إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / فنون وإعلام / ولاّدة بنت المستكفي









شهيرات العرب:

ولاّدة بنت المستكفي

 

هُوِيَّتُها ونسبُها

يذكرها المقَّري التلمساني في سفره المهم "نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرطيب"، وهو يتحدث عن أخبار النساء في الأندلس، فيقول عنها بينهنّ: "ومن أشهرهنّ ولاّدة بنت المستكفي بالله محمد بن عبدالرحمن بن عبيدالله بن الناصر لدين الله، وكانت واحدة زمانها، المشار إليها في أوانها، حسنة المحاضرة، مشكورة المذاكرة...".

لم تذكر المصادر الأولي تاريخ مولدها، على الرغم من ذكرهم أنها عاشت قرابة ثمانين عاماً، كما سنعرف، ولكنهم ذكروا تاريخ وفاتها، فصاحبة أخبار النساء تذكر أنها: "ماتت لليلتين خلتا من صفر سنة ثمانين وأربعمائة، وقيل أربعة وثمانين وأربعمائة رحمها الله تعالى".

وولادة أميرة من نسل الملوك، فأبوها المستكفي بالله كان خليفةً أندلسياً. ويذكر ابن بسَّام صاحب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، وهو واحدٌ من أهمّ مَنْ ترجموا لولادة، فيما ينقله عن أبي حيّان؛ أن والد ولاّدة "محمد بن عبدالرحمن الناصريّ، بويع يوم قُتلَ عبدالرحمن المستظهر، يوم السبت لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة، فتسمّى بالمستكفي بالله، اسماً ذُكر له فاختاره لنفسه، وحكم به سوء الاتفاق عليه، لمشاكلته لعبد الله المستكفي العباسي ـ أوّلَ مَنْ تَسَّمى به ـ في أفنه ووهنه وتخلفه وضعفه، بل كان زائداً عليه في ذلك، مقصّراً عن خلال ملوكيّة كانت في المستكفي سمَيِّه، لم يحسنها محمدٌ هذا لفرطَ تخلّفه، على اشتباهما في سائر ذلك كله: من توثبهما في الفتنة، واستظهارهما بالفسقة، واعتداء كل واحدٍ منهما على ابن عمٍّ ذي رحمٍ ماسّة، وتوسط كل واحدٍ منهما في شأنه بامرأة خبيثة، فلذلك حسناء الشيرازية، ولهذا بنت سَكرى المورورية، فأصبحا في ذلك على فرط التنائي عبرة".

يتضح من كلام ابن بسَّام أنَّ المستكفي لم يكن شخصية تاريخية سويَّة، تعدّ من رجالات التاريخ الحقيقيين، فهو خامل الذكر، متخلّف ضعيف، وقد كان اتفاق اسمه مع الخليفة العباسي المشرقي (المستكفي) من المفارقات، التي اتخذها ابن بسّام ذريعة للتندر عليه والانتقاص منه، فهما يتفقان تخلفاً وخمولاً وضعفاً، وإنْ زاد مستكفي ولادة عليه في كل هذه الصفات السلبية، كما أنهما من أصحاب الفتنة والدسيسة، وصلا إلى الحكم بطرق غير شرعية، بعد اعتداء كلٍّ منهما على ذوي رحم من أبناء العمومة، متوسَلَيْن بامرأتي سوء، هما حسناء الشيرازية للمستكفي العباسي، وبنت سَكْرى المورورية للمستكفي الأندلسيّ.

ولعلّ شخصيةً بهذا الوصف كانت مدار حديث المؤرخين عن هذا المستكفي خمولاً وضعفاً، تكشف عن مفارقة تاريخية فادحة، بين الوالد والبنت (ولاّدة)، تلك التي طبقت شهرتها الآفاق، وتطاير ذكرها، حتى صارت مدار الحديث اقتراناً بكل من اقترب منها، فابن زيدون، لُقِّب بصاحب ولاّدة، على الرغم من شهرته بذي الوزارتين، والمستكفي لقّب بوالد ولاّدة، على الرغم من أنه خليفة حتى صاحبتها مهجة القرطبية، وكانت شاعرة أيضاً، ولا تقل عن ولادة جمالاً، سمتها كتب التراث مهجة صاحبة ولاّدة، وعنها تقول صاحبة أَعلام النساء التي قرنتها ـ كبقية كتب التراث الأندلسي ـ بولادة: "كانت من أجمل النساء في زمانها، وأخفهنَّ، وعلقت بها ولاّدة ولازمت تأديبها، وكانت من أخفّ الناس روحاً، ووقع بينها وبين ولاّدة ما اقتضى أنْ تهجوها".

والحقّ أن شخصية المستكفي لم يذكرها كتاب الذخيرة وحده على هذا النحو من الإفلاس ـ وإنْ كان ما نقله ابن بسّام عن خموله وفسقه كثير؛ فالمقَّري في نفح الطيب يقول في حقّه: "وكان أبوها المستكفي (يعني ولادة) بايعه أهل قرطبة لمَّا خلعوا المستظهر، وكان جاهلاً ساقطاً، وخرجت هي في نهاية الأدب والظرف". ولعلّ كلام المقَّري يؤكد ما أشرنا إليه من مفارقة فادحة بين الأب الخليفة الساقط، والابنة الشاعرة المعلاَّة.

أخبارُها في كتب التراث الأندلسيّ

تتكرر أخبار ولاّدة بعامة، وأخبارها مع ابن زيدون بخاصة في كلّ ما وقعت عليه أيدينا من كتب التراث، ينقل اللاحق من السابق، لذلك فإنّ الأخذ من أيّها صحيح. ومن الحقّ في البداية أنْ نذكر أنَّ رؤى المؤرخين القدماء وعلى رأسهم ابن بسَّام في الذخيرة، والمقِّري في نفح الطيّب، والحجّاري في المسهب، وغيرهم، أوردوا من أخبارها ما يشوبه بعض التناقض حول شخصيتها وسلوكها، ربّما يدعم ذلك ما وجدوه في شعرها، وما صلنا منه قليل (سبعةٌ وعشرون بيتاً من خلال إحدى عشرة مقطوعة)، وهو بالطبع غير كافٍ ـ إنْ صحّ أنهم استدلوا من شعرها على طبيعة شخصيتها ـ للحكم الموضوعي، وإلاّ فإنَّ ما أوردوه من أخبار عن صفاتها النفسية والجسديَّة والعاطفية قليل. وسنلمح شيئاً من ذلك التناقض من خلال وصف المؤرخين عن شخصيتها أدبياً وأدباً وسلوكاً؛ يقول ابن بسَّام في الذخيرة: "وكانت في نساء أهل زمانها، واحدة أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظرٍ ومخبرٍ، وحلاوة موردٍ ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدىً لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرّتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتّاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حُجَّابها، وكثرة منتابها؛ تخلط ذلك بعلوّ نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب. على أنّها ـ سمح الله لها، وتغمد زللها ـ اطرّحت التحصيل، وأوجدَتْ إلى القول فيها السبيل، بقلة مبالاتها، ومجاهرتها بلذَّاتها. كتبت زعموا ـ على أحد عاتقي ثوبها:

أنا والله أصلح للمعالي                     وأمشي مشيتي وأتيه تيها

وكتبت على الآخر:

وأُمْكِنُ عاشقي من صحن خدِّي             وأعطي قُبلَتي من يشتهيها

هكذا، وجدتُ هذا الخبر، وأبرأ إلى الله من عهدة ناقليه، وإلى الأدب من غلط النقل إن كان وقع فيه".

أمّا المقِّري فيعلّق على البيتين السابقين بقوله: "وكانت مع ذلك مشهورة بالصيانة والعفاف". إنَّ ما أورده ابن بسَّام عن خبر ولاَّدة السابق، الذي يدور حول خلقها وسلوكها، يمكن أن يقف عنده المتلقي وقفة تدعوه إلى استجلاء شيء من التناقض، إذا ما تجاوز ما يمكن أن يكون موضوعياً من أخلاقها، من حيث جاذبية شخصيتها وحضورها وحسنها مظهراً وجوهراً، وكونها كانت تقيم ما يشبه في عصرنا صالوناً أدبياً في قرطبة يحضره الشعراء والأدباء مستمتعين بلطفها وظرفها وحلاوة عشرتها، حتى إذا ما وصل  إلى وصف ابن بسَّام لها بطهارة الثوب وكرم النسب، ثم وصفه لها بعد ذلك باطراحها التحصيل كناية عن تحررها، ثم قلة مبالاتها ومجاهرتها بلذّاتها بما يشي بتفلت أخلاقي، جعله يطلب لها من الله السماح، لَيَكْشِف عن تناقض، بين الخلقين؛ يزيده مفارقة البيتان الإباحيان، اللذان جعلا المقِّري في تناقضٍ جديد، يحترز بأنه رغم ذلك كانت مشهورة بالصيانة والعفاف، فكيف يجتمع نقيضان، حتى ولو كانت أخبارها، كما يلمِّح ابن بسَّام، تقع مسؤوليتها على مَنْ نُقِل عنه.

ومما يزيد الأمر حيرة ـ فيما يورده ابن بسَّام من أخبار ولاّدة الشاعرة ـ أنَّه سكت وفق ما تبناه في كتابه الذخيرة أخلاقياً؛ عن إيراد نماذج من شعرها، تذمَّم منها أخلاقياً، وهو في كثيرٍٍ مما يورده من أخبارها يقول: (زعموا)، فهو القائل: "وكانت ـ زعموا ـ تقرض أبياتاً من الشعر، وقد قرأتُ أشياءَ منه في بعض التعاليق، أضربتُ عن ذكره، وطويته بأسره، لأنَّ أكثره هجاء، وليس له عندي إعادة ولا إبداء، ولا من كتابي في أرض ولا سماء".

وإذا كان ابن بسَّام قد تذمَّم من إيراد ما رآه من شعر ولاّدة هجاءً، فإنَّ المقِّري في "نفح الطيب" كان أكثر جرأة من ابن بسَّام، ولم يتذمّم أو يتحرّج في إيراد نماذج مكشوفة من شعرها؛ يمكن أن يكون للمتلقي منها موقف.

أشعار جعلت ابن بسَّام يتذمّم ويتحرّج من إيرادها في "الذخيرة"، ويقول في حقّها: "على أنّها ـ سمح الله لها، وتغمدّ زللها ـ اطرحت التحصيل، وأوجدت إلى القول فيها السبيل، بقلّة مبالاتها، ومجاهرتها بلذّاتها". حتى إنَّ ما جاء من شعرها في ابن زيدون حمالاً لأوجه براءة الحبّ وطهارته، كان مشوباً بتلميحات جنسيَّة، كشف جانباً منها ابن زيدون نفسه.

فمّا أورده ابن بسّام على لسان ابن زيدون مصداقاً للرؤية السابقة، ما جاء على النحو التالي: "قال أبو الوليد: كنتُ في أيام الشباب، وغمرة التصابي، هائماً بغادة، تُدْعَى ولاَّدة، فلمَّا قُدِّر اللقاء، وساعد القضاء، كتبت إليَّ:

ترقَّبْ إذا جـنَّ الظلامُ زيارتـي          فإنـّي رأيتُ الليـلَ أكْتَمَ للسِّرِّ

وبي مِنْكَ ما لو كان بالبدْر ما بدا         وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يَسْرِ

فلمَّا طوى النهار كافوره، ونشر الليل عنبره؛ أقبلت بقدٍّ كالقضيب، وردفٍ كالكثيب، وقد أطبقت نرجس المُقل، على ورد الخجل، فملنا إلى روضٍ مدبّج، وظلِّ سجسج، قد قامت رايات أشجاره، وفاضت سلاسل أنهاره، ودرُّ الطلِّ منثور، وجيب الرّاح مزرور، فلمَّا شببنا نارها، وأدركت فينا ثارها، باح كلُّ مِنَّا بحبّه، وشكا أليم ما بقلبه، وبتنا بليلةٍ نجني أقحوان الثغور، ونقطف رمّان الصدور، فلما انفصلتُ عنها صباحاً أنشدتُها ارتياحاً:

ودّعَ الصبرَ مُحِبٌّ ودّعـَك                   ذائعٌ من سـرّه ما استودعكْ

يقرعُ السِّنَّ على أنْ لم يَكُن                   زاد في تلك الخُطى إذْ شَيَّعَكْ

يا أخا البدر سنـاءً وسنـاً                   حفـظ الله  زمانـاً أطْلَعـَكْ

إنْ يَطُلْ بَعْدك ليـلي فَلَكَمْ                    بِتُّ أشْكـُو قِصَرَ الليلِ مَعَكْ"

على الرغم من الأوصاف الرومانسية التي خلعها ابن زيدون على الطبيعة التي ضمته مع محبوبته ولاّدة من حيث الروض المُزيّن بالزهور، والظلّ الظليل، والأنهار الفياضة بالماء العذب، فإنَّ أوصافه لولاّدة، كما يتبين في النص لا تخلو من البعد الحسِّي، بدءاً من وصفه لجسمها في رشاقته بالقضيب، ولردفها بالامتلاء غير المترهّل ككثيب الرمل المنتظم، وحتى الأفعال الشبقية بفعل تأثير الخمر (الراح)، حيث كنّى عن تقبيلها بقوله: (نجني أقحوان الثغور)، وعن فعل شبقي جنسي بقوله: "نقطف رُمّان الصدور"، يفعلان هذا حتى الصباح.

كذلك يبين شعر ولاّدة، ثم ابن زيدون، عن هذه الأفعال التي تجمع بين العاطفة الروحانية والجنسية معاً، وهذا أمرٌ سيؤكده المستشرقون كما سنبين عن ذلك في فقرة قادمة.

فهي تكشف في بيتها عن مكنونها؛ حيت تختار ساعةً متأخرةً من الليل تجعلها موعداً للقاء حبيبها بعيداً عن أعين الرقباء، لأنَّ الليل ـ كما ترى ـ أكتم لأسرار لا تستطيع البوح بها إلا لحبيبها، ثم تكشف في البيت التالي عن جانب من شوقها الذي يحمله سّرها، وفي سياق النص، يمكن أن يكون ـ والله أعلم ـ ما بها من مكنون الوجد حيال ابن زيدون، ما يجعل البدر خاسفاً أو مختفياً، والليل لا يظلم، وبالنجم لا يسير، هو ما تطفِئُهُ القبلة، ويريحه جَنَى الصدور.

وهنا يأتي شعر ابن زيدون مُثَبِّتاً ـ في تحفُّظٍ عمّا باحت به ولاّدة ـ ما يجمع بين ما هو روحاني وما هو حسّي، إذ هو لايطيق فراقها بعد أن ودّع مع وداعها الصبر، بعد أن فضحت الصَّب المحبّ عيونه، ولم يعد سرَّاً ما استودعها بعد ما فعلاه بتأثير الخمر التي تفضح الأسرار، حتّى إنه ليعضّ على أسنانه كمداً وغيظاً، من أجل أنْ خطاه لم تزد عدداً ومسافةً وَهُو يماشيها يودعها. ثم بعد ذلك يخلع عليها أوصافاً (رومانسية)، فهي أخت البدر حسناً، حتى إنه ليدعو الله بالخير للزمن الذي أطلعها قمراً، ثم ينعَى ليله الذي سيطول بعدها، بعد أنْ مّر ـ وهما يتساقيان الحبّ روحياً وحسيّاً ـ قصيراً يدعو إلى شكوى المحبّ.

وقد استوقف النصّ السابق الوارد في ذخيرة ابن بسَّام نظر د. إحسان عبّاس محقّق الذخيرة، وذلك حين يقول مرتاباً: "هذا النّص يستوقف النظر، أولاً لأنه على لسان ابن زيدون، وثانياً لأنه مصوغ في قالب "مقامة"، وأسلوبه لا يشبه أسلوب ابن زيدون أو ابن بسَّام ..."

ويحفظ لنا ابن بسَّام جانباً آخر من شخصية الأميرة ولاّدة، من خلال ما يورده من أخبارها، وهو جانب المرأة الغيور صاحبة ردود الأفعال المتشنجة، نستشف ذلك مما أورده ابن بسَّام على النحو التالي: "قال أبو الوليد وكانت عُتْبَةُ قد غنّتنا:

أحبَّتنا إنـّي بلغتُ مؤمَّـلي                  وساعدني دهري وواصلني حُبِّي

وجاء يهنيني البشـيرُ بقربِهِ                  فأعطيتُهُ نفسي وزدت له قلبـي

فسألتها الإعادة، بغير أمر ولاّدة، فخبا منها بَرْقُ التبسُّم، وبدا عارض التجهُّم، وعاتبت عتبة فقلتُ:

وما ضرَبتْ عُتْبَى لذنبٍ أتتْ بهٍ            ولكنّما ولاّدة تشتهـي ضَرْبـيْ

فقامتْ تجرُّ الذّيلَ عاثــرةً بِهِ             وتمسَحُ طلَّ الدّمْعِ بالعَنم الرِطَّبِ"

وعتبة التي يذكرها ابن زيدون، وكان يهواها، هي جارية ولاّدة وكانت سوداء، وهي التي استحسن ابن زيدون منها البيتين السابقين المنسوبين إليه في ديوانه تتغنى بهما، باذلةً له نفسها وقلبها، فلمّا عاتبتها ولاّدة عتاباً مرّاً، ما كان من ابن زيدون إلاّ أن دافع عن عتبة المضروبة المعنّفة، ذاكراً أنها لم تضرب لذنبٍ جنته، ولكنَّ ضربها يعني ضرب ابن زيدون وهو ما تشتهيه ولاّدة، وهنا يرسم لنا ابن زيدون في صورة بارعة الهيئة التي كانت عليها ولاّدة وهي غاضبة، إذْ قامتْ مهتاجة مسرعة، تعثر في ذيل ثوبها، ماسحة دمعها بأصابع يدها، التي لم ينس ابن زيدون الشاعر أنْ يصف زينتها، إذْ كانت أظافرها الجميلة مخضَّبة بصبغ (العنم) وهو من شجر العنم، يعصر منه رحيق تصبغ به النساء أظافرها.

ثم بعد ذلك يصف لنا ابن زيدون تأثير غضبها وموقفها، وذلك حين يقول: "فبتنا على العتاب، في غير اصطحاب؛ ودم المدام مسفوك، ومأخذ اللهو متروك. فلمّا قامت خطباء الأطيار، على منابر الأشجار، وأنفتْ من الاعتراف، وباكرت إلى الانصراف، وشت بمسك الأنفاس على كافور الأطراس:

لو كنتَ تُنصِفُ في الهوى ما بيننا       لم تَهْــوَ جاريتـي ولم تتخيَّـرِ

وتركتَ غُصْـناً مثمـراً بجمـالِهِ       وجنحْتَ للغصـن الذي لم يثمِـرِ

ولقد عَلِمْـتَ بأنَنـيِ بدرُ السَّمَـا       لكن دُهِيْتَ - لشقوتي - بالمشْتَرِي"

يشير ابن زيدون في النّص السابق، إلى ما عكّر صفو العلاقة بينه وبين ولاّدة بسبب جاريتها عتبة، حيث كان العتاب هو لغة سادت بينهما، انقطعت معه وسائل الصحبة، ولمَّا يعودا لما كان يجمعهما في مجلس الخمر واللهو، كسابق عهدهما، تحيطهما الطيور المغرّدة على الأشجار، ثم يبين عن كبرها وأنفها اعترافاً بحبها وغيرتها، حتى إذا ما جاء الصباح انصرفت وقد كتبت له على ورق الكافور بالحبر بيتين مفادهما عتاب مرّ. فلو أنَّه رجلٌ منصفٌ يقدّر الجمال والأصل والحسب لما أحبّ جاريةً سوداء، لا تقارن بها جمالاً وبياضاً، وخصوبة كالغصن المثمر رونقاً، في مقابل جارية كالغصن العقيم من كل هذه الصفات، وتختم أبياتها بمرارة تكشف عن مفارقة لونية وجمالية. إذ إنّه يعلم أنها لفرط جمالها تشبه البدر في سماه فائقاً كل النجوم والكواكب إنارةً بانعكاس ضوء الشمس عليه، ولكن لعيبٍ في ذوقه أحب كوكباً معتماً كالمشتريِ، شُبِّهت به جاريتها.

وللمستشرق الإسباني هنري بيريس، تعليق طريف على أبيات ولاّدة، يبين عن كونها أنموذجاً للمرأة الأندلسية التي لها موقف من السوداوات حين يقول: "ويظهر لنا الشعر أيضاً مفهوم النساء الأندلسيات عن الحبّ الذي يمارسه أزواجهنّ مع السوداوات، ولقد مال ابن زيدون إلى جارية ولاّدة السوداء، فكتبتْ تعتب عليه هذا الهوى".

وأخبار ابن زيدون مع ولاّدة كثيرة من ذلك ما أورده المقِّري في "النفح" نقلاً عن كتاب "قلائد العقيان" للفتح بن خاقان حين يقول: "ومن أخبار ولاّدة مع ابن زيدون ما قاله الفتح في القلائد: إنَّ ابن زيدون كان يكْلَف بولاّدة ويهيم، ويستضيء بنور محيّاها في الليل البهيم، وكانت من الأدب والظرف، وتتميم السمع والطرف، بحيث تختلس القلوب والألباب، وتعيد الشيب إلى أخلاق الشباب، فلمّا حلَّ بذلك الغرب، وانحل عقد صبره بيد الكرب، فرّ إلى الزهراء ليتوارى في نواحيها...فوافاها والربيع قد خلع عليها برده، ونشر سوسنه وورده...فتشوّق إلى لقاء ولاّدة وحنّ، وخاف تلك النوائب والمحن، فكتب إليها يصف فرط قلقه، وضيق أمده إليها وطلقه، ويعلمها أنّه ماسلا عنها بخمر، ولا خبا ما في ضلوعه من ملتهب جمر، ويعاتبها على إغفال تعهده، ويصف حسن محضره بها ومشهده". ثم يذكر ابن بسَّام بعد ذلك قصيدته المشهورة في الزهراء، ولا يطول مقام البحث هنا لذكرها.

والكرب الذي تعرّض له ابن زيدون، واضطره إلى الهروب إلى مدينة الزهراء الجميلة، مفارقاً حبيبته ولاّدة، متشوقاً للقائها، هو كرب عظيم، ذلك أنه جاهر بعدائه لملك قرطبة وواليها بخاصة، ولبني جهور بعامة، يقبّحهم، وينسب إليهم المناقص؛ حتى أهدروا دمه، ففرّ إلى الزهراء مغترباً عن ولاّدة، وهناك كتب فيها أحلى القصائد، في الوقت التي كانت فيه تجاهر بسبّه وهجائه، على النحو الذي ألمحنا إليه، وهذا يمثّل مفارقة بين موقف الحبيبين.

وعن محنة ابن زيدون يحدّثنا الفتح في القلائد، الذي نقل عنه ابن بسَّام، قوله عن المحنة وحنينه إلى ولاّدة: "إنَّ ابن زيدون لم يزل يروم دنو ولاّدة فيعتذر، فيباح دمه دونها ويهدر، لسوء أثره في ملك قرطبة وواليها، وقبائح كان ينسبها إليه ويواليها، أحقدت بني جَهْور عليه، وسدّدت أسهمهم إليه، فلمّا يئس من لقياها، وحجب عن محيّاها، كتب إليها يستديم عهدها، ويؤكّد ودّها، ويعتذر من فراقها بالخطب الذي غشيه، والامتحان الذي خشيه... وهي قصيدة ضربتْ في الإبداع بسهم، وطلعت في كلّ خاطرٍ ووهم، ونزعتْ منزعاً قَصَّر عنه حبيب وابن الجهم، وأولها:

بنتم وبِنّا فما ابتلتْ جوانحُنَا                 شوقاً إليكـم ولا جفّتْ مآقينـا

نكاد حين تناجيكُمْ ضمائرنا                 يقضي علينا الأسى لولا تأسِّينا

وأخبار ولاّدة كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية."

ولم يكن ابن زيدون وحدَه الذي يحبّ ولاّدة، بل شاركه في حبهّا وزيرٌ آخر هو ابن عبدوس، كان ابن زيدون يغار منه ويتوعدّه، نفهم ذلك ممّا أورده المقّري في نفح الطيب: "وقال أيضاً يخاطب ابن عبدوس لاشتراكه معه في هواها:

أثرتَ هِزَبْرَ الشّرى إذْ ربضْ         ونبّـهْتَهُ إذْ هدا فاغْتَمَضْ

ومازلتَ تبسـطُ مسترسـلاً         إليه يدَ البغيِ لمَّا انقبـضْ

حذارِ حذارِ فإنَّ  الكريــمَ          إذا سِيْمَ خَسْفاً أبى فامتعَضْ

وإنَّ  سكون الشّجاعِ النّهـو         سِ ليس بمانعِـهِ أنْ يعَضّْ

ومنها:

وغـرَّك من عهـدِ ولاّدةٍ           سرابُ تراءَى، وبرقٌ وَمَضْ

هي المـا يَعُزُّ على قابضٍ          ويمنَـعُ زُبْدتَهُ مَنْ محـضْ"

إنّ ابن زيدون يشبّه نفسه بالأسد الرابض لاقتناص فريسته، وهي هنا بالطبع ابن عبدوس، الذي وضعه موضع المثير لغيظه، مقدماً يد البغي يبغي محبوبته ولاّدة، وهنا يحذره ويهدده بألاّ يطمع في كرم صبره، لأنه إذا وقع عليه الخسف والظلم فإنه يأبى الضيّم فيبدأ بالثورة والضيق، ثم يخبره مهدداً، إنّ الليث الشجاع له أسنان نهوس (يُعَض بمقدمتها فينثر لحمه). ثم في ختام الأبيات، يبين له عن أوصاف تحرّم ولاّدة عليه، فهي في وعودها له وعهدها معه، كالسراب الخادع يحسبه الظمآن ماءً يبرق ويلمع، وهي في صورة أخرى كالماء حين يقبض عليه، ويظنّ أنَّه امتلكه، يتفلّت من بين أصابعه، ولا يكون حظه منها، إلاّ حظ من مخض الماء، بعد عناءٍ، ليخرج منه زبداً؛ فيمنعه الماء ما أراد؛ إذ ليس فيه زبد. كناية عن طلب المحال.

ولولاّدة نادرة طريفة تستحق الذكر هنا؛ يرويها في خبرٍ ابن بسَّام، فيقول: "وأمّا ذكاء خاطرها، وحرارة نوادرها، فآية من آيات خاطرها: مرّت بالوزير أبي عامر ابن عبدوس ـ المتقدم الذكر ـ وكان بقرطبة أحدَ أعيان المِصر. وبعضَ من هذى باسمها، وتصرَّف على حكمها، وأمام داره بركة دائمةٌ تتولّد عن كثرة الأمطار، وربّما استمدت بشيء ممّا هنالك من الأقذار، وقد نشر أبو عامرٍ كمَّيْه، ونظر في عطفيه، وحشر أعوانه إليه، فقالت له: أبا عامر:

أنت الخصيبُ وهذه مِصْرُ                 فتدفّقا فكلاكما بَحْرُ

فتركتهُ لا يحيرُ حرفاً، ولا يُردُّ طرفاً.

واضح من خلال خطاب ولاّدة لابن زيدون ذكاء خاطرها وحضور بديهتها، وهي ترى وزيراً كابن عبدوس يفعل ما يفعله العوام، مشمّراً كمّيه وسط أعوانه لإصلاح أمر بركة عطنة قذرة، فما كان منها إلاّ أنْ سخرت منه، جاعلةًّ من بركته الآجنة المجدبة ومنه شخصياً بحراً يتدفق بالأقذار.

ومن المفارقات أيضاً في علاقة ولاّدة بابن عبدوس سخريةً منها، ووصالاً ووفاءً بلا مقابل منه، ما يذكره ابن بسَّام في ذخيرته من أمرهما فيخبرنا بقوله: " وطال عمرها وعمر أبي عامر حتى أربيا على الثمانين، وهو لا يدع مواصلتها، ولايغفل مراسلتها. وتحيَّف هذا الدهر المستطيل حال ولاّدة، فكان يحمل طلَّها، ويرفعُ ظلّها، على جدب واديه، وجمود روائحه وغواديه، أثراً جميلاً أبقاه، وطلقاً من الظرف جرى إليه حتى استوفاه".

 عاشت إذن ولاّدة كما عاش محبّها الوزير أبي عامر ابن عبدوس عمراً نيفَّ على الثمانين، وهو لا يتوانى عن طلب وصالها، حتى حين أزرى بها الزمان كان ـ كنايةً عن تحمّل مسؤوليتها، وستر عيوب كبرها، وحاجتها مادياً ومعنوياً ـ يحمل كَلَّها، ويرفع ظلّها. رغم ما كان عليه واديه من جدب وقحط، تاركاً للتاريخ سيرةًَ حسنةً وفعلاً ظريفاً.

هذا بعضُ من أخبار ولاّدة ممّا ذكِر في كتب التراث الأندلسي، وغيره كثير يعزُّ الحصول عليه كلّه، وهذا ما أشارت إليه صاحبة معجم أعلام النساء، حين تذكر أنَّ "لولاّدة حكايات غير ما ذُكِر في جملة كتب متفرقة، لم يمكن الحصول عليها لعزّة وجودها".

وأخر ما نورده من أخبارها من كتب التراث، خبرٌ طريف عن حالاتها الاجتماعية، بعد أن شرَقت في خيال عشّاقها وخطّاب ودها وغربت. إذْ قد ماتت بكراً لم تتزوج، وعن هذا يقول ابن بشكوال في كتابه الصلة (نقلاً عن نفح الطيب): "كانت أديبة شاعرة، جزلة القول، حسنة الشّعر، وكانت تناضل الشعراء، وتساجل الأدباء، وتفوق البرعاء، وعمرّت طويلاً، ولم تتزوّج قط، وماتت لليلتين خلتا من صفر سنة ثمانين، وقيل: أربع وثمانين وأربعمائة، رحمها الله تعالى".

شخصية ولاّدة، وأخبارها، في رؤى المستشرقين والنقَّاد المعاصرين

إذا كانت كتب التراث الأندلسيّ ممثلةً في مؤلفيها من القدماء، قد اكتفت بإيراد أخبار ولاّدة دون تحليل يُذكر لشخصيتها ومواقفها، فإنّ المستشرقين والنقاد المعاصرين، قد أسهبوا في تحليل شخصية هذه الأميرة الأموية الأندلسية الشاعرة، وتباينت رؤاهم فيها وفي عصرها.

إنَّ د. ماريا تيريسا غارولو، تثير إشكالية مهمة، في قراءة القدماء للأخبار التي يوردونها عن النساء العربيات، وتخصّ من بينهنَّ ولاّدة، فتقول: "وعند تتبعنا لمصادر المعلومات عن ولاّدة وجدنا أنها لا تختلف عن مثيلاتها في الأدب العربي في العصر الوسيط، عندما يراد الحديث عن النساء، ذلك أنَّ تلك الكتب لها نظام لا يختلّ عن ذكر النساء، حيث تخصّص لهنَّ الصفحات الأخيرة ... ونجده في معاجم الأندلسيين أو معاجم الشرقيين، فصفحات ولاّدة وترجمتها تقع في الصفحات الأخيرة، ونجد نموذجاً لذلك عن ابن بشكوال والضّبي".

إنّ د. غارولو تَنْعى على المصادر العربية التي تترجم للنساء عدم اهتمامها بتراجم النساء اللواتي تُخصّص لهنّ الصفحات الأخيرة، وتضرب مثالاً بترجمة ولاّدة، التي أورد ابن بشكوال والضبّى ترجمتها في أواخر صفحات كتابيهما. ولا تكتفي د. غارولو بذلك بل تنقد هذه المصادر وطبيعة قراءَتها لولادة، من حيث اعتماد كلّ لاحق على سابقه حين تذكر: أنّ "كل ما نعرفه من سيرة ولاّدة مأخوذ من ابن بسَّام وابن بشكوال، وما عداهما من الكتاب الذين تناولوا سيرة الشاعرة الأموية إنما يأخذون عنهما، أو يدمجون بين كليهما كما فعل ابن دحية في (المطرب من أسرار أهل المغرب). وبعضهم يأتي بمعلومات أخرى لكنها لا تخرج عمّا نعرفه من كتاب الذخيرة لابن بسّام، وهو أوّل كتاب تحدَّث عن الشاعرة الأندلسية".

وقد تلمّح د. غارولو في نقدٍ مبطّن إلى منهج ابن بسّام في الذخيرة، فيما يسوقه من أخبار ولاّدة، بما يؤكد ما أشرنا إليه من قبل ونحن نسوق أخباره عنها شاكاً مكثراً من كلمة (زعموا)، وفي ذلك تقول: "ولكننا لاحظنا في كتاب ابن بسَّام أنّه في أكثر من مرّة يورد ما يقوله عن ولاّدة، ثم بعد ذلك إمّا يكذّبه وإمّا يشكّك فيه، وأصدق مثالٍ على ذلك؛ تناوله لتلك الأبيات التي (زعموا) ـ وما أكثر استخدام ابن بسَّام لقوله (زعموا) ـ أنّها خطّتها على ثيابها، وشهرة تلك الأبيات في المصادر اللاحقة ـ على الرغم من أنَّ ابن بشكوال لا يذكرها ـ إنما ترجع إلى كونها خلاصة السيرة التي تدور حولها، فهي تفتخر بنسبها العالي في قولها:

أنا والله أصلح للمعالي         وأمشي مشيتي وأتيه تيها

وسلوكها الذي ينسبونه إليها، وهو استسلامها لمن يحبّها حين تقول:

وأمكن عاشقي من صحن خدِّي           وأعطي قبلتي من يشتهيها

ولا يفوتنا هنا أنْ تذكر أنَّ (هونرباش) علَّق على تلك الأبيات بأنّها متناقضة، فكيف لسليلة الأمراء التي تتيه على كل البشر أن تبيع نفسها بثمن زهيد مثلما تذكر الأبيات".

وقد سبق أنْ أشرنا إلى التناقض الذي أشار إليه (هونرباش) ونحن نعلّق على هذه الأبيات التي أوردها ابن بسَّام بمسحة شكّ، حتى إنَّ الأستاذ الدكتور عبدالرحمن الخانجي، في إحدى محاضراته ـ وهو أحد أساتذة الأدب الأندلسي المرموقين الدارسين في إسبانيا ـ قد أشار إلى شكه في شخصية ولادة من الأساس. (من محاضرة ألقاها في أحدية د. راشد المبارك بالرياض).

وعن ارتباط ولاّدة في شهرتها بابن زيدون، وما حظيت به بسبب شعره من مكانه تقول د. غارولو: "قليل من الشاعرات العربيات من أولئك اللاتي يذكر شعرهنّ في مصادر العصور الوسطى ـ وهنَّ كثيرات ـ حظين بما تحظى به ولاّدة من شهرة، ولم تنل واحدة منهنّ من الاهتمام ما نالته الشاعرة الأندلسية والأميرة القرطبية، التي كانت مصدر إلهام لأفضل شعر كتب في موضوع العشق في بلاد الأندلس، تلكم هي قصائد ابن زيدون التي خلدتها رغم أنّها كانت سبباً في ألمه وتعاسته". وتلك مفارقة أخرى ـ في حيّز الشهرة ـ بين علمين يفوق أحدهما الآخر، وهو ابن زيدون.

وترى د. غارولو أنَّ شهرة ولاّدة عبرت حدود الثقافة العربية، ذلك على الرغم كما ترى من "أنّ معلوماتنا عن ولاّدة قليلة شأنها في ذلك شأن كل نساء العرب اللاتي ذكرن في مراجع الأدب، ذلك لأنَّ المرأة العربية عادة ما تتسم بالشحّ في إعطاء بيانات عنها، وذكر معلومات عن حياتها، لأنَّ ذلك لا يتفق مع حرمة المرأة، وقدسية أسرارها التي لا تخرج عن دائرة بيتها ورجلها، وإذا ما سمع صوتها فلا سُمع إلاّ من خلال الرجال. أمّا ولاّدة فقد عبرت حدود الثقافة العربيّة، ويدلّ على ذلك حضورها في المختارات الشعرية عند الحديث عن شعر النساء، وفي الأعمال الإبداعية التي تُخصَّص لها، وقد تحوّلت في الغرب إلى نموذج للنساء تظهر من خلاله حياة بنات حواء في الأندلس".

ولعل هذا الحضور الإعلامي لولاّدة  ـ إنْ صحّ التعبير ـ الذي عبر الحدود، كما تشير د. غارولو، ما حدا بكثير من المستشرقين غيرها للوقوف على شعريتها، بل سلوكها الشخصي، ولعلّ من أهمّ هؤلاء المستشرقين هنري بيريس في كتابه المهم جداً (الشعر الأندلسي في عصر الطوائف)، حيث أفرد لذكرها وأخبارها صفحات مهمة، نترك الحكم على رؤاه فيها للمتلقي.

يتحدث بيريس عن وضع المرأة في العصر الأندلسي فيقول: "على أنَّ المرأة الأندلسية لم تكن منزوية على نحو ما تريدنا قواعد الإسلام أن نراه في كل المسلمات، وثمّة وقائع عديدة تؤكّد ما نشعر به من خلال أحاسيس الرجال القوية". ويستشهد على تحرير المرأة، وتفلتها من الحجاب بنموذج ولاّدة المستكفي، حين يضيف قائلاً: "لكن المثال الأقوى على حرية المرأة تقدمه لنا ولاَّدة بنت الخليفة، فقد اهتبلت فرصة موت والدها؛ في لحظة غير متوقعة، خلال الفوضى والاضطراب الذي أدّت إليه (الفتنة) لتعيش حياة متحررة تماماً، فأقامت (صالوناً) يجذب إليه أكبر الشخصيات وأعظم الأدباء شهرةً، وقد أظهرت تطرفها، واحتقارها الخمار، وجرأتها في الحديث، وأحياناً شذوذ مواقفها، ما يدلّ بوضوح على أنّها تحرّرت تماماً من كثير من الأوهام، وربّما داخَلَ أخبارها شيءٌ من التزيُّد، وهو ما يعود إليها نفسها".

واضح من كلام بيريس ظلال مفهومه المسيحي عن الإسلام والخمار، وهذا ليس مجال تصلح مناقشته هنا. المهم أنَّ جزءاً من حديثه حول تحرّر ولاّدة يشهد بالموضوعية، على النحو الذي عرفناه من الشعر المنسوب إليها. لكن بيريس يعود لخلط الأوراق حين يقارن ـ حول وضع المرأة في الأندلس ـ بين الإسلام متشدّد الرؤية حول وضع المرأة، والمسيحيَّة التي ساعدته في تغيير مفاهيمه، فيقول: "ومع ذلك فإنَّ التسامح معها (أي المرأة) بإزاء حياة من هذا اللون يعني أنَّ الإسلام، وهو ومتشدّد كثيراً، وحسّاس للغاية فيما يتصل بالمرأة، ارتخت قبضته شيئاً في الأندلس بخاصة، ومضطرون للتسليم بأنَّ المناخ الذي أوجدته بيئة ذات عادات مسيحية أتاح للإسلام أن يصل إلى مفهوم أكثر تحرراً، فيما يتصل بوضع المرأة".

قد يكون صواباً تراخي قبضة الدين في الأندلس، في عصر الضعف التي عاشته ولاّدة مع بوادر انهيار البيت الأموي، لكنّ هذا التراخي مع المرأة لم يكن كله بسبب تأثيرات مسيحية، والدليل أنَّ بيريس نفسه يتشكّك في رؤيته لوضع المرأة المتحرر كما يراه في ولاّدة على هذا النحو، وذلك حين يرى متسائلاً: "ألا يمكن أن تكون هذه الحرية نتيجة الصعوبات التي كانت تواجهها المرأة المسلمة كي تتزوج، بسبب الأعداد الكبيرة من الأسيرات والعشيقات المسيحيات اللائي أخَذْن طريقهن إلى الحريم".

وللدكتور الطاهر مكّي مترجم كتاب بيريس رؤية موضوعية، تأتي نقداً لرؤية بيريس حول تأثير المسيحيّة في وضع المرأة الأندلسية المسلمة، مستشهداً بمستشرق آخر هو آدم متز، يباين رأيه رأي بيريس، وذلك حين يقول د. مكّي: "يريد المؤلّف هنري بيريس أنْ يردّ حرية المرأة المسلمة في الأندلس إلى بيئة مسيحية مؤثّرة (زعَمَها)، فلنسمع ما يقوله مستشرق آخر عظيم عن وضع المرأة في هذه البيئة الإسبانية المسيحيَّة: (بتأثير الإسبان كانت لا تُرَى امرأة قط في شوارع إيطاليا حوالي منتصف القرن السابع عشر الميلادي)".

وفي موضع آخر يشير بيريس إلى وضع المرأة في عصر ولاّدة بما هو سائد دينياً، ثم تبرز ولاّدة بوصفها شاعرة، على أنّها استثناء، وقدوة لبعض نساء عصرها كمحظيتها مهجة القرطبية، يقول بيريس: "إنّ العادات في قرن كان فيه على المنصور نفسه أن ينحني أمام الفقهاء، ما كانت تسمح للمرأة أن تستجيب مصوّرة ما تراه يتفق مع طبيعتها، وأن تعبّر عن المشاعر التي تحس بها في عفوية كاملة ومرغوبة، وأمّا في القرن الحادي عشر فكانت المرأة تهدف إلى أنْ تحتل مكاناً في الصف الأوّل من المجتمع، وقد جعل منها ازدهار الشعر العاطفي كائناً ناضجاً ومثالياً، وأظهر لنا أنَّ المرأة الأندلسّية، رغم أنها منفية في الحريم وأنها تتمتع بحرية نسبية، كانت تشعر مثل الرجال تقريباً، وتطالب مثلهنّ بحقّها في الحياة".

وسط هذه النقلة النوعية في وضع المرأة المسلمة في القرن الحادي عشر الميلادي الخامس الهجريّ، استغلت ولاّدة الفرصة لتعبّر عن مكنونها بصراحة شديدة، دون تحفّظ أخلاقي أحياناً كما رأينا شعرها في ابن زيدون وابن عبدوس، والأوّل بخاصة، حتى إنَّ بيريس أطلق على أمثالها من النساء المتحررات وصفاً يكاد يكون دقيقاً حين دعاها: (امرأة رِجِلة).

ووفقاً للتصوّر السابق يرى بيريس: أنّه "لم يكن لدى ولاّدة، كما رأينا، أيّة أسباب تجعلها تجسد الحرية التي يعيشها عشّاقها، كابن زيدون وابن عبدوس، وأحياناً كانت الكلمات التي توجّهها إليهم تشهد لها بحرية تكاد تكون تامة في مواجهة (الجنس الخشن)، وعلاقتها بامرأة أخرى هي مهجة، وليس هناك أدنى شكّ في هذا، إذْ تشهد عليه بعض أبيات شعرها، تظهر أنّها كانت تسخر من المواضعات الاجتماعية القائمة. هل يمكن أنْ يكون الحبُّ في نظر امرأة رَجِلة مثل ولاّدة شيئاً آخر غير الحبّ المادي؟". هذا سؤال مهم يطرحه بيريس، ولعلّه تبادر إلى ذهن كل واحدٍ منّا، ونحن نقرأ نماذجها الشعرية التي تخاطب فيها رغبتها ابن زيدون، ما يمكن أن يحيل بعض ما يحتمل التأويل الرومانسي المبرأ عن الحسّ، إلى كل ما هو حسّي في شعرها.

ولعلّ فيما يورده بيريس، مضافاً لما سبق، ما يحمل إجابةً على سؤال طرحه، ونطرحه معه؛ وذلك حين يضيف قائلاً: "وعندما بدأت علاقتها بابن زيدون عبّرت عن انفعال قوي ومتوهّج، فهل كانت تومئ إلى السعادة التي تحلم بها فعلاً، ولكنّها تتحفَّى وراءه؟:

ترقـّب إذا جنَّ الظـلامُ زيارتـي          فإنـي رأيتُ الليـل أكْتمَ للسّرِّ

وبي منكَ ما لو كانَ بالشّمس لم تلُحْ          وبالبَدْر لم يَطْلُعْ وبالنجّمْ لم يَسْرِ

ثم نحن بإزاء عاشقة تظهر الغيرة من هوى عابر لابن زيدون مع جارية سودَاء لها. ولم تلبث أنْ فاض بها الملل، ولكي تقطع ولاّدة الصلة بمن أَمَّلها بلغ بها الحدّ أنْ تكتب أبياتاً من الشعر غير محتشمة، وهي تظهر، ربّما أوضح من علاقتها غير السّويّة، الحريّة التي كانت تحتفظ بها لنفسها أمام الجنس الخشن".

وقد أوجدت ولاّدة المتحررة أو (المسترجلة) على حدّ وصف بيريس، تلميذات ومقلّدات لها منهنّ، مثل مهجة القرطبية، يقول بيريس: "وقد أظهرت مهجة صديقة ولاّدة الخشونة نفسها في علاقتها مع الرجال، ووجدت في ولاّدة أستاذة جيدة. ووراء هؤلاء المسترجلات، اللائي أُعطين قليلاً من قلوبهنَّ، مجموعة من النساء، يتجسّد فيهنّ حقاً لطف الأندلسيات وفتنتهنَّ".

وقد أوجد تحرر أمثال ولاّدة على نحو مسترجل، كالذي رآه بيريس ـ صنفاً آخر من الفتيات أو الجواري اللواتي أطلق عليهم بيريس (غلاميات) تشبُّهاً بالغلمان، حين يذكر أنه: "يمكن الحكم على نحو أدقّ فيما يتصل بمستوى تحررّ المرأة إذا أضفنا إلى هذه الصورة (المتحررة) كما تركتنا ولاّدة ندركها، صورة أخرى لجارية غلامية، وهي معروفة في المشرق، ولكنها أخذت في الأندلس ملامح متميزة، ولقد ذكرنا فيما سبق أبياتاً لابن شهيد يصف فتاةً قصّت شعرها، فأتت غيداء في شكل صبي. ونفهم من بيت في قصيدة أبي الفضل بن شرف، أنه كانت توجد أيضاً أندلسيات مسترجلات:

أشوسُ الطَّرْفِ عَلَتْهُ نخوةٌ         يتهادى كالغزالِ الخَرِقِ

هذه الحرية التي كانت تتمتع بها الأندلسية في المجتمع الإسباني المسلم، تتيح لنا أنْ نفهم على نحو أفضل وفرة القصائد التي أنشدها الشعراء، ويتغنون فيها بجمال المرأة الحسّي وبصفاتها النفسية على السواء، والكثير من هذه القصائد موجّه إلى مغنيات وموسيقيات دون شك".

وانتهاءً بهذا الحكم الموضوعي من بيريس حول وجود الحسّي والنفسي في الغزل بالمرأة، كمثال ولاّدة التي أسهمت في ذلك بتحررها وجرأتها، نستريح إلى أنَّ المرأة لم يكن نموذجها فقط، ولاّدة على هذا النحو، حتى ولاّدة نفسها اجتمع في وصفها الحسّي، والنفسي، كما فهمنا من وصف ابن زيدون النثري والشعري معاً، على نحو ما ذكرنا من قبل.

وقد عالج الرؤية السابقة في شيءٍ من الموضوعية مستشرق آخر هو أنخل جونثالث بالنثيا حين يقول: "عالج الشعراء الأندلسيون كل موضوعات الشعر. وتتاح لنا الفرصة هنا لإصلاح خطأ شائع أيضاً، وهو اتهام عرب تلك الأيام، ثم أحفادهم من بعدهم حتى يومنا هذا؛ بالشهوانية الجاثية في عواطفهم، لأنهم، ولم لا؟ عالجوا الموضوعات العاطفية، ولا تنقصنا الأمثلة من شعراء كبار مشهورين، غرقوا بغرامياتهم العنيفة، سعداء أحياناً، وتعساء أحياناً أخرى، وتركوا صدىً قوياً دائماً في كتب التاريخ، ومن أشعارهم التقط أصحاب المختارات القصائد التي يتخدونها مثلاً، وليس أخلدَ في الأدب العربيّ كلّه من اسْمَىْ ولاّدة وابن   زيدون".

وربّما استكثر البروفسير والمستشرق المعروف ياروسلاف ستيتكيفتش ـ الذي نختم برؤيته هذا البحث ـ على شاعرٍ رومانسي كبير كابن زيدون، أن يبذل شعره في جانبه النفسي العميق غزلاً في ولاّدة الهازئة بمحبوبها الكبير، حتى إنه جعله حبّاً من طرف واحد هو ابن زيدون وذلك حين يقول ناعياً: "لقد جعلت الحماقات والحظ العاثر ابن زيدون يذوق مرارة الحبّ من طرف واحد والسجن والمنفى، وبالإضافة إلى الإحساس الشخصي بالفقد الناتج من تقلبات كهذه، كان الشاعر يرى من مسافة جدّ قريبة تقوّض المجد الذي كان ببيت الأمويين الأندلسيين وتقوّض الفخامة التي كانت قرطبة، وفي الحقيقة، كانت محبوبته الهازئة، ولاّدة نفسها ابنة للمستكفي، وهو خلف متواضع لسلف عظيم هو عبدالرحمن الثالث".

بهذه الرؤية لياروسلاف نكون قد أنهينا بحثنا، ولكن لم ينته الحديث عن ولاّدة، وهي دعوة لمزيد من استقراء هذه الشخصية التاريخية المختلف حولها، ويمكن القول، المختلف عليها.