً: الحروب الإسلامية (العام الأول الهجري 622م / عام 10هـ 62م)

إن المنهج الإسلامي، وفر للقوة العسكرية الإسلامية، قوة روحية/ معنوية، وقوة فكرية، وقوة مادية، إضافة إلى قيمة مضافة من القوة الروحية للمسلمين، وعلى رغم أن فن الحرب الإسلامي، بدأ متواضعاً فإنه تطور بشكل سريع ورائع مع بداية الحروب الإسلامية، حيث قاد الرسول r، وأصحابه حوالي (75) مهمة قتالية تكتيكية وتعبوية وإستراتيجية، على مدى عشر سنوات، وضح خلالها أسس فن الحرب، وقد برز فيها دور السياسة العسكرية الإسلامية في تحقيق الأهداف، وتنوع أساليب الإستراتيجية العسكرية، وتطور فن وأساليب القتال، وتفتيت وعزل القوة المعادية، والحرص على كسب سلام أفضل، يسمح بتوسيع قاعدة الإسلام.

بعد هجرة الرسول r، إلى يثرب، واستقرار أمر الإسلام بها، فرض الله عليهم الجهاد، فبدأت مرحلة جديدة في التاريخ الإسلامي. وكانت الغزوات والسرايا، بلغت (28) غزوة، وبعث (47) سرية، وكانت الغزوات بقيادة الرسول r، أما السرايا فكان يقودها أحد قادته، وكانت الأعمال القتالية للغزوات تبدأ بدفع السرايا للعمل بصفة دوريات للاستطلاع، أو أعمال الإغارة والكمائن، أو الدعوة الإسلامية. وكان الهدف منها يشمل الآتي:

·   استطلاع الأرض وتحديد الطرق والمسالك، التي تؤدى إلى المدينة ومكة، وأماكن آبار المياه، وتحديد الهيئات الحيوية المسيطرة على طرق الاقتراب المختلفة.

·   استطلاع حال القبائل، ودعوتها للإسلام، أو عقد تحالف وصداقة معها.

·   إشعار المشركين واليهود، بقوة المسلمين، وقدرتهم على صد أي عدوان ـ الردع المعنوي.

·   تأمين قاعدة الإسلام في يثرب، من أي أعمال مفاجئة قد يقوم بها اليهود والمشركون.

وكان للحروب الإسلامية، طابعها المميز، في تطبيق إستراتيجية الهجوم غير المباشر بأساليب مختلفة، ومن أمثلة ذلك:

أ. لا تعزيز للفشل

وظهر في غزوة الطائف (شوال 8هـ / فبراير 630م) عند قيام الرسول r، رفع الحصار عن حصون الطائف، بعد أن شن المسلمون عدة هجمات غير ناجحة.

ب. التخلص المنظم من العدو المتفوق تجنبا للهزيمة

أقر الرسول r، تخلص سرية خالد بن الوليد (جمادى الأولى 8 هـ ـ سبتمبر 629م) في مؤتة، من عدو متفوق عددياً. ودفاع الرسول، صلى الله عليه وسلم عن خالد بن الوليد الذي نظم هذا التخلص، ووصفه بأنه كرُّ، أي ارتداد منظم، وليس فراً.

ج. المناورة بالجهود وتركيزها ضد مراكز ثقل العدو

وتم تنفيذ هذا الأسلوب في العديد من العمليات الإسلامية، خاصة غزوة خيبر (1/7 هـ ـ 5/628م).

د. مفاجأة العدو بأساليب قتالية جديدة

برزت في أعمال قتال المسلمين في موقعة بدر (رمضان 2 هـ ـ مارس 624م)، وغزوة الخندق والأحزاب (شوال 5 هـ ـ مارس 627م).

1. موقعة بدر الكبرى: (رمضان 2 هـ ـ مارس 624) (اُنظر شكل معركة بدر الكبرى)

أ. قام الرسول r، بدفع عدد (8) سرايا في اتجاهات مختلفة قبل معركة بدر، بهدف الاستطلاع، وتهديد طرق تجارة قريش، ومطاردة المشركين.

ب. كان الهدف من حملة الرسول r، في البداية، هو الاستيلاء على أموال أحد القوافل، وهزيمة قريش.

ج. خرج المسلمون من المدينة في تشكيل مسير، يعد قمة في تطور فن الحرب، يشمل حرس مقدمة، وقوات رئيسية، وحرس مؤخرة، ويؤمن تشكيل التحرك بدوريات استطلاع أمام القوات وعلى أجنابها.

د. تمركزت قوة المسلمين في منطقة شرقي بدر، وأصبحت المياه تحت سيطرتهم، وفي مكان يسيطر على ميدان قتال ورمي مناسب، والمنطقة تُعد شبـه مضيق لا يسمح بالتطويق من الأجناب، وبذلك تنعدم ميزة الفرسان المشركين خاصة في ظروف تفوق المشركين، كانت المقارنة في المقاتلين 0.3 إلى 1 وفي الخيل 0.01 إلى 1، وفي الإبل 0.2 إلى 1 في صالح المشركين.

هـ. تشكيل القتال

(1) المسلمين

في نسق واحد، من صفوف متراصة منظمة، أشبه بصفوف المسلمين في الصلاة، وتعمل في ثلاث كتائـب، والاحتفـاظ بفصيلـة احتياط، وتؤمن مركز القيادة.

(2) المشركين

تشكلت في قلب على قسمين من المشاة، وميمنة وميسرة من الفرسان.

و. كانت خطة المسلمين، عدم البدء بالهجوم، والثبات وصد هجوم المشركين، مع عدم استخدام السهام؛ إلا بعد أن تدنو قوات العدو، ثم تنهال السهام عليهم بكثافة عالية، وتصيب أكبر عدد منهم، وتضعف من قوتهم، كما أن بقاء المسلمين في ثباتهم يوفر لهم تأمين الأجناب.

ز. وبدأت المعركة، ونجح المسلمين في صد الهجوم المعادى أكثر من مرة، وعندما فشلت هجمات المشركين وزادت خسائرهم وفتر حماسهم، تحول المسلمين إلى الهجوم، فتفرق المشركون وولوا بالفرار ـ على أثر الهزيمة ـ إستراتيجية دفاعية هجومية.

ح. تطبيق إستراتيجية الهجوم غير المباشر

(1) الاختيار المناسب للأرض، من حيث السيطرة على مصدر المياه، وتأمين أجناب القوات.

(2) اختيار التشكيل المناسب للمعركة، والوقت المناسب للتحول للهجوم بعد نجاح المسلمين في صد العدو، وهو تعبير عن إستراتيجية دفاعية هجومية، واعتبر أسلوباً جديداً للقتال في تلك الفترة.

2. الفتوحات الإسلامية (عام 11 هـ ـ 632م/ عام 100هـ ـ 718م)

انطلقت الفتوحات الإسلامية، أو ما أطلق عليها معجزة الفتوحات لضخامتها، من نطاق الإستراتيجية المحدودة بشبه الجزيرة العربية، إلى آفاق إستراتيجية عالمية، استطاع المسلمون أن يقهروا إمبراطوريتي الفرس والروم، ووصلت الفتوحات الإسلامية من الصين شرقا حتى حدود فرنسا غرباً. وتصاعد مد الفتح الإسلامي في عهد عمر بن الخطاب t، وأوائل عهد عثمان بن عفان  t، حتى أصبح الفتح طوفاناً عارماً.

حظيت مرحلة الفتوحات الإسلامية، على العديد من تطبيقات إستراتيجية الهجوم غير المباشر، في شكلها المادي أو المعنوي كالآتي:

أ. المفاجأة الإستراتيجية والاقتراب غير المباشر

في مسيرة خالد بن الوليد من العراق إلى الشام، معركة اليرموك 15هـ/ 636م (اُنظر شكل معركة اليرموك)، حيث انطلق من الحيرة بالعراق إلى عين القمر ـ قراقر ـ سوى ـ تدمر ـ بصري، وذلك عبر أراضٍ صعبة، وقضى مسيرة (18) يوماً، ومتجنباً المسير على الطريق السهل من اتجاه الجوف، فحقق بذلك مفاجأة الروم.

ب. شل رماة العدو

في موقعة ذات العيون، حاصر خالد بن الوليد، قوات الفرس في حصن الأنبار، والذين حفروا خندقاً يمنع وصول المهاجمين إليهم، وركزوا رماتهم المهرة في مشارف الحصن، عندها أمر خالد رماته بتركيز رشقاتهم على عيون رماة الفرس، فأصابوا ألف عين منهم، مما سهل له التقدم نحو الحصن واحتلاله، وتغلب على الخندق، بعد نحر الجمال الضعيفة، ووضعها في الخندق، وجعل أجسادها جسوراً عبر المسلمون عليها.

ج. استدراج العدو

استخدم هذا الأسلوب، النعمان بن مقرن في معركته ضد الفرس في نهاوند، حيث تحصن الفرس داخل المدينة، وتظاهر النعمان بالانسحاب، وعند مطاردة الفرس لهم، قام النعمان بالتحول للهجوم وهزيمتهم في العراء.

د. الحصار

عند قتال عمرو بن العاص للروم في الإسكندرية، وتحصن الروم داخلها، فضل عمرو حصار المدينة، لمدة أربعة أشهر، سقطت بعدها المدينة.

هـ. العمليات التشتيتية

ظهرت بشكل واضح في حروب الردة، عندما وجه الخليفة أبو بكر الصديق t، أحد عشر جيشاً لقتال المرتدين في كل أنحاء الجزيرة، بهدف حرمان القبائل المرتدة من الاتحاد وتنظيم التعاون فيما بينهم، وتكرر هذا الأسلوب، عندما أرسل الصديق t، أربعة جيوش لفتح الشام، وكانت تعمل منفردة وتتجمع عندما تصطدم بجيوش ضخمة، وكانت نموذجاً للمناورة الإستراتيجية وحرب الحركة.

3. معركة القادسية (16 هـ/ 637م)

أ.  تُعد معركة القادسية، ذات أهمية خاصة، حيث إنها فتحت العراق ومن ثم بلاد الفرس، حيث أرسل أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب t، جيشاً بقيادة سعد بن أبى وقاص وأحرز نصراً ساحقاً.

ب. فكرة الجانبين

(1) كانت فكرة ملك الفرس، منازلة المسلمين في القادسية بجيش كبير يقاتل في معركة فاصلة. وعلى رغم أن رستم قائد جيش الفرس أرادها أن تكون حرب استنزاف للمسلمين، ومفاجأتهم بجيش بعد جيش، ثم يداهمهم في معركة فاصلة بعد استنزافهم، فإن الملك تمسك بخطته.

(2) وكانت فكرة سعد بن أبي وقاص، في لقاء الفرس على حدود أرضهم، الحدود بين العراق وشبه الجزيرة العربية، واختاروا القادسية ونزال العدو في أعمال دفاعية ثم التحول للهجوم ـ إستراتيجية دفاعية هجومية.

ج. إدارة أعمال القتال: (اُنظر شكل ميدان القتال وتمركز الجانبين) و(شكل يوم أرماث ويوم أغواث) و(شكل يوم أعماس ويوم القادسية)

(1) بدأت المعركة بهجوم للفرس نحو ميسرة المسلمون وتمكنت الفيلة من اقتحام صفوف المسلمين، وتمكن المسلمون من إيقافهم بعد عزل الفيلة عن الخيالة الفارسية.

(2) عاود الفرس هجومهم على مدى أربعة أيام، وتمكن المسلمون من وقف هجماتهم نتيجة لوصول قوات إضافية، وبعد التغلب على مشكلة الفيلة من جيش الفرس بالحيلة وتركيز الهجمات عليها.

(3) وبعد مقتل رستم قائد الفرس، في اليوم الرابع، تحول جيش سعد للهجوم واختراق صفوف الفرس وهزيمتهم.

د. تطبيقات إستراتيجية الهجوم غير المباشر

(1) اختيار المسلمين لمكان وتوقيت المعركة حفاظاً على المبادأة والمفاجأة.

(2) تبنى سعد بن أبى وقاص إستراتيجية دفاعية، لصد الفرس واستنزافهم، ثم التحول إلى الهجوم ـ إستراتيجية دفاعية هجومية، في ظروف التفوق العددي للفرس.

(3) تركيز المسلمين اهتمامهم للقضاء على الفيلة، مركز ثقل الفرس، بقطع سروجها، وقتل الفيل الأبيض والأجرب، حيث أنهم يقودان باقي الفيلة، وعزل الفيلة عن الخيالة الفارسية.

(4) اتجاه المسلمين إلى الخداع باستخدام الجمال المبرقعة، تمويه الجمال بالأقنعة لتبدو مثل الفيلة، والتي أثارت الذعر في الخيول الفارسية.

(5) المناورة بالأهداف والتكتيك المتغير:

(أ) في اليوم الأول كان الهدف الرئيسي هو هزيمة مدرعات العدو (الفيلة).

(ب) في اليوم الثاني كان الهدف هو كسب الوقت لحين وصول الدعم الإسلامي.

(ج) في اليوم الثالث كان الهدف هو هزيمة الفيلة والخيالة الفارسية.

(د) في اليوم الرابع كان الهدف هو القضاء على جيش الفرس وإنهاء المعركة بالتحـول للهجوم المضاد الشامل.

ثالثاً: حروب القرون الوسطى: القرن (11 - 17) م

تُعد مرحلة القرون الوسطى، قليلة التأثير بإستراتيجية الاقتراب غير المباشر، أو بفن الحرب عامة، وكانت حروب تلك المرحلة، محدودة المهارة، وأهدافها الإستراتيجية بسيطة ومباشرة، ونتائجها غير حاسمة بشكل عام، مقارنة بحروب العصور السابقة أو اللاحقة لها، وإن تخللها بعض الحروب التي تتميز عن غيرها.

    أظهر النورمانديون براعة عظيمة في فن الحرب عام 1066م، عند اجتياحهم إنجلترا بقيادة غليوم الثاني، مستخدماً المناورة الإستراتيجية، والاقتراب غير المباشر، وظهر في معاركه الآتي:

1. جذب العدو وقتاله في منطقة من اختيار غليوم الثاني، مما حقق إبعاد ملك إنجلترا وجيشه عن إمداداته، وإطالة خطوط مواصلاته، إضافة إلى إدارة المعركة من حيث الزمان والمكان الذي حدده غليوم الثاني.

2. الخداع بالانسحاب، ثم التحول المفاجئ للهجوم، حيث تظاهر بالانسحاب وجذب القوات الإنجليزية إلى مناطق قتل مجهزة بالنبال والسهام من الأجناب، وإنزال خسائر كبيرة في قوات المطاردة ثم التحول للهجوم المضاد الشامل.

3. الاستيلاء على أهداف غير مباشرة لتحقيق هدف إستراتيجي مباشر، حيث قام بالاستيلاء على أهداف واسعة شمال وغرب لندن، التي استسلمت بعدها تخوفاً من المجاعة، وذلك بدلاً من الهجوم المباشر على لندن المحصنة.

    وفي حروب القرن (12م) أظهر النورمانديون براعة في تطبيق أفكار غليوم الثاني بالتظاهر بالانسحاب والتحول للهجوم، وتوجيه الهجمات على مؤخرات العدو، وأعمال الهجوم الليلي واستمرت هذه الأساليب غير المباشرة في حروب الفترة من القرن (13 حتى 16م) وإن زاد عليها تدمير العدو بالتتالي وإضعاف مقاومة الخصم، إستراتيجية فابيوس[3]، مع تجنب المعارك الرئيسية.

وفي جانب آخر من العالم، كان العالم العربي الإسلامي، يصارع دول أوروبا في حروبها الصليبية، على أرض مصر والشام منذ القرن الحادي عشر، وزخر التاريخ بالعديد من القادة العرب الأفذاذ خلال تلك الفترة، من أمثال نور الدين زنكي، الشهير بالشهيد، (1115 ـ 1173م)، والذي وحد بلاد الشام ومصر ضد الصليبيين، وأعاد تنظيم المسلمين وحرر أمارة الرها، وكان صلاح الدين الأيوبي (1137 ـ 1193م) الذي اشتهر بمعركة حطين، (اُنظر شكل معركة حطين)، وتحرير القدس، وكانت له أمجاده في فن الحرب وإستراتيجية الاقتراب غير المباشر. ومن أمثلة تطبيقاتها الآتي:

1. إن دعوة صلاح الدين، لحث الملوك العرب على الجهاد للدفاع عن الأراضي المقدسة، ما هي إلا دعوة لوحدة القوى، لخلق وضع أفضل، لتحرير الأرض، ويأتي ذلك في مجال الإستراتيجية العليا للاقتراب غير المباشر لتحقيق هدف سياسي عسكري.

2. إن التسامح وعدم التأثر من صفات صلاح الدين الأيوبي، واستمرار عرضه للسلام مع الأمراء الصليبيين، كل ذلك يأتي أيضاً في إطار إستراتيجية عالية للاقتراب غير المباشر في مكونها المعنوي.

3. المناورة الإستراتيجية الواسعة، التي قام بها صلاح الدين عام 1186م، عندما دفع بقواته من السويس إلى إيلات بقيادة حسام الدين لؤلؤ، الذي تمكن من تدمير الأسطول الصليبي والتقدم في اتجاه أرض الحجاز.

4. نجاح صلاح الدين في جذب القوات الصليبية، خروجها من تحصيناتها في صفورية بأحمالها الثقيلة والحر الشديد، إلى منطقة حطين، حيث حكم صلاح الدين تجهيزاته الدفاعية وسيطرته على مصادر المياه بها.

5. إحكام الحصار في منطقة حطين على القوات الصليبية، واستخدام أساليب مبتكرة، مثل إشعال الحشائش لخلق جو من النار والدخان للقوات المحاصرة.

    بينما فقد الغرب اعتباره الإستراتيجي في القرن (13م)، قدمت شعوب الشرق مثالاً عن إستراتيجية الاقتراب غير المباشر، والتي كانت في دمائهم منذ أكثر من عشرة قرون وتمثلت في غزوات الهون[4]، حيث برعوا في أعمال الإغارة، والانقضاض، والهروب المخادع، وسرعة وخفة الحركة، وظهر الفاتح المغولي جنكيز خان وطبق في غزواته إستراتيجية الاقتراب غير المباشر، وتمثلت في الآتي:

1. استخدام محاور تقدم متعددة لجيوشه، نحو الهدف الإستراتيجي.

2. تنوع أساليب الحرب في الهجمات السريعة المفاجئة، الهجمات المضادة، وأعمال الإغارات والكمائن.

3. توجيه الضربات القوية في عمق الخصم، بقوة جيش.

4. الحصار ـ مع تجويع أهل المدن وإرغامهم على الاستسلام.

5. الاعتماد على شبكة فعالة للاستطلاع، وجمع المعلومات السياسية والعسكرية.

6. الخداع بالتظاهر بالانسحاب، بينما تقوم القوة الرئيسية بالمناورة الواسعة، ليلاً في الأغلب، مستفيدة من طبيعة الأرض، ثم تطويق العدو وتدميره.

7. الاعتماد على حرب الحركة، وإخفاء التحركات لتحقيق المفاجأة.

8. نشر الرعب والإرهاب لتحطيم القوة المعنوية للعدو قبل الهجوم، وأطلق عليها "إستراتيجية الرعب"، حيث كان الدمار يلازمهم دائماً.

وعندما جاء القرن السابع عشر، وقعت أول حرب كبيرة في التاريخ الحديث، وهي حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648م)، في القارة الأوربية، والحرب الأهلية التي مزقت إنجلترا (1642 - 1652م)، وكلا الحربين لم تسفر عن أعمال إستراتيجية للاقتراب غير المباشر، لها طابع مميز أو تحقق نتائج حاسمة في الحرب، ويمكن اعتبار كرومويل  في الحرب الأهلية خارجاً عن هذا النمط. حيث قام ببعض الأعمال غير المباشرة مثل الآتي:

1. جذب العدو إلى أرض مكشوفة، للحصول على إمكانية توجيه الضربات الجانبية.

2. المناورة الواسعة بالقوات، خلال أراضى صعبة، للوصول إلى مؤخرة العدو وقلب ميزان القوى لصالح قواته، على رغم ضعف إمكانياته.

3. المناورة الواسعة بالقوات، لتجنب الاصطدام بالحواجز الدفاعية الحصينة للعدو.

4. استغلال الظروف الجوية السيئة لصالح قواته.

تميزت حروب الفترة من (1650 حتى 1700م) في أوروبا بالآتي:

1. محدودية الغايات والأهداف.

2. كان الدفاع هو الشكل الغالب في أعمال القتال، وتفوق التحصينات.

3. ارتباط المناورة بالحصون الدفاعية، حيث توجد الإمدادات الإدارية والاحتياطات.



[1] قانون المعركة: يقضي بتبادل الرسل بين قادة الجيوش المتحاربة، لتحديد مكان وزمان المعركة، ولا يبدأ القتال حتى يتجمع ويصطف الجيشان، وإعلان الخصم بالاستعداد للمعركة، وإذا تأخر المشاة أو الخيالة فيجب الانتظار، ولا قتال ليلاً، واستخدام الليل في الراحة وإعادة الاستعداد، وحرية جمع القتلى والمصابين. وإذا كان هناك حلفاء للخصم فيجب إخطارهم قبل بدء المعركة، ويكون هذا لزاماً للأطراف. وتبدأ المعركة بمبارزة خاصة بين قادة الجيوش أو من ينوب عنهم، وتبدأ بالرماح وتنتهي بالالتحام بالسيف، ويتم إحضار أسلحة جديدة للمتبارزين، حالة وصول أسلحتهم لمرحلة عدم الصلاحية. وكانت المعركة تبدأ باستخدام أسلحة القذف من المقاليع إلى السهام والرماح، ثم تبدأ المركبات المعركة وتليها المشاة.

[2] قرطاجنة: مدينة قرب تونس، كانت عاصمة إمبراطورية قوية، نازعت روما في السيطرة على البحر المتوسط.

[3] إستراتيجية فابيوس: (275 - 203) ق.م تتلخص في عدم الدخول في حرب شاملة والاعتماد على التجمعات المحدودة ثم الانسحاب، إغارات قوية، على أجناب العدو ومؤخرته، والمناطق الإدارية، ومفارز العدو المنعزلة، وهى تعنى حرب إنهاك واستنزاف العدو، والتأثير على روحه المعنوية، وإجباره على أن يكون في حالة استعداد قتالي دائم.

[4] الهون: شعب من أصل تتارى، تحرك من التبت عام 73م وغزا الصين وآسيا وروسيا وأوروبا حتى عام 375م.