إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / النار









شُبُهات

المبحث الثالث

حكم مرتكب الكبيرة وأسباب المغفرة

إن من يرتكب محرماً باختياره وإرادته، ومات على ذلك قبل أن يتوب، يعد، عند أهل السنة والجماعة، مسلماً بإيمانه عاصياً بذنبه، وهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه في النار بقدر معصيته ثم مآله إلى الجنة، قال r: ]مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 5379) وذهبت فرق إلى تكفير المذنب، وإن لم يستبح المعصية، أو أظهر شعائر الإسلام، وباب التكفير عظمت فيه الفتنة، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الآراء والأهواء، واختلفت فيه مذاهب الناس إلى طرفين ووسط.

فذهبت الخوارج إلى التكفير بكل ذنب، وحكموا على مرتكب الكبيرة بالكفر والخلود في النار. لا فرق بينه وبين اليهود والنصارى، وكذا وافقتهم المعتزلة الذين يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، وهذه منزلة بين المنزلتين! ولكنه في الآخرة خالد مخلد في النار. وذهبت المرجئة إلى أنه لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ولذلك يقولون: لا نكفر من أهل القبلة أحداً مطلقا.

وعند تأمل القولين (الخوارج والمرجئة) يظهر أن كلاً منهما استدل بجزء من الشرع وترك الآخر. فالخوارج احتجوا بأدلة الوعيد بينما احتجت المرجئة بأحاديث الوعد. ولذلك كان الحق ما ذهبت إليه أهل السنة والجماعة وهو: أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إثبات ما نفاه، يثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال: من قالها فهو كافر. أي من استحل معلوماً من الدين بالضرورة، وأما الشخص المعيَّن فلا يحكم عليه أنه خالد في النار؛ لأنه من أعظم البغي أن يُشهد على معيَّن أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله r يقول: ]كَانَ رَجُلاَنِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ فَكَانَ لاَ يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ أَقْصِرْ فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ أَقْصِرْ فَقَالَ خَلِّنِي وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَوْ لاَ يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ أَكُنْتَ بِي عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَقَالَ للآخَرِ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ[ (رواه أبو داود، الحديث الرقم 4255).

ولأن الشخص المعين

·  يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً.

·  ويمكن أن يكون ممن لم تثبت عنده صحة ما أنكره من النصوص.

·  ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات، رجحت على سيئاته؛ فأوجبت له رحمة الله تعالى.

كما غفر للذي قال: إذا مت فاسحقوني ثم أذروني،  ثم غفر الله له لخشيته، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك.

ولكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنع أولي الأمر من معاقبته في الدنيا، لمنع بدعته، واستتابتهم إياه، فإن تاب وإلا طبقت عليه أحكام الشريعة، ثم إذا كان القول في نفسه كفراً قيل: إنه كفر والقائل لهذا القول لا يكفر، إلا إذا توفرت شروط وارتفعت موانع، ولا يكون كافرا بمجرد فعله، طالما أنه مظهر لشعائر الإسلام، فلا يتصور أن يكفر أحد من أهل القبلة إلا من يكون منافقاً زنديقاً، والنفاق أمر غيبي لا يطلع عليه بشر فمن كان مقراً بالشهادتين ـ فإنه لا يكون منافقاً إلا بدليل شرعي، روُى عن عمر: ]أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ r َلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ rَ وَكَانَ النَّبِيُّ r قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ r لاَ تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 6282) فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن محاسن أهل العلم أنهم يخُطَّئون ولا يُكفَرون.

أولاً: تسمية بعض الذنوب كفرا

هناك إشكال يحتاج إلى توجيه، وهو: أن الشارع الكريم قد سمّى بعض الذنوب كفراً أو نفاقاً، قال الله تعالى:  ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ (سورة المائدة: الآية 44). وقال r: ]سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 46) وقال r: ]لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ (رواه البخاري، الحديث الرقم 118).

]وإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 5638). وقال r: ]أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 33).

وقال r: ]لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ[ (رواه البخاري، الحديث الرقم 6312). وقال r: ]بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ[ (رواه الترمذي، الحديث الرقم 2544) وقال r: ]مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ ثُمَّ اتَّفَقَا أَوْ أَتَى امْرَأَةً حَائِضًا أَوْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ[ (رواه أبو داود، الحديث الرقم 3405). وقال r: ]من حلف بغير الله فقد كفر[ (رواه الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين)، وقال r: ]أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ وَقَالَ النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهَا سَرَابِيلُ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ[ (رواه أحمد، الحديث الرقم 21837)، ونظائر ذلك كثيرة.

والجواب عن ذلك

أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر، كفراً ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج؛ إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً على كل حال، فيُقتل، ولا تجرى عليه الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر! وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام. ومتفقون على بطلان قول يبقى في منزلة بين الإيمان والكفر، كما قالت المعتزلة. إذ قد يكون مرتكب الكبيرة من المؤمنين، قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، إلى أن قال:  فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ[ (سورة البقرة، الآية 178). فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخاً لولي القصاص، والمراد أخوة الدين بلا ريب. وقال تعالى: ]وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[ (سورة الحجرات: الآيتان 9، 10)

ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن"الزاني والسارق والقاذف لا يقتل، بل يقام عليه الحد؛ فدل على أنه ليس بمرتد. وعن النبي r أنه قال: ]مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ مِنْ أَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ حِينَ لاَ يَكُونُ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَجُعِلَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ حِينَ لاَ يَكُونُ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ[ (رواه أحمد، الحديث الرقم 10169). فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفى المظلوم منها حقه.

وكـذلك ثبت عن النبي r أنه قال: ]أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ فَقَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ[ (رواه مسلم، الحديث الرقم 4678)، وقد قال تعالى: ]إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ[ (سورة هود: الآية 114). فدل ذلك على أنه في حال إساءته يعمل حسنات تمحو سيئاته. ومن ثم فأهل السنة يرجون للمحسنين من المؤمنين أن يعفو الله عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا يأمنون عليهم، ولا يشهدون لهم بالجنة، ويستغفرون لمسيئهم، ويخافون عليهم، ولا يقنطونهم من رحمة الله ". قال تعالى: ]إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[ (سورة النساء: الآية 48). فالمشرك لا ترجى له المغفرة. لأن الله نفى عنه المغفرة، وما سواه من الذنوب تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه. وعن رسول الله r: ]الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَلاَثَةٌ دِيوَانٌ لا َ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا وَدِيوَانٌ لاَ يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا وَدِيوَانٌ لاَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ أَوْ صَلاَةٍ تَرَكَهَا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِرُ ذَلِكَ وَيَتَجَاوَزُ إِنْ شَاءَ وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا الْقِصَاصُ لاَ مَحَالَةَ[ (رواه أحمد، الحديث الرقم 24838). ولكن ثم أمر ينبغي التفطن له، وهو: أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف، والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر. وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم به القلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه، ويجب على الإنسان ألا  ينظر إلى صغر المعصية ولكن ينظر إلى عظمة من يعصاه، قال رسول الله r: ]إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ[ (رواه أحمد، الحديث الرقم 3627).

ثانياً: من أسباب المغفرة

قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره؛ فإن فاعل السيئات قد تسقط عنه عقوبة جهنم بأسباب، منها:

1. التوبة: قال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ[ (سورة البقرة: الآية 161). والتوبة النصوح، وهي الخالصة، لا يختص بها ذنب دون ذنب، لكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة؟ حتى لو تاب من ذنب وأصر على آخر لا تقبل؟ الصحيح أنها تقبل؟، وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها، مما لا خلاف فيه بين الأمة. وليس شيٌ يكون سبباً لغفران جميع الذنوب إلا التوبة، قال تعالى: ]قل يا عبادي أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[ (سورة الزمر: الآية 53). وهذا لمن تاب، ولهذا قال: ]لا تقنطوا[، وقال بعدها ]وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ[ (سورة الزمر: الآية 54).

2. الاستغفار: قال تعالى: ]وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[ (سورة الأنفال: الآية 33). لكن الاستغفار تارة يذكر وحده، وتارة يقرن بالتوبة، فإن ذكر وحده دخلت معه التوبة، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار. فالتوبة تتضمن الاستغفار، والاستغفار يتضمن التوبة، وكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى؛ فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله.

3. الحسنات: فإن الحسنة بعشرة أمثالها، والسيئة بمثلها، فالويل لمن غلبت آحاده عشراته. قال تعالى: ]إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [ (سورة هود: الآية 114) وقال r: ]وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا [ (رواه الترمذي، الحديث الرقم 1910).

4. المصائب الدنيوية: قال r: ]مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلاَ نَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ مِنْ خَطَايَاهُ[ (رواه أحمد، الحديث الرقم 7684). وعن أبي هريرة t لما نزل قوله تعالى: ]مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ شَقَّتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبَلَغَتْ مِنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَبْلُغَ فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ rَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ r قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَكُلُّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا[ (رواه أحمد، الحديث الرقم 781). فالمصائب نفسها مكفرة، وبالصبر عليها يثاب العبد، وبالسخط يأثم والصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه، ويكفّر ذنبه بها، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله، والصبر والسخط من فعله، وإن كان الأجر قد يحصل بغير عمل من العبد، بل هديةً، أو فضلاً من الله من غير سبب، قال تعالى:  ويؤت من لدنه أجراً عظيماً . وكثيراً ما يفهم من الأجر غفران الذنوب. وليس ذلك مدلوله، وإنما يكون من لازمه.

5. دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة، ودعاء إخوانهم واستغفارهم لهم بعد الممات.

6. ما يُهدى إلى الميت بعد الموت، من ثواب صدقة أو قراءة أو حج، ونحو ذلك.

7. شفاعة الشافعين بعد إذن الله ورضاه.

8. عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة، كما قال تعالى: ]وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[ سورة النساء: الآية 48). فإن كان ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه، فلا بد من دخوله إلى الكير، ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه، فلا يبقى في النار من قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، بل من قال: لا إله إلا الله، وإذا كان الأمر كذلك، امتنع القطع لأحد معين من الأمة، غير من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، ويبقى الرجاء للمحسنين، والخوف على المسيئين.