إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات اقتصادية / البترول (اقتصادياً)، البترول وتأثيره في اقتصاديات الدول









الفصل الخامس

الفصل الخامس

أسعار البترول في ظل الضغوط على قوانين السوق

وأثرها على الاقتصاد العالمي

تبين مما سبق أن أسعار البترول قد تعرضت وما زالت لضغوط الجهات الثلاث:

1.   الشركات المستثمرة للبترول.

2.   والدول المنتجة.

3.   والدول المستهلكة.

          ويؤدي ذلك إلى حقيقة لا ريب فيها، هي أن البترول ـ على عكس معظم السلع التي تباع في الأسواق العالمية ـ لم يعد مورداً يمكن تحديد المتاح منه من خلال قوانين السوق فقط، بل أصبح سلعة سياسية. بل ويتحدد سعره والمتاح منه بناءَ على عدد لا يحصى من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فضلاً عن قوانين العرض والطلب أيضاً.

          وفوق كل ذلك، فإن نفوذ الشركات المستثمرة للبترول والدول المستهلكة له، والدول المنتجة للبترول (التي استعادت سيطرتها على ثرواتها البترولية عن طريق منظماتها)، هي كلها التي تتحكم في هذه العوامل، بل هي التي تخلقها خلقاً خلال المواجهات الضارية التي تنشب بينها.

          إن الحديث عن أسعار البترول سواء في حالة ارتفاعها الكبير في أعقاب حرب أكتوبر والسنوات التالية له، أو في حالة انخفاضها ابتداءً من شهر مارس 1983، تناول بالتحليل الآثار السلبية التي ترتبت على ارتفاع أسعار البترول في السبعينات، كما تضمن آثار انخفاض أسعار البترول السلبية والإيجابية على الاقتصاد العالمي في الثمانينات.

أولاً: أسباب عدم استقرار أسعار البترول والضغوط التي أدت إلى تدهورها

          قد يكون من المناسب، قبل الحديث عن آثار تذبذب أسعار البترول، الإشارة إلى الأسباب التي أدت إلى ذلك، وتوضيح الظروف التي تحركت الأسعار في ظلها ارتفاعاً،  والكشف عن الضغوط المفتعلة، التي تدهورت بسببها الأسعار انخفاضاً.

أسباب الفورة النفطية (1974 ـ 1981)

          ورد في الفصل الثالث من هذا البحث، كيف تطورت عائدات دول الأوبك من الصادرات البترولية، وتأثير ذلك على اقتصاديات دول المنطقة العربية، حيث تم إنفاقها في الدول العربية النفطية على الواردات والتسليح ومشروعات البنية الأساسية والخدمات الاجتماعية والاستثمار في الخارج. كما أفادت الدول النفطية وشبه النفطية من تحويلات العاملين والقروض والمنح البترودولارية.

ومن الممكن توضيح أسباب هذه الفورة النفطية لارتفاع الأسعار في الإجابة على هذا السؤال:

هل جاءت الظروف التي أدت إلى هذه الفورة في الوقت الصحيح دون تأخير أو تقديم؟

          استطاعت الدول المصدرة للبترول في الشرق (المشرق والمغرب العربي) وفي الغرب (الولايات المتحدة والمكسيك وفنزويلا وجزر البحر الكاريبي) ـ قبل قيام منظمة أوبك في 1960 وفي ظلها ـ تطوير العلاقات التي تربطها بالشركات الاحتكارية المستثمرة، عن طريق تعديل مبدأ مناصفة الأرباح وعقد اتفاقيات المشاركة في ملكية الشركات، ثم قيام الدول المصدِّرة بالاستثمار المباشر لمواردها النفطية بعد أن انتهت مناهضة الشركات الاحتكارية للتأميم في عام 1974.

          وهكذا فرضت الدول المنتجة للبترول سيطرتها على منابع ثرواتها النفطية. وقامت منظمة الأوبك بالدور الأساسي في الهيمنة على البترول والانفراد بتحديد إنتاجه وأسعاره.

          لذلك يمكن القول بأن الظروف التي أدت إلى هذه الفورة النفطية جاءت في وقتها الصحيح، الذي واكب سيطرة الأوبك على مقدَّرات ثرواتها النفطية، وكفلت لها الحرية الكاملة في استخدام هذه الثروات لدعم المصالح العربية.

          ولو جاءت هذه الظروف قبل ذلك في ظل سيطرة الشركات الإحتكارية المستثمرة، لحرصت هذه الشركات على مجاملة الدول الصناعية الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي قد يفجِّر صداماً عنيفاً بين الدول المنتجة للبترول وهذه الشركات العاملة في أراضيها، والتي كان لا بد أن تعوق استخدام النفط لصالح أصحابه لو كان الأمر بيدها. ومع ذلك سيلقي هذا البحث الضوء فيما بعد على موقف هذه الشركات خلال الشهور السابقة على اندلاع حرب أكتوبر 1973 ليوضح كيف استغلت النفط العربي لتحقيق أرباح طائلة.

          عندما قامت حرب أكتوبر 1973، فجأة، واستطاع المصريون عبور قناة السويس واجتياز خط بارليف من أجل تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي، فوجئ قادة العرب بمساندة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية لإسرائيل بإرسال كافة المعدات العسكرية عن طريق جسر جوي متواصل، واشتراك فعلي في الحرب ضد مصر، لدرجة قلبت الموازين بإحداث الثغرة غرب قناة السويس، تعزيزاً لاحتلال إسرائيل للأراضي المصرية.

          لم يجد قادة العرب لديهم ـ في هذا الوقت العصيب ـ إلاَّ البترول العربي، لاستخدامه ـ استجابة للمشاعر العربية الملتهبة ـ أداة للضغط على الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، التي تساند إسرائيل رغم الظروف المعقدة دولياً في تلك الفترة. وكانت دولة الإمارات العربية الأولى من بين الدول العربية النفطية، التي أعلنت رسمياً تخفيض إنتاجها وإيقاف ضخِّه إلى الخارج، ثم تلتها بقية دول الخليج الأخرى.

          وفي هذه المناسبة، أطلق الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات عبارته التاريخية: "النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي" وقال أيضاً: "إن كرامة العربي هي الأغلى والدم العربي هو الأشرف، ودونهما يرخص المال والثروة".

          وعلى الفور، قرر مجلس وزراء الدول العربية المصدرة للبترول (أوابك) في 8 أكتوبر 1973 البدء في خفض فوري للإنتاج بنسبة 5% شهرياً، وقطع إمدادات البترول العربي عن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية التي تساند إسرائيل.

          أما المملكة العربية السعودية فقد قامت بخفض إنتاجها بنسبة 10% قبل أن تعلن مع الإمارات والكويت والبحرين وقطر والجزائر وليبيا وقف تصدير بترولها للولايات المتحدة الأمريكية.

          توالت ردود الفعل الغربية إزاء هذا التحرك العربي، فأعلن فريدريك دنت وزير التجارة الأمريكي ـ في ذلك الوقت ـ أن خفض إنتاج البترول أمر يثير قلق واشنطن بعد العجز الذي حدث في الواردات البترولية الأمريكية، والذي تم تقديره حينذاك 200 ألف برميل يومياً. كما تم إخطار شركات الطيران بتخفيض رحلاتها الداخلية والخارجية توفيراُ للوقود، مع الدعوة التي وجهتها الحكومة الأمريكية إلى ترشيد استهلاك الطاقة.

          وفي بريطانيا أعلن المسؤولون أن برنامج مواجهة التضخم أصبح مهدداً بسبب قرارات الدول العربية المصدرة للبترول، الأمر الذي يهدد ميزان المدفوعات البريطاني.

          كما أظهر استطلاع للرأي العام في لندن أن 70% من الشعب البريطاني يطالبون حكومتهم بتحسين العلاقات مع العرب ضماناً للإمدادات البترولية.

          كذلك اتسمت مواقف دول الخليج العربية بالقوة حين أعلن العاهل السعودي الملك فيصل بن عبدالعزيز في برقية إلى هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي:

"إن البركان الساكن انفجر، وأن الدمار لن يعم المنطقة وحدها، وعلى الولايات المتحدة الأمريكية التزام الحيدة".

          وكان الملك فيصل يرد على رسالة بعثها كيسنجر طالب فيها التوسط لدى مصر وسورية لوقف إطلاق النار.

          وفي غمار هذه المشاعر الفياضة، التي جسَّدت تضامن كافة الدول العربية في المشرق والمغرب العربي وتماسك العرب وتضامنهم، حدثت الصدمة الأولى لارتفاع الأسعار، التي رفعت فيها منظمة أوبك أسعار النفط الخام من 3.2 إلى 10.5 دولار للبرميل. (وكانت المنظمة قد نجحت عقب مؤتمر طهران عام 1971 من خلال مفاوضاتها مع شركات النفط المستثمرة في رفع سعر برميل النفط من 1.8 إلى 2.8 دولاراً. وبعد تخفيض قيمة الدولار الأمريكي مرتين ارتفع سعر برميل النفط إلى 3.2 دولاراً).

          وعندما قامت الثورة الإيرانية عام 1979 تقلَّص إنتاج النفط الإيراني بسبب رغبة حكومتها في تخفيض الإنتاج إلى الحد الذي يكفي الاحتياجات الضرورية لعملية التنمية الاقتصادية فقط. ثم انخفض الإنتاج مرة أخرى بعد اندلاع الحرب مع العراق في شهر سبتمبر 1980، مما ساهم في حدوث الصدمة الثانية لارتفاع الأسعار، التي ارتفع فيها سعر برميل النفط إلى 30 دولاراً عام 1980 وإلى 34 دولاراً عام 1981.

توجيه النقد لسياسات دول منظمة أوبك وللدول العربية

          هذه هي أسباب الفورة النفطية لارتفاع الأسعار (1974 ـ 1981)، والظروف التي أدت إليها. ويحلو لكثير من المحللين توجيه النقد لدول منظمة أوبك لرفع أسعار البترول أثناء الفورة النفطية الأولى أكتوبر (1974)، وللدول العربية لحظر إمداد النفط.

          كما يوجهون النقد لدول منظمة أوبك لانتهازها قيام الثورة الإيرانية عام 1979 ثم الحرب العراقية الإيرانية عام 1980 لرفع معدلات إنتاجها، وخاصة السعودية التي رفعت إنتاجها إلى 11 مليون برميل يومياً. وفي ذات الوقت رفعت أوبك أسعارها الرسمية حتى بلغت 34 دولاراً لبرميل النفط. ولم تضع في اعتبارها سياسات الطاقة التي سارت عليها الدول الصناعية، وخاصة في مجال المخزون الإستراتيجي للطوارئ وترشيد الاستهلاك.

          والحجة التي تذرَّع بها هؤلاء النقاد في ذلك، أن هذه الإجراءات قد أثارت ضغينة الدول الغربية والولايات المتحدة، التي تفنَّنت بعد ذلك في إجبار العرب على رد ما آل إليهم من العائدات النفطية عن طريق رفع أسعار صادراتها من المواد الغذائية والمعدات والأسلحة، فضلاً عن تدبير الخطط لتهميش بترول الخليج وخفض أسعاره.

اتهام الولايات المتحدة الأمريكية بتأييدها رفع الأسعار في السبعينات

          كما يحرص فريق من خبراء الاقتصاد على اتهام الولايات المتحدة الأمريكية بأنها كانت وراء ـ أو كان من مصلحتها ـ رفع أسعار البترول في السبعينات (أي أثناء الفورة النفطية 1974 ـ 1981) حتى يتسنى للشركات البترولية تحويل جزء من استثماراتها إلى الولايات المتحدة، كما أن ارتفاع سعر البترول يقلل من المقدرة التنافسية لمنتجات الصناعة اليابانية والأوروبية وذلك برفع تكلفتها ... الأمر الذي يجعل الولايات المتحدة الأمريكية الممون الرئيسي لليابان وأوربا.

          إزاء هذا النقد الموجه لمنظمة أوبك بشأن رفع الأسعار والنقد الموجه لقادة العرب للحظر البترولي  في أكتوبر 1973. وإزاء الاتهام الموجه للولايات المتحدة بأنها كانت وراء هذا الرفع لأسعار البترول. وإزاء النقد الموجه لسياسة أوبك لرفع الأسعار وزيادة الإنتاج إلى مستويات قياسية عام 1979 ـ 1980، وما يتضمن ذلك من نقد للسعودية، التي رفعت إنتاجها إلى 11 مليون برميل يومياً. وإزاء تكرار هذه الانتقادات في معظم الكتب التي تناولت أحداث ما بعد أكتوبر 1973 حتى وقتنا هذا، ونقلاً عن بعضا البعض. فإنه يتحتم على هذا البحث أن يتصدى إلى سرد حقائق هذه المواقف كلها بالتفصيل، حتى ولو طال به الحديث.

ففيما يتعلق بالنقد الأول

          كان الحرص على توضيح هذه الظروف في إيجاز لاثبات أن تصرف العرب بالنسبة لحظر البترول ـ الذي أصبح بعد ذلك موضع نقد ـ لم يكن إلا تعبيراً عن انفعالهم بأحداث حرب أكتوبر 1973، وأصدق رد فعل على دعم الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية لإسرائيل عسكرياً ودولياً، وإعلاناً لغضب واستياء قادة العرب تجاه الظلم الفادح الذي تمارسه هذه الدول نحو الدول العربية.

          وما كانت العائدات البترودولارية التي آلت إلى كافة دول أوبك بسبب ارتفاع أسعار البترول إلا جزءاً ضئيلاً من مليارات الدولارات التي اغتصبتها الشركات الاحتكارية المستثمرة والدول التي تنتمي إليها طوال عشرات السنين الماضية من استغلال البترول العربي.

          فهل كان من الممكن أن يتجاهل قادة العرب تلك الأحداث، ويستمر إمداد الدول المعادية للعرب بالبترول وبأرخص الأسعار؟

          مع العلم بأن ظروف الفورة النفطية سواء بالنسبة لحرب أكتوبر أو قيام الثورة الإيرانية ثم الحرب العراقية الإيرانية لم تكن إلا نتيجة لازدياد الطلب على النفط العربي وتكالب الدول المستوردة عليه خوفاً من حدوث أزمة بترولية.

          ومما يؤكد سلامة تصرف العرب أثناء حرب أكتوبر 1973 ما جاء في كتاب جديد صدر في لندن في 15 أكتوبر 1998 للسير إدوارد هيث (82 عاماً) زعيم حزب المحافظين في الفترة 1965 ـ 1975، ورئيس وزراء بريطانيا من عام 1970 إلى 1974 بعنوان "مسيرة حياتي" The Course of my life.

          تضمن هذا الكتاب فصلاً عن حرب 6 أكتوبر 1973 وتأثيراتها على بريطانيا وأوربا ودور سلاح البترول العربي في هذه المعركة.

          ويروي إدوارد هيث كيف تصرف من موقعه كرئيس لوزراء بريطانيا لمواجهة تأثيرات استخدام العرب لسلاح البترول. وكيف استطاع العرب بوقوفهم يداً واحدة تغيير وجهة النظر الأوربية بشأن الصراع الإسرائيلي.

          يقول هيث: "إن حرب أكتوبر 1973 قد فاجأتنا كما فاجأت زعماء العالم آنذاك وكانت الأولوية الفورية العمل على احتواء النزاع. ولكن التهديد الأكبر جاء عندما جرى الكشف عن تحركات سوفيتية، وعندما وضعت الولايات المتحدة الأمريكية قواتها المتمركزة في أوربا بما فيها تلك الموجودة في بريطانيا في حالة تأهب قصوى. وقد فعلت أمريكا ذلك دون إبلاغنا أو إبلاغ أي حكومة أوربية أخرى.

          وكموقف مشترك لكل أعضاء دول المجموعة الأوربية ـ ما عدا هولندا ـ فقد رفضنا السماح للولايات المتحدة بأن تبعث بمعدات وأسلحة إلى إسرائيل من قواعدنا. ولأن قبرص لم تكن متاحة للولايات المتحدة، فإن الأمريكيين زودوا إسرائيل بالأسلحة من جزر الآزور في المحيط الهادي".

          ويستطرد هيث قائلاً: "في 16 أكتوبر 1973 أعلن وزير الخارجية البريطاني أننا لن نزود أياً من الطرفين بالأسلحة. وفيما يتعلق بقضية البترول، فإن المنتجين العرب أدركوا أن البترول سلاحهم الأكثر فعالية في الحرب من أجل تحقيق تسوية في الشرق الأوسط. ورغم ارتفاع تكلفة السلع في العالم منذ عام 1972، فإن الزعماء العرب لم يقتنعوا بالحفاظ على سعر البترول كما هو. فقد كانوا يرغبون في تنمية اقتصادياتهم. إن منظمة الأقطار المصدرة للبترول (أوابك) زادت سعر البترول مرتين في أوائل 1973 ولكن بنسبة ضئيلة. وبعد اجتماع في الكويت في 16 أكتوبر 1973 تقرر خفض إمدادات البترول بنسبة 5% كل شهر، وفرض حظر كامل على صادرات البترول لأمريكا وهولندا".

          وكرد فعل على الموقف العربي القومي الموحد، تزعمت بريطانيا ـ حسب قول إدوارد هيث ـ حملة دبلوماسية أوربية للاستجابة للموقف الراهن، حيث صدر في 6 نوفمبر 1973 عن المجموعة الأوربية بيان دعا إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة واحترام حقوق الفلسطينيين تنفيذاً لقرار مجلس الأمن 242.

          ويقول هيث "إنه نتيجة لالتزامنا بخط الأمم المتحدة جرى ومعاملتنا مع فرنسا كدولة صديقة من جانب الدول العربية المنتجة للبترول وعلى رأسها السعودية".

ويسترجع هيث ذكرياته ليقول:

          "إن هذه الأزمة البترولية بسبب حرب أكتوبر 1973 أصابت سياساتنا الخارجية بالفوضى، ولكن الأسوأ من ذلك ما حدث على الساحة الداخلية. فبعد أربعة أيام فقط من الحرب، طالب عمال المناجم بزيادة أجورهم بنسبة 50% نتيجة تزايد الاعتماد على الفحم. وعندما عرض عليهم مجلس الفحم الوطني 13% زيادة فقط رفضوا وتصاعد التهديد من جانبهم بالإضراب".

          ولأول مرة ـ في زمن السلم في بريطانيا ـ بدأ المواطنون في بذل جهود حقيقية لتقليل استهلاك الطاقة. وكانت الأزمة سبباً في إنشاء وزارة مستقلة للطاقة بعد أن كانت تتبع وزارة التجارة والصناعة.

          كما اتخذت حكومة هيث إجراءات عديدة لتخفيض استهلاك البترول، فقد أعلنت الحكومة أمام مجلس العموم البريطاني في 13 ديسمبر 1973 تخفيض أيام العمل إلى 3 أيام فقط في الأسبوع. وأن المؤسسات الصناعية أصبحت تتلقى كهرباء خمسة أيام فقط في الأسبوع. أما التليفزيون فينهى إرساله الساعة العاشرة والنصف مساء كل ليلة. ولم يكن ما حدث في بريطانيا سوى نموذج لما حدث في الدول الأوربية الأخرى. كما أثر ارتفاع أسعار البترول على النمو الاقتصادي في جميع الدول.

          إن الأزمة التي عبَّر عنها هيث بدقة تكشف عن مدى الدور الذي لعبه سلاح البترول العربي، ومدى التغيُّر الذي حدث لمواقف الدول الأوربية، التي كانت تهتم فقط بتأمين احتياجاتها من البترول لمصانعها ورفاهية مواطنيها دون اكتراث بحقوق العرب وقضيتهم العادلة.

          وإذا لم يكن ذلك كافياً لتبرير تصرف العرب الذي أملته عليهم مشاعرهم وضمائرهم لمواجهة ما حدث في حرب أكتوبر 1973، فإن الحقيقة تخلص فيما يلي:

انقضى عشرة أيام كاملة على نشوب القتال، عندما انعقد اجتماع مجلس وزراء منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (أوابك) لاتخاذ قرار استخدام البترول سلاحاً للضغط على إسرائيل. وكان اجتماع المجلس بناء على دعوة من حكومة جمهورية مصر العربية في 12 أكتوبر 1973 موجهة إلى الوزير بلعيد عبدالسلام وزير النفط الجزائري في ذلك الوقت ورئيس دورة أوابك بعقد اجتماع استثنائي لمجلس وزراء المنظمة إعمالاً للمادة 30 من اتفاقية إنشاء أوابك والتي تنص على أنه:

"          إذا تعرَّض عضو لطارئ مفاجئ وجسيم فله أن يطلب عقد اجتماع استثنائي للمجلس للنظر في وسائل مساندته".

          وهكذا تحدد يوم 17 أكتوبر 1973 موعداً لانعقاد المجلس في الكويت. وأصبحت الفرصة سانحة لتسوية موضوع الأسعار بقرار من جانب واحد، حيث اجتمع وزراء منظمة أوبك في الكويت يوم 16 أكتوبر 1973 وصدر قرارهم برفع الأسعار المعلنة بنسبة تدور حول 70% فزاد سعر الخام العربي (خام الإشارة) من 3.011 دولاراً للبرميل إلى 5.119 دولاراً للبرميل.

          وفي اجتماع 17 أكتوبر 1973 لمنظمة أوابك تبنَّت السعودية مشروع قرار الحظر البترولي، وتولت صياغته بنفسها، حيث صدر بخفض فوري بنسبة 5% من معدلات سبتمبر 1973 كبداية ثم يزداد بنسبة مماثلة كل شهر. وحظر تصدير البترول إلى الولايات المتحدة والدول الغربية التي تساند إسرائيل.

          وفي 4 نوفمبر 1973 تقرر زيادة الحد الأدنى لخفض الإنتاج إلى 25% على أن يتوالى التخفيض بعد ذلك بنسبة 5% من معدل إنتاج ديسمبر 1973. وقد تحقق خفض فعلي في الإنتاج بنسبة 30% من جانب السعودية والكويت.

          بدأت الضغوط داخل منظمة أوبك تشتد حيث ظهر اتجاهان:

أولهما: استغلال الندرة التي يعاني منها السوق برفع الأسعار إلى أقصى حد ممكن. وتزعم شاه إيران اتجاه رفع السعر إلى 17 دولاراً للبرميل.

ثانيهما: اتجاه الجانب السعودي إلى الاعتدال الذي يؤكد أن سعراً يدور حول ثمانية دولارات للبرميل يُعتبر سعراً عادلاً.

          وشهد اجتماع أوبك في طهران في 22 ديسمبر 1973 معركة حامية حول هذا الموضوع. وكان طبيعياً أن يلقى الموقف الإيراني تعاطفاً من جانب بلدان أوبك الأخرى، بينما أيدت دول الخليج الموقف السعودي، وانتهت المعركة إلى الاتفاق على تحديد سعر 11.65 دولاراً للبرميل لخام الإشارة (العربي الخفيف كثافة 34 درجة) اعتباراً من أول يناير 1974. وهكذا حدث ما يُعرف بالصدمة الأولى لارتفاع الأسعار.

          هذه إحدى حقائق الموقف. ولولا مقاومة السعودية لتحققت زيادة في الأسعار بأكثر من ذلك.

          وهذه هي حقيقة تصرف العرب، إبان تلك الظروف الدقيقة، وكان الأجدى بالكتاب توجيه الشكر بدلاً من توجيه النقد للعرب.

          أما فيما يتعلق باتهام الولايات المتحدة الأمريكية بأنها كانت وراء ـ أو كان من مصلحتها ـ رفع الأسعار في السبعينات.

          فالحقيقة توحي بأن موقف إيران من موضوع الأسعار كان محل موافقة وتأييد من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وشركات البترول الأمريكية على السواء، على الرغم من المعارضة الظاهرية لاتجاه رفع الأسعار.

          ولكن كما يبدو كان الموقف الأمريكي ذا وجهين، فأمريكا تبدي ملاحظات ضعيفة للسعودية تُعبِّر بها عن عدم رضاها عن مبدأ زيادة الأسعار، ولكنها من ناحية أخرى تعبِّر للإيرانيين عن رضاها بمستوى السعر الجديد.

          وقد أوضح الشيخ زكي يماني ـ ممثلاً للحكومة السعودية ـ هذا التناقض بقوله: "إن الفائدة الحقيقية للولايات المتحدة الأمريكية هي الاحتفاظ بأسعار البترول في مستوى مرتفع. وإنني لا أذكر أن الدكتور هنري كيسنجر قد أثار موضوع أسعار البترول معنا، مع أنه يتحدث معنا في مناسبات كثيرة، وهو أمر معروف للجميع أن كل مصلحتهم تتركز في زيادة سعر البترول، وهذا قرار سياسي بالدرجة الأولى ثم هو قرار اقتصادي بعد ذلك".

          ومن الحقائق التاريخية المعروفة أن الرئيس السادات أطلع الملك فيصل في إبريل 1973 على اعتزامه شن حرب محدودة ضد إسرائيل في خريف ذلك العام بهدف تحريك الموقف.

          وقد اعترف فرانك يونجرز ـ مدير شركة أرامكو السعودية ـ أن الملك فيصل قد دعاه على مائدة الغذاء في 3 مايو 1973 ووجه إليه تحذيراً من أن الصهاينة والشيوعيين يتصرفون على النحو الذي من شأنه أن يؤدي إلى طرد المصالح الأمريكية من المنطقة. وإن كل ما هو مطلوب من الولايات المتحدة هو التعبير البسيط عن عدم موافقتها على سياسات إسرائيل وتصرفاتها.

          ومن خلال أرامكو أحيط نيكسون رئيس الولايات المتحدة كما أُحيطت بقية عناصر شركات البترول الاحتكارية العالمية علماً بالتحذير المشار إليه.

          وكان رد الفعل ـ كما أثبتته الأرقام ـ أن بدأت شركات البترول من حوالي منتصف مايو 1973 (أي قبل خمسة أشهر من نشوب حرب أكتوبر 1973) تزيد معدلات إنتاجها من جميع دول الخليج العربي باستثناء الكويت. والواقع أنه لا يوجد تفسير معين لاستثناء الكويت سوى ما ذكره بعض الخبراء بعد ذلك من أن السبب هو رداءة نوعية الخام الكويتي وارتفاع محتواه الكبريتي.

          وقد ورد بمجلة البترول المصرية أنه جاء في تقرير الخبير الأمريكي المعروف الدكتور جون بلير نُشر في عام 1975، أن شركات البترول الأمريكية قد استخدمت كافة الوسائل المتاحة للتخزين، بما في ذلك جميع ناقلات البترول المتعطلة، ومحطات التخزين القديمة المهجورة، وآبار البترول الناضبة المغلقة كمستودعات لتخزين الكميات الإضافية التي سحبتها من حقول الخليج والمناطق الأخرى. وأكد جون بلير في تقريره أن الأرقام الرسمية المعلنة لعام 1973 لا تعبِّر عن حقيقة معدلات الإنتاج في الفترة من مايو إلى أكتوبر 1973. وقد حققت عمليات التخزين، التي انتهزت شركات البترول الفرصة وقامت بتكثيفها، هدفين خلال الفترة المذكورة:

الأول: أن توجيهها إلى المخزون الاستراتيجي قد تم بعيداً عن تيار الإمداد الطبيعي، وبالتالي لم تؤثر هذه العمليات في زيادة الأسعار.

والثاني: أن تلك الكميات تمثل مخزوناً هائلاً تم تكوينه بأرخص الأسعار (كان السعر في ذلك الوقت 3 دولارات في المتوسط) لتباع بأربعة أمثالها بعد حدوث زيادة الأسعار.

كذلك نقلت مجلة البترول المصرية السابقة الإشارة إليها عن Ian Seymour قوله:

"          أن دول الخليج العربي الأعضاء في منظمة أوبك ـ على الرغم من ارتباطها الوثيق بالمعسكر الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية ـ وجدت نفسها في مواجهة رسمية مع الولايات المتحدة بسبب انحيازها العملي الكامل لإسرائيل في حرب أكتوبر 1973. ولكن هذا التناقض لم يشكل عائقاً أمام قضية الأسعار، وإنما على العكس كان عاملاً مساعداً على إحكام الخطوات، أغرى الإدارة الأمريكية ومعها شركات البترول وشاه إيران (عن أوبك) على المضي في استثمار الموقف الناشئ عن الحرب والحظر البترولي الذي فرضه العرب.

          وهكذا راحت الإدارة الأمريكية وشركات البترول الدولية تعمل على إشاعة الذعر والاضطراب في كل مكان. ولم تتورع الشركات عن طريق إعادة برمجة شحناتها عن توزيع المتاعب إلى درجة قطع الإمدادات كلية عن بعض الدول الفقيرة في العالم الثالث. ثم أخذت تقيم مزادات عالمية لبترول نيجيريا وإيران واندونيسيا وغيرها. وهي مزادات كانت فيها الشركات هي البائع والمشتري، الأمر الذي جعل الأسعار المحققة في السوق الفورية تطفو إلى ما يتراوح بين 17 و 24 دولاراً للبرميل من النفط".

          وخلال الأسابيع التي تلت 4 نوفمبر 1973 (الاجتماع الثاني لوزراء البترول العرب الذي تقرر فيه زيادة الحد الأدنى لخفض الإنتاج إلى 25%) جرت اتصالات مستمرة بين نيكسون وشاه إيران انتهت بأن وجَّه الشاه الدعوة إلى دول أوبك لعقد اجتماع في طهران يوم 22 ديسمبر 1973.

          وفي ذلك الاجتماع حدث صدام بين الشاه والشيخ زكي يماني. فبينما طالب الشاه بزيادة سعر خام الإشارة إلى 17 دولاراً للبرميل، بما يتمشى مع سعر السوق الفورية، تمسك يماني بأن يقف السعر عند 8 دولارات فقط، وانتهت المناقشات إلى قرار برفع سعر خام الإشارة إلى 11.65 دولاراً للبرميل من النفط، كما ذكرنا من قبل.

          ويؤكد هذه المعلومات التي وردت مرجعين مختلفين، ما جاء بكتاب سير ادوارد هيث ـ الذي صدر حديثاً في 15 أكتوبر 1998 ـ حيث تطرق الزعيم البريطاني المخضرم إلى دور شركات البترول العالمية ـ التي كانت ضالعة في تشكيل الأحداث السابق ذكرها ـ في تعميق الأزمة بالنسبة لبريطانيا حيث يقول:

"          إن مشكلة بريطانيا الدبلوماسية في ذلك الوقت كانت منصبة على شركات البترول، فقد كان الاعتماد على هذه الشركات مشكلة كبرى، فقد كان سعر البترول في بريطانيا أقل كثيراً مما كان عليه في الدول الأوربية، وكانت الشركات البترولية ترغب في تحقيق أكبر ربح ممكن. وقد دعوت رئيس شركة شل وبريتش بتروليوم للاجتماع بي. ولكنني واجهت معارضة كاملة للتعاون من جانبهما. ولم يكن أمامي سوى اتخاذ أي إجراء ممكن لمساعدة الشعب البريطاني في هذا الوقت الخطير" .

          وبعد سرد هذه الحقائق، يُمكن استنتاج مدى صحة هذا الاتهام الموجَّه إلى الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة لرفع أسعار البترول عام 1973، وليس بالنسبة لحظر إمدادها به.

          أما بالنسبة للنقد الثالث الذي يتعلق بعدم سلامة سياسة دول أوبك عام 1979/ 1980، فالحقيقة تتمثل فيما يلي:

          عندما قامت الثورة الإيرانية عام 1979 تناقص دور إيران داخل منظمة أوبك، واتجهت السعودية إلى دور الريادة في المنظمة في أواخر السبعينات. وقد ظلت السعودية تقوم بدورها تجاه المنظمة على الرغم من الخلافات المستمرة بصدد سياسات التسعير. فقد كانت السعودية الدولة الوحيدة في أوبك، التي استشعرت خطر الزيادات الكبيرة في الأسعار.

          ففي الفترة من 1979 حتى 1982 رفضت السعودية مسايرة الأسعار المعلنة لخام الأساس في مبيعاتها لشركاتها في مجموعة أرامكو، مما أدى إلى ظهور نظام مزدوج للتسعير. وسعت السعودية عن طريق البيع بأسعار تقل عن أسعار السوق، ورفع مستويات إنتاجها لتحقيق التوازن حتى لا تؤدي الأسعار المبالغ فيها إلى الإسراع بإحلال مصادر الطاقة البديلة وبرامج الحفاظ على الطاقة وترشيد الاستهلاك.

          وفي عام 1983 انخفض الطلب العالمي على البترول، وأصبح سعر أوبك المعلن لخام الأساس 34 دولاراً للبرميل، وهو سعر مرتفع جداً بالمقارنة بأسعار صفقات السوق الفورية وأسعار صادرات بعض أعضاء منظمة أوبك.

          ومرة أخرى أكدت السعودية على ضرورة الحفاظ على السعر التنافسي للبترول واتفقت مع أعضاء أوبك على إعلان خفض سعر خام الأساس رسمياً مع تحديد حصص إنتاج لجميع الأعضاء. ولكن التخفيض بمعدل 15% المعلن رسمياً لم يحقق الهدف المرجو، بل انخفضت أسعار السوق الفورية، وتوسعت الدول غير الأعضاء في أوبك وكذلك بعض أعضاء أوبك في زيادة معدلات صادراتها.

          وعلى الرغم من ذلك استمرت السعودية تفي بالتزامها تجاه منظمة أوبك حتى عام 1985 حيث اقتنعت بعدم جدوى التزامها. فقد وصل إنتاجها في منتصف 1985 ما لا يزيد عن 2 مليون برميل يومياً، وبلغت صادراتها حوالي 1.5 مليون برميل يومياً (كانت صادرات السعودية حوالي 10 ملايين برميل يومياً في أوائل الثمانينات). وهذا يعني أن السعودية قد سحبت من السوق العالمية ما يزيد على 8 ملايين برميل يومياً، مما أدى إلى الحد أو إلى إبطاء تناقص أسعار البترول. وقد أدى ذلك إلى خفض حصة السعودية في السوق الدولية وبالتالي انخفضت عوائد صادراتها من البترول. وجاءت النتائج عكسية بتوسع دول أخرى في حصتها من السوق مثل الاتحاد السوفيتي ودول بحر الشمال.

          كما أدى ذلك إلى زيادة مبيعات الغاز السوفيتي إلى دول أوربا الغربية وتشجيع الاستثمارات في مجالي المحافظة على الطاقة والتحول إلى الطاقة البديلة، فضلاً عن تراجع معدلات طلب العالم الصناعي على البترول بشدة.

          ولما كانت عوائد البترول تشكِّل المصدر الوحيد تقريباً لموارد النقد الأجنبي بالنسبة للاقتصاد السعودي، حيث يُعتبر إنتاج البترول والأنشطة المتعلقة به مصدر ثلثي الدخل القومي.

          فقد بدأ ميزان المدفوعات السعودي منذ عام 1982 ـ نتيجة للسياسة المعتدلة التي تسير عليها السعودية ـ يتأثر بانخفاض عائدات البترول، وظهر به عجز تمت تغطيته بالسحب من احتياطيات الدولة من النقد الأجنبي. وقد استمر السحب حتى أوائل عام 1986 لدرجة أن احتياطيها النقدي انخفض من 160 مليار دولار إلى ما يقل عن 70 مليار دولار.

          لذلك أعلنت المملكة العربية السعودية ـ مضطرة ـ عن تغيير سياستها البترولية حيث قررت القيام بمشاركة الدول العربية الخليجية باسترداد حقها من السوق العالمية بدلاً من التنازل عنه للدول المنتجة الأخرى. وبدأت المملكة في تنفيذ سياستها التي أطلق عليها (حرب الأسعار) والمطالبة بنصيب عادل في سوق البترول العالمي.

          كانت السعودية تعرف أن هذه السياسة ستؤدي إلى خفض أسعار البترول بشدة، ولكنها نظرت إلى أثر اتفاقيات التصدير في المدى القصير حيث زادت من انتاجها بسرعة تفوق انخفاض الأسعار، وإلى أثرها في المدى الطويل نظراً لإمكانية استرداد حصتها من السوق العالمية. وهذه السياسة تتمشى مع احتياطيات السعودية الضخمة ومع انخفاض تكاليف الإنتاج التي تحظى به.

          ولكن الفوضى التي اجتاحت أسواق البترول العالمية في عام 1986 نتيجة لحرب الأسعار قد أظهرت أن هدف هذه السياسة لم يكن له ما يبرره من الناحيتين الاقتصادية والمعنوية وذلك لأن الآثار والنتائج التي لحقت بصناعة البترول العالمية جعلت الأوبك، ومنها السعودية تراجع حساباتها في أواخر عام 1986. وتم تعيين الشيخ هشام ناظر وزيراً للبترول والثروة المعدنية بالسعودية خلفاً للشيخ زكي يماني. وأعلنت منظمة الأوبك بمبادرة من السعودية خطأ سياسة حرب الأسعار، وضرورة نبذها والعودة إلى نظام التقيد بحصص الإنتاج والسعر الرسمي للأوبك، والعمل على امتصاص الفائض من الأسواق بهدف إيجاد توازن دقيق بين كل من العرض والطلب العالميين للمحافظة على استقرار السوق والأسعار.

          وقد أدى اتباع هذه السياسة إلى تحقيق استقرار ملحوظ في أسواق البترول العالمية، وإلى استعادة الأسعار لبعض قوتها، حيث دارت الأسعار حول 18 دولاراً للبرميل بعد أن تدنت إلى ما دون الدولارات العشرة.

          ويتبين ـ بعد هذا العرض ـ أن رفع السعودية إنتاجها إلى مستويات كبيرة ـ أثناء الفورة النفطية الثانية عقب الثورة الإيرانية ـ كان بهدف تحقيق التوازن، لأنها كانت تبيع بترولها بأقل من أسعار السوق، ولم تكن زيادة الإنتاج بهدف زيادة الأرباح.

          بهذا تناول البحث أسباب الفورة النفطية الأولى (أكتوبر 1974) والفورة النفطية الثانية (عقب الثورة الإيرانية وقيام الحرب العراقية الإيرانية) وظروفها، والرد على الانتقادات الموجهة لمنظمة الأوبك بصدد رفع الأسعار، ولقادة العرب الخليجيين بشأن الحظر البترولي، وللولايات المتحدة بسبب تأييدها لرفع الأسعار.

          ومن المؤكد بعد ذلك أن قيام منظمة الأوبك بتحديد أسعار بترولها ما هو إلاَّ حق أصيل لها كانت الشركات الاحتكارية المستثمرة قد اغتصبته منها طوال عشرات السنين الماضية، وحققت من ورائه والتلاعب بإنتاجه وتسويقه مكاسب طائلة لها وللدول الأجنبية التي تنتمي إليها.

          ويسجل البحث بعد ذلك عتاباً مريراً على وسائل الإعلام الغربية، التي ـ على الرغم من أنها على علم تام بالحقائق المذكورة آنفاً ـ قد افتعلت ضجة كبرى ضد ارتفاع الأسعار بمساندة من حكوماتها وركزت اللوم كله على الدول العربية بما فيه من تجاوز للحدود وتطاول في القول والهجوم، مع أن منظمة الأوبك هي التي رفعت الأسعار تصحيحاً للأوضاع ورفعاً للظلم والاستغلال، الذي مارسته الشركات الاحتكارية طوال عقود، ولم تكن الدول العربية إلا جزءاً من منظمة الأوبك، ولم تكن أزمة البترول إلاّ مؤامرة مفتعلة كما اتضح من خلفيات الأحداث.

          ولكن الإعلام الغربي شنَّ حملات دعائية ضد العرب وساهم في تشويه صورة الدول العربية ومنظمة أوبك في أذهان الناس في الدول المستهلكة للبترول على أنها تمثل الجشع الذي يريد امتصاص ثروات الشعوب. بل وجسَّدت استخدام سلاح البترول في المعركة على أنه كارثة محققة سوف تحل بدول العالم الصناعي. ونسوا أن دول الغرب هي التي امتصت ثروات الدول العربية بما فيها من مواد أولية ومن بينها البترول منذ زمن سحيق.

          ويواصل البحث الحديث عن أسعار البترول في ظل الضغوط على قوانين السوق وأثرها على الاقتصاد العالمي، مع التركيزـ بإذن الله تعالى ـ على النقاط التالية:

  • الاعتبارات التي تؤيد وجهة نظر منظمة أوبك في تحديد أسعار بترولها منذ أن تولت المنظمة هذه المسؤولية في أواخر عام 1973.
  • آثار ارتفاع أسعار البترول في السبعينيات على الاقتصاد العالمي.
  • آثار انخفاض أسعار البترول في الثمانينات على الاقتصاد العالمي.

          وسوف يقتصر الفصل السادس من هذا البحث على الحديث عن تذبذب أسعار البترول ارتفاعاً وانخفاضاً في التسعينات.