إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / اللعبة السياسية، وإدارة الأزمة









مقدمة

المبحث الأول

كروت صدام حسين

    يمكن تقسيم كروت صدام حسين إلى ثلاثة أنواع (أُنظر ملحق كروت صدام حسين) كالآتي:

·         كروت لعب بها بالفعل وحاول الكسب.

·         كروت كانت في يده ولم يستخدمها.

·         كروت خطط للحصول عليها، ولكنها سقطت من يده، وضاعت فرصة اللعب بها.

أولاً: كروت لعب بها بالفعل وحاول الكسب

1. كرت الإرهاب والتخويف والتلويح بالحرب

هو كرت:"أعطني ما أريد وإلاّ قتلتك". لقد بنى العراق جيشاً ضخماً عدَّه المحللون رابع أكبر جيش في العالم، بما يحتويه من قوات برية وجوية وبحرية تفوق في حجمها جيوش الهند وألمانيا وتركيا ومصر. ولم يكتف ببناء هذه القوة الهائلة، بل هدد باستخدامها، ففي خطاب له في الأول من أبريل 1990، نشرته وكالات الأنباء، ومنها جريدة وول ستريت The Wall Street قال إنه على استعداد لحرق نصف إسرائيل. إن هي أقدمت على مهاجمة العراق أو أي بلد عربي آخر وأخذت صورة صدام، أمام العالم تتبلور أكثر وأكثر، إنه هو الذي شن الحرب على إيران وجر منطقة الخليج إلى أتون حرب دامت نحو عقد من الزمان، وهو الذي قتل الآلاف من الأكراد، إنه رجل يهوى استخدام القوة وأسلوب التخويف والإرهاب، ويهدد جيرانه، ويلوح بالتهديد للكويت والإمارات متهما إياهما بأنهما يشنان حرباً اقتصادية على العراق، بزيادة إنتاجهما النفطي. إضافة إلى ذلك كان صدام يعتبر نفسه المنتصر في حربه مع إيران ويتطلع إلى زعامة مثل زعامة عبدالناصر. كانت لديه قوات مسلحة هائلة، دون عدو تقاتله، أو هدف تحققه! لم يكن في وسعه تسريح هذه القوات، خشية تفاقم البطالة المدمرة والعواقب الاجتماعية الخطيرة، كان من الواضح أنه يحتاج إلى أن يشغل قواته في جبهة أخرى وعدو جديد.

وأخيراً نفَّذ تهديداته في 2 أغسطس 1990، واجتاحت القوات العراقية الكويت، وأعملت السلب والنهب والتدمير الشامل وإشعال النيران، كأنه يقول للعالم: سالموني وإلاّ الدمار للجميع. وأصدر مجلس قيادة الثورة العراقية برئاسة صدام حسين في 21 سبتمبر 1990 بياناً أشار فيه إلى أنه: "لا مجال للتراجع عن شن المعركة وفقاً لمبادئ الشرف والإيمان والإصرار على تحقيق النصر".

كان لهذا الكرت أهميته في ظل جو الإرهاب الذي يسود الشرق الأوسط، ويقلق أوروبا الغربية، وصورة صدام كرجل يدعم الإرهاب، ويؤوي عدداً من أشهر الإرهابيين، مثل كارلوس، الذي يُظن أنه أقام في بغداد أثناء عام 1989. كذلك كان العراق يدفع رواتب لعدد من جماعات الإرهاب الفلسطينية، وكانت إذاعة بغداد، خلال فترة المعركة، تذيع تعليمات غامضة، فسرها الكثيرون بأنها شفرة خاصة تتضمن أوامر وتعليمات لشبكات الإرهاب بتنفيذ عمليات معينة.

كان الهدف من هذا الكرت توجيه رسالة إلى الأوروبيين والأمريكيين أن الدماء ستسيل، وستحدث عمليات إرهابية هائلة إذا تدخلوا في النزاع. وكان المغزى أن صدام يلوح بالحرب، ولا يخشاها، فها هو قد حرّك قواته، وغزا الكويت بالفعل، إنه مستعد بعد ذلك لأي صورة من صور العنف والقوة. وهو يقول، بعد وصول القوات المتحالفة: "أمّا أساطيل أمريكا البحرية والجوية وجيوشها ومن انحدر معها إلى الهاوية، فإنها لن تزيدنا، نحن ورفاقنا، في القيادة وشعبنا في العراق العظيم، إلاّ إيماناً... إذا اندلعت الحرب، فإننا سنقاتل على نحو يجعل كل العرب والمسلمين فخورين .. ونحن لا نقلل من تقدير القوة العسكرية للولايات المتحدة، ولكننا نستخف بنواياها الشريرة. وإذا شاء الله أن تقع الحرب، فإن الأمريكيين سوف يجدون أن طائراتهم "الشبح" يرصدها حتى الرعاة في الصحراء، وأنها تحت رقابة التكنولوجيا العراقية".

2. كرت محاولة جر إسرائيل إلى ساحة الصراع

يعد هذا الكرت من أقوى كروت صدام، التي استخدمها بالفعل، إذ أطلق على إسرائيل 39 صاروخاً من نوع (SCUD-B)، سقطت على مدنها وكان الهدف من ذلك:

أ. جر إسرائيل إلى دائرة الحرب، ومن ثم إحداث انشقاق في الدول المتحالفة.

ب. حدوث ردود فعل شعبية عربية وإسلامية واسعة النطاق تأييداً للعراق.

ج. إثبات مصداقية التهديدات العراقية.

د. تأكيد أنها الدولة الوحيدة التي هددت تل أبيب، منذ نشأة إسرائيل.

هـ. إقناع العرب والمسلمين أن الكويت ما هي إلا محطة على الطريق لتحرير القدس وهزيمة إسرائيل.

كان صدام يريد أن يلهب حماس العرب الذين يؤمنون بأن إسرائيل هي كيان يهودي زرعه الغرب في قلب الوطن العربي. وإذا أمكن جرها إلى حلبة الصراع فإن الشعوب العربية لن تسمح لحكوماتها بالوقوف إلى جانبها ضد العراق، وستضطر كثير من الدول المتحالفة إلى الانسحاب منه.

وقد صعَّد صدام من استخدام هذا الكرت حين اشترط لانسحابه من الكويت أن تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة أولاً.

3. كرت النفط

وهو كرت خطير يتحكم في اقتصاديات الدول الصناعية، وغير الصناعية، لقد أصبح صدام، بعد غزوه الكويت مباشرة، يتحكم في نحو 60 % من احتياطي العالم، مما هدد اقتصاديات الولايات المتحدة الأمريكية وغرب أوروبا واليابان. ولعل صداماً ظن أن الغرب سيفكر ملياً قبل أن يواجهه، بل قد يضطر إلى التعامل معه بسياسة الأمر الواقع، ولعل ذك أقصى ما هدف إليه صدام.

مما يدل على خطورة هذا الكرت أنه في 3 أغسطس 1990، اجتمع مجلس الأمن القومي الأمريكي برئاسة جورج بوش، للمرة الثانية في البيت الأبيض، لمناقشة تقرير وكالة الاستخبارات المركزية الذي يؤكد أن الغزو العراقي للكويت يثير تهديداً يمكن أن يكون مدمراً للنظام العالمي على المدى البعيد؛ فصدام حسين عازم على أن يحول العراق إلى دولة عربية مهيمنة على المنطقة، وسيطرته على أكثر من20 % من النفط العالمي يوفر له تحقيق ذلك.

وأثناء اجتماع الملك حسين مع الرئيس بوش في مصيفه في "كينينكبورت" يوم 14 أغسطس 1990، قال الرئيس بوش مخاطباً الملك حسين: "اسمعني، إن النفط بالنسبة لنا أكثر من ضرورة. هو أسلوب حياة، وأنا لن أسمح لهذا الرجل (يقصد صدام حسين) أن يسيطر على ثلث إنتاج الخليج اليوم، وعلى ثلثي احتياطي العالم من النفط غداً". ثم استطرد بوش: "إن هذا الرجل أثبت أنه عدو للولايات المتحدة، ولن أسمح لنفسي أن أترك ديكتاتوراً يضع يده على شريان حياتنا".

تأثرت سوق النفط الدولية منذ أن بدأت أزمة الخليج بالغزو العراقي للكويت، وارتفعت أسعار النفط وبلغت أقص ارتفاع حققته في أكتوبر 1990، وهو ما أعاد أسعار النفط إلى ذروات لم تبلغها منذ الثمانينات.

استخدم صدام كرت النفط بصورة أخرى تمثلت في:

أ.  ضخ النفط في مياه الخليج

(1) بدأ التسرب في 26 يناير 1991.

(2) ادعى صدام أن الولايات المتحدة الأمريكية هي السبب لإغراقها عدداً من ناقلات النفط العراقية، بينما أكدت الولايات المتحدة الأمريكية أن  العراق هو الذي فتح أنابيب مصب النفط الرئيسي في الأحمدي.

(3) تعمد صدام ضخ النفط في مياه الخليج لتحقيق هدفين:

(أ) عرقلة العمليات الهجومية لمشاة البحرية، بتكوين بقعة نفطية ضخمة.

(ب) وتلويث مصادر محطات التحلية وغيرها من المنشآت البحرية للدول الخليجية.

ب. إشعال النار في آبار النفط

أشعل صدام النار في البداية، أي منذ الأسبوع الرابع لأعمال القتال. في حوالي خمسين بئراً، وكذلك لم تنسحب القوات العراقية من الكويت إلا بعد إشعال النار في أكثر من 700 بئر.

    كان لصدام من جراء ذلك هدفان:

(1) أولهما عسكري: وهو استخدام نواتج الاحتراق (الدخان) لستر المواقع العراقية وإعاقة أعمال القوات المتحالفة الجوية أو البرية.

(2) ثانيهما اقتصادي: وهو تدمير جميع المقومات الاقتصادية للكويت قبل الانسحاب منها تدميراً شاملاً.

4. كرت التهديد بالتلوث البيئي

أكد وكلاء الدعاية العراقية، ومنظمات حماية البيئة العالمية، احتمال حدوث تلوث بيئي هائل نتيجة الحرب، وأن بقع النفط المسكوبة سوف تلوث وتدمر الخليج العربي. إضافة إلى ذلك يحتمل حدوث تغيير حاد في الأحوال المناخية في العالم بسبب هذه الحرب.

كان الهدف هو إثارة منظمات حماية البيئة العالمية لإعلان معارضتها لهذه الحرب، وتكوين رأي عام عالمي يضغط على الدول المتحالفة للجوء إلى التفاوض والحل السلمي بدلاً من الحرب.

5. كرت القضية الفلسطينية

الفلسطينيون يعانون، وقضيتهم هي الجرح العربي الذي لا يندمل، وهم في حاجة إلى بطل قوي يقودهم إلى التحرير، ومن ثم اجتهد صدام في أن يظهر بصورة هذا البطل، أملاً في أن يصبح الفلسطينيون أشد المؤازرين له، وأن تلعب ردود أفعالهم الوطنية دوراً مؤثراً في الإعلام الغربي.

برع صدام في اللعب بهذا الكرت، فقد طرح مبادرة عراقية في 12 أغسطس 1990، تربط بين قضية الكويت والصراع العربي الإسرائيلي، وأكد أن قضية احتلال الكويت لا يمكن حلها إلا بالتزامن مع حل قضايا الاحتلال الأخرى في الشرق الأوسط، وعلى رأسها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

كان لهذا التصريح فعل السحر، وساد غزة والضفة الغربية موجات من الحماس العارم. ووصف الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مبادرات صدام حسين، بربط الانسحاب من الكويت بالانسحاب الإسرائيلي والسوري من لبنان، بأنها جاءت لتضع القضية في إطار الحل الصحيح والمشرف، وأن عملية الغزو تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية داخل العائلة العربية. ودعا بيانه إلى انتفاضة شعبية عارمة تنادي بسقوط الأنظمة الرجعية والخائنة.

وتواصلت في أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة مظاهرات التأييد للعراق. وذكرت وكالات الأنباء أن المتظاهرين قد أجمعوا على أن صدام حسين هو الزعيم العربي الوحيد الذي إذا قال فعل. بل وأطلقوا عليه اسم (ناصر الجديد) ووصفوه بأنه هو الوحيد القادر على التصدي لإسرائيل. وأصبح صدام بطلاً قومياً يتصدى، من وجهة النظر الفلسطينية، لأعداء القضية، ويملك القدرة العسكرية والرغبة السياسية اللتين تمكنانه من تحدي إسرائيل.

واستقطب صدام عدداً كبيراً من القيادات الفلسطينية، ومنح حق اللجوء السياسي للقادة الفلسطينيين الثلاثة: جورج حبش، وأبو نضال، وأبو العباس، في 2 سبتمبر 1990، أي بعد شهر واحد من الغزو.

6. الشارع العربي وأحلام الوحدة

اعتمد صدام على اندلاع الثورة ومظاهرات الحماس والتأييد في الشارع العربي، بحيث تصوّر عدسات الإعلام الغربية تفجر الشارع السياسي العربي بما يشكل ضغطاً على الحكومات. وبالفعل خرجت مظاهرات عارمة في عمّان، والجزائر، والمغرب، وتونس، وعدة أماكن أخرى. وكان هدف صدام هو إشاعة الاضطراب والقلق في النظم السياسية العربية المنافسة وإقناع الغرب أن الجماهير تسانده. ولعل ربط صدام القضايا العربية كلها بعضها ببعض من فلسطين والانتفاضة، إلى لبنان والاحتلال السوري والإسرائيلي، إلى توزيع الثروة العربية توزيعاً عادلاً، كان تحضيراً منه لموقف تفاوضي يريد تفادي نشوب الحرب أكثر مما يسعى لها، أو يرتب نفسه لملاقاتها.

وعلى الرغم من عدم جدية تلك الشعارات إلا أن العراق استطاع أن يجد تأييداً من بعض المثقفين والمفكرين العرب، ومن قطاعات كبيرة من الرأي العام العربي، ممن اعتبروا ما أقدم عليه العراق خطوة أولى في طريق الوحدة العربية. إضافة إلى ذلك نجح العراق في التأثير على الرأي العام العربي من جهة إمكانية استعادة أراضيه، ومقاومة الاستعمار والهيمنة الأمريكية، واستثمار الأموال العربية داخل الوطن العربي، وتحقيق العدالة بعد أن ظل المتخمون يزدادون تخمة والفقراء يزدادون جوعاً وفقراً، وهكذا بدا صدام وكأنه زعيم العرب ومحررهم.

قال بعض المفكرين العرب إن بعض الدول العربية، مثل المملكة العربية السعودية ومصر وسورية، ارتكبت جريمة في تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية ضد دولة عربية. وإنها بفعلتها تلك أساءت إلى مبادئ القومية العربية ومزقت الإجماع العربي. وأضاف هؤلاء أن مصدر الخطر الحقيقي الذي يهدد الأمة العربية ليس صداماً بل الدول الغربية. وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، وصوروا صداماً بطلاً للقومية العربية، عمدت إلى إذلاله مؤامرة غربية أو صهيونية.

تعكس مثل هذه المواقف، بداهة، إحساس العرب بالنقمة على الاستعمار الغربي، الذي تعرض له الوطن العربي في بداية هذا القرن. كما تعكس استياءهم لدور الغرب في خلق إسرائيل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتأييد المطلق الذي تمنحه الولايات المتحدة الأمريكية لها منذ قيامها، ولو كان ذلك على حساب المصالح الأمريكية نفسها. كما أن كثيراً من العرب ما زالوا يشعرون بالحنين الرومانسي الحالم، إلى ماضيهم حين لم يكن لحضارتهم مثيل، ولا لقوتهم منافس.

لكن هذه الآراء لا تمت إلى الواقع بصلة. فمن المؤسف أن "القومية العربية"، وهي شعار يرفعه معظم العرب، لم تسفر حتى الآن عن عمل سياسي موحد، وكان "الإجماع العربي" غائباً أكثر مما كان حاضراً، في معظم الأحداث المهمة التي أثرت في المنطقة.

أراد صدام، ومن ورائه حزب البعث، إشعال حماس الأراضي العربية كلها، مؤكداً أن العرب كانوا عظماء في الماضي، ولهم تاريخ مجيد، وكانت بغداد مركزاً لثقافة العالم. وكان الاستعمار هو السبب في انحدار العرب وتفككهم، فلماذا لا تعود عظمة العرب مرة أخرى، وتتكون دولة عربية واحدة مساوية للقوى العظمى، بل أكبر منها، وما الحدود بينها إلا حدود وهمية ومصطنعة، وضعها الاستعمار.

قال صدام حسين: "أيها العرب.. لقد برهنتم لساكني الكرة الأرضية أن اختيار الله لكم لتكون أمتكم شاهداً على الإنسانية جميعاً، هو اختيار حق. ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[ w (سورة البقرة، الآية 143). ولقد تقدم الصفوف فيكم في مبادرة الاستجابة العظيمة لمناصرة شعب العراق، شعب الحجارة الصامد الذي أوكل الله له واجب إظهار الحق ضد أباطيل الصهاينة، وإظهار كم هو الحق مقتدر وكم هو الباطل ضعيف عندما ينازله الحق".

كان صدام يريد أن يقول إن الكويت كانت دولة عربية مصطنعة الحدود، ضمن الحدود الوهمية التي صنعها الاستعمار وأن الغزو العراقي للكويت كان الخطوة الأولى لمحو الحدود غير القانونية.

7. كرت الشعور الإسلامي، ونداء الجهاد

على الرغم من أن صداماً شخص علماني واضح، وحزب البعث هو حزب لا ديني طالما أعلن عدم صلاحية الإسلام كمنهج للحياة، وظل سنوات عديدة يحارب المسلمين الشيعة في جنوب العراق، والأكراد السنة في شماله، إلا أن صدام لعب بكرت نداء الجهاد الإسلامي المقدس ضد الصليبيين والكفار، ففي يوم 10 أغسطس 1990، أثناء انعقاد مؤتمر القمة العربي في القاهرة، وجه صدام حسين نداءه إلى المسلمين كافة: "إلى جماهير العرب، وإلى المسلمين حيثما كانوا .. أنقذوا مكة وقبر الرسول من الاحتلال .. إن أمتكم أمة عظيمة اختارها الله لتكون أمة القرآن وشرفها عبر مراحل الزمن، أن تحمل مبادئ كل الرسالات السماوية، وأن تكون مبشرة وداعية لمبادئها، وما ورد فيها من قيم وأحكام .. ومنها تعاقب الأنبياء والرسل ليؤدي كلٌ دوره العظيم..".

وأخذ صدام يطلق العديد من الشعارات الإسلامية أن المعركة أصبحت ضد الصليبيين الجدد، واستطاع أن يستصدر العديد من الفتاوى، سواء من داخل العراق أو من بعض الأنظمة المؤيدة له، بأن من يشارك في القتال، ضد مسلمي العراق، يصبح مرتداً عن دين الله، وأنه إذا هاجم الغرب العراق يصبح الجهاد فرضاً واجباً على المسلمين.

ولعل مما تجدر الإشارة إليه أن صداماً استغل الشعارات الإسلامية في حربه مع إيران كما استغلها في أزمة الخليج. ففي خلال السنتين الأولتين من الحرب العراقية الإيرانية أخذ يظهر نفسه كنصير للإسلام، وأدار الحرب باعتبارها حرباً مقدسة بين العراق المسلم والمجوسية الفارسية. ولم يلبث أن ادعى رجوع نسبه إلى السلالة النبوية الشريفة. كما تميزت الفترة التي سبقت غزو الكويت بإقامة المهرجانات والمؤتمرات الإسلامية في بغداد والتي حاول من خلالها استقطاب العديد من الكتاب والصحفيين وعلماء الدين والفنانين، وقد تميزت تلك الاحتفالات بالبذخ والإسراف. وكان الخطاب الديني واضحاً في المؤتمر الذي عقده صدام حسين في بغداد لعلماء المسلمين قبل شهر واحد من الغزو العراقي للكويت.

وحين تجمعت القوات المتحالفة الدولية، في حفر الباطن بالمملكة العربية السعودية، أطلق الرئيس العراقي دعوة الجهاد لإنقاذ مكة وقبر الرسول من الاحتلال الأجنبي وطالب الجماهير العربية والإسلامية بالإطاحة بأنظمتها السياسية وبحكامها، الذين تعاونوا مع القوات الأجنبية التي باتت تدنس الحرمين الشريفين.

كان الهدف السياسي من هذا الكرت هو إيهام الغرب بأنه إذا تصدى لحرب صدام، فإن أربعمائة مليون مسلم، من جميع أنحاء العالم، سيهبون للوقوف بجانبه، ومن ثم كانت إذاعة بغداد تردد: "الجنود اليهود الأمريكيون في مكة المكرمة". كما كان الهدف الظهور أمام مسلمي العالم بأن صدام حسين هو صلاح الدين الجديد الذي سيكسر شوكة الصليبيين ويطردهم من الأراضي الإسلامية.

8. كرت الرهائن

هو أقوى كروت صدام حسين، وقد استغله لهدفين:

أ. لتهديد باستخدامهم دروعاً بشرية في القواعد العراقية المحتمل تعرضها للهجوم.

ب.الابتزاز السياسي وربط الإفراج عنهم بحضور مسؤولين من الدول التي ينتمون إليها، ومساومتهم طالباً منهم الإعلان عن رفض الخيار العسكري.

وقد تمثل الأسلوب العراقي في تجميع الرعايا الغربيين، وتوزيعهم على ثلاثة عشر مركزاً إستراتيجياً، لإحباط أي محاولة لشن هجوم على هذه المنشآت، التي تباينت بين تجمعات سكانية، ومواقع ومصانع لإنتاج الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وشبكة الجسور والطرق، التي تشكل خطوط إمداد حيوية للقوات العراقية المتمركزة في الكويت.

وقد صعّد العراق استخدام هذا الكرت، مع ما سُمي بحرب السفارات، عندما وجَّه في 20 أغسطس 1990 إنذاراً إلى السفارات الأجنبية في الكويت بإغلاق أبوابها، خلال أربعة أيام، ونقل أنشطتها إلى بغداد، وعندما رفضت جميع الدول الغربية، وبعض الدول الآسيوية والأفريقية الإنذار العراقي، بدأت القوات العراقية في حصار السفارات الأجنبية، وقطع جميع أنواع المرافق الحيوية عنها، وعدم السماح لأي من الدبلوماسيين بمغادرة بغداد. وهكذا تحولت قضية السفارات والرهائن إلى نقطة المواجهة الرئيسية بين العراق ومعظم الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

وكان صدام بارعاً حين قال، في رسالة وجهها إلى الرئيس الأمريكي بوش في 21 أغسطس 1990: "الرئيس بوش يعرف، أو أفترض أنه يعرف أن أمريكا نفسها، أثناء الحرب العالمية الثانية، احتجزت عشرات الألوف من رعاياها لمجرد أنهم كانوا من أصل ياباني، وقد استندت أمريكا، في تعاملها هذا، إلى قاعدة دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر".

المفاجأة: إقدام صدام حسين على إطلاق سراح الرهائن الغربيين، الذين كان يحتجزهم دون مقابل، ودون مبرر، بينما كان في وضع يجعله في أشد الحاجة إلى هذا الكرت، الذي كان أهم وأقوى كروته.

9. عقدة فيتنام

كان صدام واثقاً ثقة كاملة، دون مبرر لهذه الثقة، من أن الكونجرس الأمريكي لن يسمح للرئيس بوش باستخدام القوة ضد العراق، بسبب عقدة فيتنام، حيث خاضت الولايات المتحدة الأمريكية، طوال سبع سنوات، حرباً مكلفة عقيمة في فيتنام، خسرت فيها الكثير، ثم واجهت بعدها رأياً عاماً ثائراً يصر على عدم حدوث أي تورط أمريكي أو تدخلات عسكرية في نزاعات العالم الثالث، مما اضطر نيكسون إلى إعلان مبدأه، الذي عُرف بـ "مبدأ نيكسون" الذي يؤكد على فك ارتباط الولايات المتحدة الأمريكية العسكري المباشر في المشكلات الدولية.

وازداد عمق عقدة فيتنام حين فشلت محاولة إنقاذ الرهائن الأمريكيين المحتجزين في السفارة الأمريكية في طهران عام 1980.

ومن ثم كان صدام حسين يراهن على أن المؤسسات الدستورية في الولايات المتحدة الأمريكية لن تعطي الرئيس الأمريكي حرية الحركة في الدخول المباشر إلى الحرب مع العراق، وقال صدام حسين لوزير العدل الأمريكي الأسبق رمزي كلارك: "لقد فقد الرئيس الأمريكي ليندون جونسون القاعدة، التي يستند إليها، بالاستمرار في حربه ضد فيتنام، فمـن غير المتوقع أن يبقى الرئيس بوش في موقعه إذا ما تورط في الحرب مع العراق ..!".

وصرح صدام حسين بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد هزتها عقدة فيتنام، وظهر ذلك في الانسحاب الأمريكي السريع من لبنان، عقب الهجمات على قوات المارينيز في بيروت. "وكادت إدارتها كلها تصبح محل تساؤل لو استمرت الغارات على قواتها، التي احتلت بنما. لقد هُزمت أمريكا، في بعض المواجهات، رغم كل ما تملكه من قوة، وظهر عليها الإحباط والتردد، عندما اعتدت على حقوق الشعوب، وانطلقت من العنجهية والهيمنة، وهذه هي النتيجة الطبيعية لمن يعتدي على حقوق الشعوب".

كان هدف صدام من كرت عقدة فيتنام هو إقناع الولايات المتحدة الأمريكية أن الاشتباك مع العراق سوف يسبب جرحاً آخر لا يندمل، وكان هدفه كذلك بلبلة الرأي العام الأمريكي وانقسامه.

10. كرت الادعاء بالأحقية التاريخية في الكويت

كان العراق معارضاً دائماً لقبول الكويت دولة مستقلة واحترام سيادتها. ويعتقد صدام، شأنه شأن كثير من العراقيين، بأن للعراق حقوقاً تاريخية في الكويت، ترتكز إلى أنها كانت جزءاً من ولاية البصرة أثناء الحكم العثماني. ويكفي القول هنا إن ثمة خبراء محايدين عكفوا على دراسة هذه القضية، وتوصلوا إلى نتيجة مفادها أن الادعاءات العراقية لا أساس لها من الصحة.

بيد أن صداماً تناسى أن زميله السابق اللواء أحمد حسن البكر، الرئيس العراقي السابق، تخلى في أكتوبر 1963 عن ادعاء العراق ملكية الكويت واعترف باستقلالها وسيادتها ووافق على عضويتها في الجامعة العربية والأمم المتحدة. وعاد صدام يكرر أن الكويت كانت، على مر التاريخ، جزءاً من العراق، وأنه بغزوها قد أعاد الحق التاريخي إلى نصابه، وكان الهدف من هذا الكرت:

أ. إلهاب حماس الشعب والجيش العراقي إلى ضرورة التمسك بالكويت

ب. إرباك الرأي العام في العالم وفي الولايات المتحدة الأمريكية بين قطاعات الجماهير التي تجهل حقائق التاريخ والجغرافيا.

11. كرت الإسراع في خطوات ضم الكويت وكسب الوقت

وهو يرتبط بالكرت السابق، إذ أصدر صدام حسين مرسوماً جمهورياً بضم الكويت، في 26 أغسطس 1990، وأشفعه بقرارات إدارية باعتبار الكويت هي المحافظة التاسعة عشرة من محافظات العراق باسم محافظة كاظمة، كما ضم إليها قضاء صدامية المطلاع وناحية العبدلي، التابعين لمحافظة البصرة، وظهرت خريطة رسمية جديدة أدخلت نحو 700 كيلومتر مربع من الكويت في محافظة البصرة.

أخذ العراق ينشر دعايته عن تنفيذه للعديد من المشروعات، من بينها حفر ترعة شط العرب ومدها إلى الكويت، ومد سكة حديد البصرة إليها، وأصدر مجلس الثورة العراقي قراراً ألغى به التعامل بالدينار الكويتي، مؤكداً أن ضم الكويت إلى العراق أصبح قراراً أبدياً لا رجعة فيه ولا مساومة بشأنه.

    كان الهدف من هذا التصعيد:

أ. تعزيز الموقف التفاوضي للعراق لعله يستطيع تحريك نقطة الحل الوسط إلى موقع أكثر ملاءمة له، وإعطاء إشارة للأطراف الآخرى بأنه على استعداد للمضي في المخاطرة إلى نهايتها، مهما كانت النتائج، وهذا يدفعها إلى حسابات أخرى.

ب. كسب الوقت لتثبيت أقدام جنوده على الأرض الكويتية، وإحداث انشقاق في التحالف والتأثير على الرأي العام الداخلي والعام.

12. كرت معارضة الحكم الوراثي ومحاولة إزالته

عمد صدام إلى تصوير أسرة آل صباح في الكويت، والأسر الحاكمة في دول الخليج، بأنها أدوات تتحكم فيها شركات النفط الغربية، وأنها مجرد ألاعيب في يد واشنطن.

كان الهدف من هذا الكرت:

أ. تغطية غزو العراق للكويت وتصويره على أنه ضربة لنظم الحكم الوراثية العتيقة.

ب. إقلاق حكومة المملكة العربية السعودية، وحكومات دول الخليج الآخرى والمباعدة بينها وبين شعوبها.

ج. تصوير صدام أمام هذه الشعوب بأنه المحرر والمنقذ لها.

د. إثارة الرأي العام في الغرب وجعله يتساءل لماذا تدعم أمريكا، الدولة الديمقراطية، نظم الحكم الوراثية هذه.

13. كرت الزعيم البطل

أراد صدام حسين أن يظهر في دور بطل العرب وزعيمهم، لقد كوَّن قوة مسلحة هائلة، وآلة عسكرية جبارة، فضلاً عن الصواريخ والأسلحة الكيماوية، والخبرات القتالية العالية، التي اكتسبها الجيش العراقي خلال حرب السنوات الثمان مع إيران. وأراد أن يصور للشعوب العربية أنه وريث حمورابي ونبوخذ نصر، وصلاح الدين الأيوبي، الذي سيطرد القوى الصليبية ويهزمها. ما أن وضعت حرب العراق وإيران أوزارها، حتى طالب صدام بالمزيد، أراد من جيرانه العرب الاعتراف بصدارة العراق في الخليج، وأن يحصل على منفذ أكبر إلى الخليج لنشر أسطوله البحري من أجل الدفاع عن الأمن العربي كله، على حد زعمه. كما أراد إعفاءه من الديون التي تراكمت عليه جراء الحرب، إضافة إلى منحه قروضاً جديدة. وأخذ يلوح بمطامح أخرى تتجاوز حدود الخليج. كان يطمح أن يصبح الناطق الأول باسم العرب لدى أمريكا، أي أن يكون الرجل الذي تستطيع واشنطن أن تسوي معه مشاكل المنطقة، بما فيها المشكلة الفلسطينية. وبعبارة أخرى، كان يطمح إلى الهيمنة على المنطقة بكاملها والتفوق على الرئيس جمال عبدالناصر الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة، قائداً وبطلاً عربياً.

وأخذ يتصرف على هذا الأساس، ففي الجلسة الافتتاحية لمؤتمر القمة العربية في بغداد في نهاية مايو 1990، أخذ صدام يخاطب الزعماء العرب وكأنهم مرؤوسون له، كان متعالياً عليهم لا يعدهم أنداداً له.

لم يكن الكثيرون يعلمون أن شعاراته التي يطلقها هي مجرد شعارات جوفاء، ومثال ذلك تهديده الذي أطلقه في أبريل 1990 بإحراق نصف إسرائيل إن هي أقدمت على مهاجمة العراق، أو أي بلد عربي آخر، فإنه بعد هذا التهديد العنيف، قال لمسؤول عربي كبير: "أرجو أن تنقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية أن التصريح الذي صدر عنا هو للاستهلاك المحلي فقط. وليس لدينا النية أبداً إلحاق الضرر بإسرائيل!".

أخذ العالم الخارجي بتصريحات صدام حسين العنيفة مأخذ الجد كما وجدت وسائل الإعلام سبباً قومياً لاتهامه بأنه رجل غير متزن وخطير. لقد كان صدام ضحية أخطائه الشخصية وتهوره الحاد ومزاجه العنيف.

كان صدام قد اتبع عدة خطوات سابقة لإثبات زعامته للعرب، منها:

أ. أنه قاد العرب لعزل مصر عن الأمة العربية عقب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، واستطاع في قمة بغداد، الصمود والتصدي، أن يحقق هدفه هذا. ولم ينتبه الزعماء العرب إلى مخطط صدام لكي يصبح قوة إقليمية كبرى تستطيع السيطرة على القرارات السياسية والاقتصادية، والتعامل مع الغرب من هذا المنطلق.

ب. شنه الحرب على إيران عام 1980، معتبراً نفسه حامياً للأمة العربية مما أعطاه دفعة قوية في منطقة الخليج، بل المنطقة العربية كلها.

أشارت بعض التقارير الأمريكية حول شخصية صدام حسين إلى إعجابه الخاص بالزعامة الناصرية وسحرها، وسعيه لأن يكون "ناصراً" جديداً في المنطقة العربية. إضافة إلى تلك الصور والتماثيل التي تملأ العاصمة العراقية، ومدن العراق، والتي يظهر فيها صدام حسين ماداً يديه، شامخاً تحيط به رسومات خلفية لدبابات وطائرات، مما يعكس تعطشاً شديداً للزعامة.

كان الهدف السياسي من هذا الكرت هو الحصول على تأييد الشعوب العربية، وهز الأنظمة المعارضة لغزو الكويت. وكان هناك هدف آخر وهو الإشارة إلى الدول المتحالفة بأنه زعيم سوف يبقى حتى إذا انتصر التحالف، لأنه حسبما جرت العادة في المنطقة العربية لم يُعزل أي قائد عربي، خلال الأربعين سنة الماضية، بسبب هزيمته في حرب ما، بل يبقى في الشارع العربي بطلاً شهيداً، أي منتصراً.