إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الجن









مقدمة

المبحث الثاني

العلة من خلق الجن وعلاقتهم بالناس

أولاً: العلة من خلق الجن

خلق الله الجن، كما خلق الإنس، لعبادته وحده. قال تعالى: ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ[ (سورة الذاريات: الآية 56).

وعلى هذا، فالجن مكلفون بأوامر ونواهٍ، كالإنس تماماً، فقد قال الله، عزّ وجلّ، عن توبيخ الكافرين، من الجن والإنس: ]يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ أَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ[ (سورة الأنعام: الآية 130).

1. عبادة الجن

يشير القرآن الكريم إلى أن من العرب من كان يعبد الجن: ]قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ[ (سورة سبأ: الآية 41).

وذكر (ابن الكلبي)، أن (بني مليح)، من قبيلة خزاعة، كانوا ممن يعبدون الجن من الجاهليين. ويزعمون أن الجن تتراءى لهم. وفيهم نزلت: ]إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُم[ (سورة الأعراف: الآية 194) وذكر أن قبائل، من العرب، عبدت الجن.

وليس لدى المفسرين، أو أهل الأخبار، علم واضح عن كيفية اعتقاد بعض العرب بألوهية الجن، وبمصاهرتها لهم. وما ورد عن ذلك، في القرآن، مجمل.

2. هل يُحاسبون؟

يرى علماء المسلمين أن الجن يدخلون الجنة والنار، كالبشر سواءً بسواء، وأن لهم ثواباً على الحسنات، وعقاباً على السيئات.

3. كيف يُعذب الجن بالنار وهم مخلوقون منها؟

أجاب بعض علماء الإسلام: بأن الإنسان مخلوق من التراب، ويمكن أن يعذب بالتراب، أو بما يُصْنع من التراب. ثم إن أصل خلقهم من النار، أمّا بعد خلقهم، فليسوا كذلك، مثلما الإنسان مخلوق من التراب، لكنه بعد الخلق ليس تراباً.

وقيل إن رجلاً سأل علي بن أبي طالب t، في ذلك، فقال له: "لو ضربك أحد بحجر هل يؤلمك؟ " قال: نعم، قال: "والحجارة مخلوق من طين، وأنت مخلوق من الطين".

4. عموم الرسالة المحمدية للإنس والجن:

أخبر الله عز وجل أنه بعث نفراً من الجن إلى النبي، r ليستمعوا القرآن وينذروا قومهم كما في قوله تعالى: ]وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَأَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ[ (سورة الأحقاف: الآيات 29-32).

فهذا دليل على أنهم مأمورون بالإيمان برسالة محمد، مثل الإنس.

5. وفد الجن إلى النبي r

ورد في صحيح مسلم أن الصحابة فقدوا النبي r بمكة، وأصابهم هم شديد. فلمّا كان في الفجر، جاء من قبل جبل حراء، فسألوه أين كان، فقال: (إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم) قال: فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. وجاء في بعض روايات البخاري أنهم من مكان يسمى (نصيبين).

والنبي، r حين حضر إليه الجن، وخاطبهم، أرشدهم، ووعدهم بعطاء، وقال لهم: ]كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ[ (رواه مسلم، الحديث الرقم 682).

ثانياً: علاقات الناس بالجن

1. رؤية الجن

اختلف علماء المسلمين في رؤية الإنس للجن؛ فذهب فريق إلى أن الإنس لا يمكنهم رؤية الجن، واستدلوا بقوله تعالى: ]إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ[ (سورة الأعراف: الآية 27) ففي هذه الآية، كما يقول الزمخشري، دليل على أن الجن لا يُرون، ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم ليس في استطاعتهم.

ويرى فريق آخر، أنه يمكن للإنس أن يروا الجن، لكن على غير الصورة التي خُلقوا عليها، وإنما بعد أن يتطوروا ويأخذوا أشكالاً أخرى. بينما يرى فريق ثالث أنه يمكن رؤية الجن في أشكالهم الحقيقية.

2. الحب والزواج المتبادل بين الإنس والجن:

كثير من العلماء يرون إمكانية زواج الإنس من الجن والعكس، ومن هؤلاء العلماء، شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي يقول: "وقد يتناكح الإنس والجن، ويولد بينهما ولد، وهذا كثير معروف". لكن بعض العلماء كره ذلك، على الرغم من إيمانهم بإمكانية وقوعه؛ فقال الإمام مالك: "لكني أكره إذا وجدت امرأة حامل، فقيل من زوجك؟ قالت: من الجن فيكثر الفساد". وذهب بعض العلماء إلى عدم إمكانية ذلك. وعللوا رأيهم، بأن الله امتن على عباده من الإنس، بأن جعل لهم أزواجاً من جنسهم، كما في قوله تعالى: ]وَمِنْ ءاَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً[ (سورة الروم: الآية 21). فقالوا: لو وقع ذلك، فلا يمكن أن يحدث التآلف والانسجام بين الزوجين، لاختلاف الجنس.

وردّ آخرون بإمكانية ذلك، والدليل هو الآية الكريمة عن حور الجنة: ]حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ ءاَلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ[ (سورة الرحمن: الآيات 72- 74). فدلت الآية على صلاحية حور عين للإنس والجن على حد سواء.

وذكروا أن الجنية قد تتبع الرجل وتحبه، ويقال لها: تابعة. ومن ذلك قولهم: معه تابعة، أي من الجن. والتابعة جنية ومن ذلك قصة تتبع الإنسان. كما يكون للمرأة تابع من الجن، يتبع المرأة يحبها. وقد يعشق الجني امرأة ويتصادق معها. وهذا (منظور) الجني، الذي عشق امرأة اسمها (حُبة) وتصادق معها، فكانت (حبة) تتطبب بما يعلمها (منظور).

3. قبائل إنسية من أصول جنية

نُسبت بعض الأسر والقبائل إلى الجن، مثل: (بني مالك) و (بني شيصبان)، و (بني يربوع بن حنظلة)، وعرفوا ببني السعلاة، إلى الجن. ونسب بعض الأخباريين بلقيس وذي القرنين إلى الجن. وذُكر أيضاً أن زوج (عمرو بن يربوع التميمي) كانت سعلاة، أقامت مع زوجها في (بني تميم)، فلما رأت برقاً يلمع من شق بلاد السعالى، حنت وطارت إليهم، فقالوا في ذلك أشعاراً معروفة إلى اليوم.

وقد تعرض (الجاحظ) لموضوع زواج الإنس بالجن وزواج الجن بالإنس،. وتعرض لقول من قال إن (بلقيس) كانت من امرأة جنية. وذكر آراء الناس في هذا الزواج المختلط، و شكك في إمكان إنجاب نسل منه. وقال: " وقد يكون هذا الذي نسمعه من اليمانية والقحطانية، ونقرؤه في كتب السيرة، قص به القصاص، وسمروا به عند الملوك[1].

وقد أطلق (الجاحظ) على قول الناس بزواج الإنس بالجن وبالعكس (الزواج المركب)، وأشار إلى قول الشاعر علباء بن أرقم:

يا قاتل الله بني السعلاة                                     عمراً وقابوساً شرار النات

على أنه دليل على إن السعلاة تلد الناس.

4. حب الجن قد يقتل

يروى أن الجن إذا عشقت إنساناً صرعته، ويكون ذلك على طريق العشق والهوى، وشهوة النكاح. وإن الشيطان يعشق المرأة، وأن نظرته إليها، من طريق العجب بها، أشدّ عليها من حُمى أيام، وأن عين الجان أشدّ من عين الإنسان.

والجنية قد تستمتع بالإنسي بالعشق، والتلذذ بالاتصال به، أو بالعكس، وهذا أمر معلوم مشهود، حتى ربما كان الجني الذي في الإنسان ينطق بذلك، كما يعلم من الذين يقرؤون على المصابين بالجن.

5. صرع الجن

يرى بعضهم كالجبائي من المعتزلة، والرازي من الأشاعرة، أن الجن لا يمكن لهم أن يدخلوا في بدن المصروع.

لكن كثيراً من علماء المسلمين يرون حدوث هذا، حتى أن ابن تيمية يقول (دخول الجن في بدن الإنسان ثابت، باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة). ويستدل العلماء الذين يرون ذلك بالآية الكريمة: ]الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ[ (سورة البقرة: الآية 275).

وقال ابن تيمية أيضا: (إن الرجل يصرع، فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب بدنه ضرباً عظيماً، لو ضرب به جمل لأثر به أثراً عظيماً. والمصروع، مع هذا، لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذي يقوله. وغير ذلك من الأمور، التي من شاهدها أفادته علماً ضرورياً بأن الناطق على لسان الإنس والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان) (اُنظر ملحق صرع الجن).

6. استخدام الجن

ذكر شيخ الإسلام، ابن تيمية، أن الجن يخدمون الإنس في أمور، والكهان يستخدمون الجن، ليأتوهم بخبر السماء، فيضيفون إليه من الكذب ما يضيفون. وخدمة الجن للإنس واردة، وقد يخدمونهم لطاعة الإنس لهم فيما لا يرضي الله، عز وجل؛ إمّا في الذبح لهم، أو في عبادتهم، أو ما أشبه ذلك.

والذين يرون إمكانية استخدام الجن من المسلمين يختلفون في حكم استخدامهم، فمنهم من يحرم ذلك مطلقاً، ومنهم من يبيحه، بشرط عدم الإضرار بالآخرين، أو عدم ارتكاب الأمور المحرمة، والراجح عدم اللجوء إلى هذا الأمر مطلقاً، لأنه، فضلاً عن حرمته، يسبب العنت[2] وزيادة المشكلات على بني الإنسان، قال تعالى: ]وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا[.(سورة الجن: الآية 6) يقول ابن كثير: فلمّا رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقاً أي إثماً، وخوفاً، وذعراً، وازدادت الجن عليهم بذلك جرأة".

7. قتل الجن

قتل الجن بغير حق لا يجوز، كما لا يجوز قتل الإنسي بغير حق. والجن يتصورون في صور شتى، فقد يتخذون شكل حيات تعيش في البيوت، ولا يجوز قتل الحيات إلا بعد إمهالها ثلاثاً. فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله r ]إِنَّ بِالْمَدِينَةِ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ قَدْ أَسْلَمُوا فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْعَوَامِرِ فَلْيُؤْذِنْهُ ثَلاَثًا فَإِنْ بَدَا لَهُ بَعْدُ فَلْيَقْتُلْهُ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ[ (رواه مسلم، كتاب السلام، الحديث الرقم 4151).

8. سرقة الجن للإنس

وقد يسرق الجن الأطفال والرجال والنساء، وللإخباريين قصص يروونه في ذلك.

وينسب فقدان الأشخاص في البوادي إلى الجن، في الغالب. غير أنها قد تنفع الناس، كذلك، لأن من الجن من هو طيب النفس، مفيد نافع. وذكر في ذلك أن الشاعر عبيد بن الأبرص رأى حية، فـسقاها. فلما ضلّ جمل له وتاه، نادى هاتف بصوت مسموع، سمعه عبيد بن الأبر، مشيراً إلى الموضع، الذي ذهب الجمل إليه. فذهب عبيد إلى المكان، وجاء بجمله. وكان هذا الهاتف هو صوت الحية، التي هي جان من الجن.

9. هاتف الجن

تقوم الجن بأعمالها بشكل غير منظور، في الغالب؛ لأنها أرواح. وقد تحذّر الإنسان أو تُرشده إلى شيء يريده بصوت جهوري مسموع، يقال له: الهاتف، من دون أن يرى الشخص أو الأشخاص صاحب ذلك الصوت.

وقد ذكر (الجاحظ) أن "الأعراب وأشباه الأعراب لا يتحاشون من الإيمان بالهاتف، بل يتعجبون ممن ردّ ذلك".

ثم سقال: "قالوا: وبسبب نقل الجن للأخبار علمَ الناس بوفاة الملوك، والأمور المهمة، كما تسامعوا بموت المنصور بالبصرة، وفي اليوم الذي توفي فيه بقرب مكة. ونحو هذا من الأخبار".

10. ذبائح الجن:

كان الرجل في الجاهلية إذا سكن داراً جديدة ذبح فيها ذبيحة، يتقي بها أذى الجن، لاعتقاده أن في كل دار جناً، يقيمون بها فلترضيتهم وللتقرب إليهم، يذبحون ذبيحة عرفت عندهم بـ (ذبائح الجن). ولا تزال عادة بعض الناس ذبح ذبيحة عند الابتداء ببناء دار، وعند الانتقال إليها. وكانوا أيضاً يذبحون ذبيحة عند استخراجهم عيناً، أو شرائهم داراً، أو بنيانهم بنياناً، مخافة أن تصيبهم الجن، فأضيفت الذبائح إليهم لذلك. وقد نهى النبي r عن ذبائح الجن.

11. التعوذ بالجن

كان من عادة العرب، في جاهليتها، إذا نزلوا وادياً أو مكاناً موحشاً من البراري وغيرها، أن يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجانأن يصيبهم بشيء يسوءهم. فكانوا يقولون: نعوذ بكبير هذا الوادي، أو نعوذ بأعزّ أهل هذا المكان، أو نعوذ بعظماء هذا الوادي، أو نعوذ بسيد هذا الوادي من شرِّ ما فيه، أو نعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه. وإلى ذلك أشير في القرآن الكريم: ]وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا[ (سورة الجن: الآية 6). يقول ابن كثير: كان الجن يفرقون (أي يخافون) من الإنس، كما يفرق الإنس منهم أو أشدّ. فكان الإنس إذا نزلوا وادياً هرب الجن. فيسمعون سيد القوم يقول: "نعوذ بسيد أهل هذا الوادي". فقال الجن: "نراهم يفرقون منّا كما نفرق منهم". فدنوا من الإنس، فأصابوهم بالخبل والجنون. ويروي ابن كثير عن أبي السائب الأنصاري، أنه قال: خرجت مع أبي من المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذكر رسول الله r بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم. فلمّا انتصف الليل، جاء ذئب، فأخذ حملاً من الغنم. فوثب الراعي، فقال: "يا عامر الوادي جارك". فنادى مناد، لا نراه، يقول: "يا سرحان أرسله". فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم، لم تصبه كدمة. وقد يكون هذا الذئب، الذي أخذ الحمل جنياً، فعل ذلك، حتى يرهب الإنسي ويخاف منه، ثم ردّه عليه، لمّا استجار به ليضله ويهينه، ويخرجه عن دينه، والله تعالى أعلم. روي عن رجل يقال له: (حجاج بن علاط السلمي)، "أنه قدم مكة في ركب فأجنهم الليل بواد موحش، فقال له الركب: قم خذ لنفسك أماناً ولأصحابك، فجعل يطوف بالركب ويقول:

أعيذ نفسي وأعيذ صحبي                                         من كل جني بهذا النقب

                               حتى أأوبَ سالماً وركبي

فوصل وركبه، سالماً، إلى مكة، من دون أن يمسه أو أن يمس من كان معه من الركب أحد بسوء.

وقال آخر يستجير بجن (عالج) ـ اسم موقع بالحجاز ـ ويتوسل إليهم ألا يرهقوه بغويّ هائج، إذ يقول:

يا جن أجزاء اللوى من عالج                                     عاذ بكم ساري الظلام الدالج

لا ترهقوه بغوي هائج

وقال آخر:

أعوذ من شر البلاد البيد                                          بسيّد معظـم مجيـد

وروي أنه استعاذ رجل منهم ومعه ولد، فأكله الأسد فقال:

قد استعذنا بعظيم الوادي                                          من شر ما فيه من الأعادي

                           فلم يجرنا من هزبر عادي

12. الطاعون من الجن

تزعم العرب أن الطاعون من الجن، ويسمّون الطاعون رماح الجن.

13. القرين من الجن

إن لكل نفس قريناً لها من الجن، كما يدل على ذلك حديث عن عبدالله بن مسعود قال: ]قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ[ (رواه مسلم، الحديث الرقم 5034).

وفي القرآن الكريم: ]وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ[ (سورة الزخرف: الآية 36) ومعنى يعشُ: أي يلهو. يقول ابن كثير: هذا الذي تغافل عن الهدى نقيِّض له من الشياطين من يضله ويهديه إلى صراط الجحيم.

14. من قصص الجن

ويذكر الرواة قصصاً عن الجن مع الإنسان. فيذكرون من ذلك:

أ. أن (تأبط شراً) رفع كبشاً تحت إبطه، وأخذه معه إلى الحي، فصار يبول عليه في الطريق، حتى إذا قرب من مكانه، ثقل عليه، فرمى به، فإذا هو الغول (نوع من الجن).

ب. ومن الطرائف التي يذكرونها أن ابن امرأة من الجن أراد الحج في الجاهلية، فخافت عليه أمه من سفهاء قريش، ولكنه ألح عليها بأن تسمح له بالذهاب. فما أكمل الطواف، وصار ببعض دور بني سهم؛ عرض له شاب منهم فقتله، فثارت غبرة شديدة بمكة، ومات من بني سهم خلق كثير قتلهم الجن انتقاماً منهم لمقتل الجان، فنهضت بنو سهم وحلفاؤها ومواليها وعبيدها، فركبوا الجبال والشعاب بالثنية، فما تركوا حية ولا عقرباً ولا خنفساء ولا شيئاً من الهوام يدب على وجه الأرض إلاّ قتلوه، حتى ضجت الجن، فصاح صائحهم من على أبي قبيس يطلب وساطة قريش بينهم وبين بني سهم، الذين قتلوا منهم أضعاف ما قتله الجن من بني سهم، فتوسطت قريش، وأُنهي النزاع، وتغلب بنو سهم على الجن.

ج. وقال بعضهم: مات لي ابن صغير فحزنت عليه حزناً شديداً، وصرت لا أنام إلا ما قل. وإنّي ذات ليلة على سريري، سمعت من زاوية من زوايا البيت "السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا أبا خليفة". فقلت: "وعليك السلام"، ورعبت رعباً شديداً. ثم قرأ آيات من آخر سورة آل عمران حتى انتهى إلى قوله: ]وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ[ (سورة آل عمران: الآية 198). ثم قال: يا أبا خليفة. قلت: لبيك. قال: ماذا تريد أن تختص في الحياة، في ولدك، دون الناس؟ أأنت أكرم على الله، أم محمد r؟ مات ولده إبراهيم، فقال: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب". فقلت له: من أنت يرحمك الله؟ قال: امرؤ من الجن، من جيرانك.

د. ويرون أن رجلاً (بني سهم) بـ (تبالة) كان يراجع نخلاً له، وبين يديه جارية، فصرعت، فأدرك أن الجن هم الذين صرعوها فوقف عليها قائلاً: يا معشر الجن! أنا رجل من بني سهم، وقد علمتم ما كان بيننا وبينكم في الجاهلية من الحرب، وما صرنا إليه من الصلح، والعهد والميثاق، لا يغدر بعضنا ببعض، ولا يعود إلى مكروه صاحبه، فإن وفيتم وفينا، وإن غدرتم عدنا إلى ما تعرفون؛ فخافت الجن من هذا التهديد، وأفاقت الجارية ولم يصبها بعد ذلك مكروه.

هـ. وذهب الجاهليون إلى جواز قتل الجن للإنسان. وقد بقي هذا الاعتقاد عند المسلمين. فلما قُتل (سعد بن عبادة بن دليم) بالشام، قيل أن الجن قتلته. ولما قتل المغني المعروف (الغريض)، وهو من الموالي، وكان نشأ خياطاً ثم أخذ الغناء بمكة عن (ابن سريج)، زعم أن الجن نهته أن يغني بعض الألحان. فلمّا لم ينته قتلته الجن في ذلك خنقاً.

و. وزعموا أن الجن خنقت حرب بن أمية، وقالت الجن في ذلك شعراً، وقتلت مرداس بن أبي عامر، واستهووا طالب بن أبي طالب t، فلم يعثر أهله له على أثر، واستهووا عمرو بن عدي اللخمي الملك، ثم ردوه على خاله جذيمة بن الأبرش، بعد سنين وسنين.

ثالثا: الجن في الثقافات الأخرى

اختلفت الثقافات الأخرى في الجن، فبعضهم يؤمن بوجوده وبعضهم ينفيه.

وكان العرب في الجاهلية، يعتقدون بأن الجن هم ملهموا الشعراء والكهان، وحكي عنهم كثيراً، في آدابهم الشعبية، خصوصاً في كتاب ألف ليلة وليلة.

والهندوس: يؤمنون بوجود الجن، وأن بعض الجن للخير وبعضها للشر. ومن الجن الخيرَّ من يكلف بتوزيع الغنى ومن بينهم موكلون بالموسيقى، وأمّا الشريرون فيكونون على شكل حيات لهم أذرع لا يحصى لها عدد.

وفي الآداب الاسكندينافية: يكثر ذكر الجن فمنهم (من الجن عندهم) طائفة تسمى إلفا وأخرى تسمى إلفينة وهم ـ عندهم ـ يسكنون الكهوف وشقوق الصخور، وهم الذين ألقت إليهم المعبودات كل العلوم والفنون.

وفي أوروبا، في عصورها الوسطى: كان يكثر الاعتقاد بالجن، وكانوا يقسمونهم إلى سكان الهواء ويطلقون عليهم (السيلفا)، وسكان النار ويسمونهم (السلامندر)، وسكان الكهوف (الجنوما)، وسكان المياه (المرميدا)، واسم رئيسهم الأعلى أويزون وزوجته اسمها تيتانيا.

رابعا: ثقافة الجن وأدبهم

1. علم الجن

يروى عن الحسن بن كيسان قال: رأيت في القوم جماعة من الجن يتذاكرون في الفقه والحديث والحساب والنحو والشعر. قلت: أفيكم علماء؟ قالوا: نعم. قلت: إلى من تميلون؟ قالوا: إلى سيبويه.

2. شعر الجن

وللجن حوار مع الإنس، وكلام يوجد منثوراً، كما يوجد منظوماً في شعر ينسب إلى الشعراء الجاهليين. ويروي الأخباريون شعراً ينسبونه إلى جذع بن سنان، ورد فيه وصف ملاقاته للجن ومحاوراته معهم، ودعوته لهم إلى الطعام وامتناعها عن الأكل. كما رووا شعراً لغيره يصف لقاءً بين الجن وبين أصحاب هذا الشعر.

وللبشر خمسة عشر جنساً من الموزون (تسمى بحور الشعر)، قلَّ أن يعدوها القائلون، أمّا الجن فزعم بعضهم أن لهم آلاف الأوزان ما سمع بها الإنس.

وسمع من شعرهم

الخير يبقى وإن طال الزمان به                                   والشر أخبث ما أوعيت من زاد

3. عزف الجن

ذكر أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا يرون أن الجن تعزف في المفاوز بالليل.

والعزف والعزيف صوت الجن، وهو جرس يسمع بالمفاوز. وهو صوت يسمع بالليل كالطبل.

وروي عن (ابن عباس) قوله: "كانت الجن تعزف بالليل كله بين الصفا والمروة".

وقد اشتهر موضع (العزاف)، وهو موضع يسمع به عزيف الجن.

وقد ادعى أناس من الجاهليين أنهم كانوا يرون الغيلان والجن، ويسمعون عزيف الجان، أي صوت الجن. وقد أكثر الأعراب في ذلك، وأغربوا في قصص الجان، من ظهور الأشباح لهم في تجوالهم بالفيافي المقفرة الخالية، فتصوروه جناً وغولاً وسعالي، ووجدوا في أهل الحضر، ولا سيما في الإسلام، من ميل إلى سماع قصص الجان والسعالي والغول. وقالوا: إنهم ربما نزلوا بجمع كثير، ورأوا خياماً، وقباباً، وناساً، ثم إذا بهم يفقدونهم من ساعتهم، وذلك لأنهم من الجن.



[1] وقد كان لأهل اليمن قصص وأساطير، بدليل ما يلاحظ من أن معظم رواة القصص القديم كانوا من أهل اليمن في صدر الإسلام. ويظهر أنهم حذقوا به وتفوقوا به على بقية العرب الذين نسميهم العدنانين بسبب دخول كثير منهم في اليهودية وفي النصرانية وشرائهم الكتب، وفيها قصص من قصص أهل الكتاب والأساطير القديمة، فمزجوه مع ما كان لهم من قصص وثني قديم.

[2] العنت: دخول المشقة على الإنسان، ولقاء الشدة. وردت في القرآن الكريم بمعنى الهلاك، والإثم والزنا.