إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / العراق والكويت، الجذور ... الغزو ... التحرير / اللعبة السياسية، وإدارة الأزمة









مقدمة

ثانياً: كروت كانت في يده ولم يستخدمها

1. كرت الهجوم على المملكة العربية السعودية

ردد صدام غير مرة، بعد انتهاء الحرب، قوله: "أخطأنا خطأً جسيماً لعدم إقدامنا على غزو المملكة العربية السعودية".

كان بإمكان صدام حسين التقدم للهجوم على المملكة العربية السعودية، أو على الأقل، احتلال المنطقة الشرقية منها، وكان سيساعده على ذلك:

أ. عدم قدرة الوحدات السعودية على صد الهجوم العراقي في حالة حدوثه.

ب. الوحدات البرية السعودية غير مستكملة، في الأفراد والأسلحة والذخائر والمعدات.

ج. الوحدات البرية غير مدربة التدريب الكافي الذي يؤهلها إلى خوض معركة دفاعية ناجحة.

د. نقص خطير في وحدات وأجهزة الإمدادات والتموين.

هـ. نقص خطير في وحدات وأجهزة الإصلاح والإمداد بقطع الغيار.

و. نقص خطير في وحدات ومعدات المهندسين العسكريين، ووحدات ومعدات الحرب الكيماوية، ووحدات وأجهزة الوحدات الطبية.

كانت معلومات الاستطلاع الأمريكية تشير إلى وجود 800 دبابة عراقية معظمها من طراز "تي 72" متمركزة حول البصرة، وفي الوقت نفسه فإن المسافة بينها وبين حقول النفط السعودية لم يكن فيها أكثر من ألف جندي من الحرس الوطني السعودي. وكانت طلائع القوات الأمريكية التي وصلت إلى قاعدة الظهران، لا تزيد في ذلك الوقت عن لواءين وقوة جوية محدودة. ولم يكن الجنرال شوارتزكوف على استعداد لأن يطمئن إلا بعد أن يتأكد أن لديه على الأرض فرقتين على أقل تقدير (أي قرابة 40 ألف جندي). وكانت الحسابات أن يتحقق ذلك خلال أسبوع. وبالتالي فإنه في تلك الفترة لم يكن هناك ما هو أدعى لطمأنه الساسة والعسكريين الأمريكان أكثر من التأكيدات، التي تجيئهم كل يوم من العراق، تؤكد أنه لا ينوي القيام بأي عمل ضد المملكة وكان العراق يقولها لمعنى يقصده، وكان صناع القرار السياسي والعسكري الأمريكي يريدونها بالمعنى الذي يريحهم. وفي ظرف أيام كان الحشد الأمريكي قريباً من تحقيق هدفه، وأصبح واضحاً أن الثغرة التي كانت مفتوحة أمام العراق يجري إغلاقها بسرعة.

وهكذا ضاع من صدام كرت ثمين، كان من الممكن أن يكون له تأثير واضح في مجريات الأحداث.

2. كرت القصف المكثف على إسرائيل منذ البداية

كان يمكن لصدام أن يوجه ضربات صاروخية مكثفة ومركزة على إسرائيل، منذ البداية، ومن ثم إما أن إسرائيل كانت ستدخل الحرب مباشرة مع صدام، وعندئذ سوف تنقلب الأوضاع، وينفرط عقد التحالف، ولن تستطيع كثير من الحكومات العربية أن تدخل في حرب ضد صدام، بل كان الحياد هو أقصى ما يمكن أن تفعله. وإما أن إسرائيل كانت ستنصاع لضغوط أمريكا، وتسكت على مضض، ولكن الشارع العربي والإسلامي كان سيقف حتماً مع صدام، وتحدث النتيجة نفسها، وهي انفراط عقد التحالف.

ولكنه لم يطلق إلاّ ما جملته 42 صاروخاً على إسرائيل من يوم 18 يناير 1991 إلى 26 فبراير 1991.

3. كرت الهجوم المباشر على القوات المتحالفة في بداية حشدها:

ويتعذر تفسير إحجام صدام عن استخدام هذا الكرت. فلم يوجه ضرباته الصاروخية على موانئ الإنزال، ولم يحاول شن الهجمات ضد حشود الطائرات والقوات المتحالفة، ولم يشن غارات فدائية لضرب خط أنابيب النفط المحاذي للحدود في المملكة العربية السعودية. وبينما كانت القوات المتحالفة تتدفق، قبع جيش صدام متحصناً في الكويت.

4. كرت استخدام الغازات الحربية في الحرب البرية وغيرها

كان يمكن لصدام حسين استخدام الغازات الحربية ضد القوات المهاجمة أثناء الحرب البرية، بينما كانت قواته في موقف إستراتيجي يحتاج إلى استخدامها بشكل ضروري. إضافة إلى أنه كان بإمكانه استخدام الغازات منذ البداية في قصف إسرائيل والقوات المتحالفة.

5. كرت الاستجابة للنداءات والانسحاب في وقت مناسب

عقب غزو صدام حسين للكويت، تتابعت النداءات من رؤساء دول كثيرين تدعوه إلى الانسحاب من الكويت، والتفاوض السلمي، وعلى سبيل المثال، بلغت نداءات الرئيس المصري حسني مبارك ثلاثة وثلاثين نداء، وكان يمكن لصدام أن يظهر أمام العالم كله بمظهر الكريم الذي يستجيب للنداءات، وينسحب، ومن ثم يفاوض ويساوم ويربح الكثير، إضافة إلى الإبقاء على قوته وجيشه وسمعته الدولية، وتحقيقه لهدف التخويف الواضح لدول الخليج بما يضمن استجابتها لمطالبه وإبتزازاته بعد ذلك.

وقد أُعطي صدام فرصة للانسحاب بعد مفاوضات شارك فيها، تقريباً، كل زعماء العالم، ومددت مهلة الانسحاب إلى ستة أشهر، وكان لديه الخيار في حل سلمي، ولكنه رفض في غرور وصلف، ولو كان صدام مفكراً إستراتيجياً، لما أعطى أعداءه هذه الفرصة، بل لانتهز غير فرصة مواتية للانسحاب والحفاظ على كرامته.

6. كرت القصف الصاروخي الصحيح

يبلغ مدى صواريخ سكود الأساسية 300 كيلومتر تقريباً، غير أن المهندسين العسكريين العراقيين أدخلوا تعديلات عليها، إبان الحرب العراقية ـ الإيرانية. فأنتجوا منها نوعين محليين أبعد مدى، هما الحسين والعباس، يبلغ مداهما 600 و860 كيلومتراً على التوالي. وتمكن المهندسون من زيادة المدى، بزيادة وزن الوقود الصاروخي وتقليل وزن الرأس الحربي، مما خفض من فاعليته، وقلل من دقته. إذ بلغ "الخطأ المحتمل في المسافة" (منطقة الانتشار) 3000 متر. لذا، فإن هذه الصواريخ لم تكن من الناحية الفعلية سوى أسلحة إرهابية، تستخدم ضد المراكز السكانية أكثر من استخدامها ضد الأهداف العسكرية.

إضافة إلى ذلك فإن صداماً حين كان يلجأ إلى القصف الصاروخي فإنه كان يقذف بصاروخين صاروخين، أو ثلاثة ثلاثة، وهذا الأسلوب، حسب المعروف من الخبرة العسكرية، لا يحقق شيئاً، ولا يؤثر تأثيراً مباشراً إيجابياً على الخصم، وإنما الأسلوب المؤثر أن يلجأ إلى القصف المركز، الذي لا يقل حجم الضربة الواحدة فيه عن تسعة صواريخ. ومن المتعذر فهم عدم لجوء صدام إلى هذه البديهية المسلم بها في أسلوب القصف الصاروخي الصحيح.

ثالثاً: كروت خطط للحصول عليها ولكنها سقطت من يده، وضاعت فرصة اللعب بها

1. كرت القبض على الأسرة المالكة الكويتية

لدى تأكد الاستخبارات الأمريكية من تحرك الحشود العراقية تجاه الكويت، بادرت بإبلاغ أسرة آل الصباح بسرعة مغادرة الكويت على الفور، بل في ظرف ساعتين على الأكثر. ومن ثم عندما أسرعت القوات العراقية إلى مقر أمير الكويت، لم تعثر عليه، ولا لأفراد حكومته البارزين على أثر. وجاء فجر 2 أغسطس 1990، وكانت القوات العراقية قد اجتاحت الكويت، ولكن الأساس السياسي الذي قامت عليه الخطة لم ينجح، ذلك أن خروج أمير الكويت وباقي أفراد أسرته سالمين من الكويت فتح ثغرة كبيرة في الأساس السياسي للخطة العراقية. كان من المفروض أن يأسر الأمير وأفراد عائلته الأقربين على الأقل ـ حتى لا يظل هناك من يملك حقاً شرعياً في طلب النجدة من القبائل، أو الدول الأخرى. وكان مؤدى ذلك أن الغزو العراقي للكويت وإن نجح في احتلال البلد، لم ينجح في السيطرة على رموز الشرعية فيه. وحتى إذا كانت هذه الرموز قد خرجت من البلاد، فإنها لم تترك شرعيتها وراءها، وإنما أخذتها معها، وبها كانت تستطيع أن تتصرف على النحو الذي ترتئيه سواء مع القبائل القريبة، أو مع الدول المهتمة.

من العجيب أن سمح صدام بخروج القادة العسكريين الكويتيين، وكبار موظفي الدولة، وفشل جيش العراق في الاستيلاء على القاعدتين الجويتين في الكويت، في الساعات الأولى من الغزو، مما أتاح لنحو 40 طائرة كويتية، وعدد من الزوارق البحرية والجزء الأكبر من أحد ألوية الجيش الكويتي، الفرار في سلام إلى المملكة العربية السعودية. ولا شك كذلك أن صداماً لم يتبع الأسلوب الصحيح للقضاء على أسرة الصباح، إذا كان قد نوى ذلك أصلاً، فلماذا لم يلتف من الغرب، ويفسد عليهم منافذ الهرب.

كان ذلك النجاح هو أوّل ضربة وجهت للخطة التي بنت عليها القيادة العراقية حساباتها الأولى الرئيسية. ذلك أنه أصبح من الممكن التحدث مع حكومة شرعية للكويت هي وحدها صاحب الحق في أن تقبل أو ترفض أي حل للأزمة بعد ذلك، بصرف النظر عن احتلال الكويت نفسها وبصرف النظر عن أي ترتيبات تتم من قبل سلطة الاحتلال. وطلبت حكومة الكويت الشرعية من الولايات المتحدة الأمريكية رسمياً، بمجرد وقوع الغزو، مساعدتها بكل الوسائل الممكنة لدحر العدوان وتحرير الكويت.

ومن العجيب أنه كان باستطاعة جيش العراق قطع الطريق على الأسرة المالكة الكويتية بالالتفاف من الغرب واحتلال الطريق المؤدي إلى منفذ الخفجي، ولكنه لم يفعل.

2. كرت استحالة قيام المجتمع الدولي بعمل عسكري ضده

بنى صدام حساباته على أساس استحالة قيام المجتمع الدولي بعمل عسكري ضده، لأنه لم يحدث في تاريخ الأمم المتحدة أن قامت بمثل هذا العمل إزاء احتلال دولة لدولة أخرى.

3. كرت إمكان تغاضي الولايات المتحدة الأمريكية عن فعلته

لعل مما ساعد الرئيس العراقي على اتخاذ قرار الغزو قناعته بأن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تتغاضى عن غزوه للكويت، حيث كان حريصاً على أن يؤكد عدم المساس بالمصالح الغربية في المنطقة، وعدم استخدام النفط ليكون سلاحاً ضد هذه المصالح. إضافة إلى ذلك كان يعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية، بعد تورطها في حرب فيتنام، لن تغامر في الدخول في حرب مع أقوى الجيوش العربية وأكبرها تسليحاً وأكثرها تدريباً وعدداً، فضلاً عن أنها كانت منشغلة آنذاك فيما يحدث في الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية من تطورات هائلة، وأنها صرفت نظرها عن منطقة الخليج بعد أن هدأت الأمور فيها، في أعقاب توقف الحرب العراقية الإيرانية، وتطبيع العلاقات بينها وبين العراق، بعد أن قدمت له مساعدتها وتعاونت معه عسكرياً وسياسياً واقتصادياً خلال سنوات الحرب.

وليس من شك في أن صداماً اعتقد خطأ أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تنظر إليه باعتباره قوة إقليمية كبرى يمكنها التعامل معه إذا ما ضمن لها مصالحها، ومن المؤكد أن صدام حسين كان يعتقد أن توثيق علاقته مع الولايات المتحدة الأمريكية سيذلل له الكثير من العقبات. لذلك حاول في الفترة القصيرة التي سبقت غزو الكويت، إعادة التقارب معها عله يستطيع أن يكسبها إلى جانبه، أو على الأقل تتغاضى عن غزوه للكويت، ولعله كان يأمل كذلك أن تعتمد عليه الولايات المتحدة الأمريكية لكي يحل بدلاً من شّاه إيران السابق في حراسة الخليج. وهو أمر كان على استعداد أن يقوم به، بل وصرَّح به فعلاً، من خلال مقابلاته مع العديد من الوفود والشخصيات الأمريكية، التي زارت بغداد، كما يتضح ذلك من الخطابات المتبادلة بينه وبين الرئيس الأمريكي جورج بوش خلال عام 1990م، والحوار الذي دار بينه وبين روبرت دول عضو مجلس الشيوخ الأمريكي.

ويظهر ذلك واضحاً في المقابلة التي أجرتها صحيفة وول ستريت "Wall Street" مع صدام حسين يوم 28 يونيه 1990م، وعرض فيها اعترافه بإسرائيل، مؤكداً أن العرب قد أخطأوا في عام 1967م عندما لم يقبلوا العروض الإسرائيلية للسلام. وظهر التناقض في موقف العراق عن مواقفه السابقة التي شن فيها حملات شديدة ضد الأنظمة العربية التي قبلت قرار الأمم المتحدة رقم 242 الخاص بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة. كما وضح التناقض في أن العراق كان صاحب الصوت الأعلى الرافض لدور الشرطي الذي كان يقوم به شّاه إيران في منطقة الخليج العربي.

أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تعليماتها إلى أبريل جلاسبي April Glaspie، سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية لدى بغداد، بالتودد إلى صدام حسين، علها تعيده إلى جادة الصواب. وتدخل الرئيس بوش شخصياً لمساعدة العراق على الحصول على القروض التي طلبها. ولعل هذا كله أقنع صدام حسين بأن واشنطن تتخذ منه موقفاً ودياً. وعندما اتخذ قراراه بغزو الكويت، لم يخطر باله قط أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تتدخل لإحباط مخططاته. وكان ذلك خطأ من جملة الأخطاء الفادحة التي ارتكبها.

ولعل أقصى ما تصور صدام أنه سيواجهه من الولايات المتحدة الأمريكية، هو مجرد الاستنكار والإدانة، وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تحذِّر صداماً في البداية تحذيراً صريحاً، وكان هذا خطأً دبلوماسياً منها بسبب انشغالها بأمور كثيرة، وهذا ما جعل بعض المحللين يظن أنها نصبت فخاً لصدام، خاصة أن جون كيلي مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، صرَّح في بغداد في فبراير 1990 أن الولايات المتحدة الأمريكية لا شأن لها بالنزاع الحدودي بين العراق والكويت. وأن السفيرة جلاسبي قالت لصدام: "ليس لدينا قط مواقف محددة في شأن النزاعات العربية ـ العربية، مثل نزاعكم الحدودي مع الكويت"، وقد صدَّق صدام كلامها، وصدّق كذلك تصريحاً آخر في 24 يوليه 1990 أنه ليس لدى الولايات المتحدة الأمريكية اتفاقية دفاع مشترك مع الكويت. كل هذا شجع صداماً على إقدامه على غزو الكويت.

وبينما أغمضت الولايات المتحدة الأمريكية عينها عن استخدام العراق للغازات الحربية ضد الأكراد في عام 1983م، وضد القوات الإيرانية في عام 1987م (في تحرير شبه جزيرة الفاو)، فإنها كانت تتيح له الفرصة للحصول على إمكانية إستراتيجية تمكنه من تطوير صناعة الأسلحة لديه مثل مواسير المدفع العملاق أو المفجرات النووية أو المعجلات التي تستخدم في فصل النظائر المشعة، لكن مع ملاحظة أن ذلك كله كان خاضعاً لسيطرة دقيقة، كما كان كله يدخل ضمن صناعة الخصم أو العدو المنتظر مواجهته.

4. كرت حياد فرنسا أو دعمها له

كانت علاقة فرنسا بدول الخليج جيدة، إلا أن علاقاتها بالعراق كانت أكثر تميزاً، وكان حجم صادراتها إليه، خاصة في مجالات التسليح والطاقة والصناعات العسكرية والمدنية كبيراً، بل ظلت فرنسا مورد الأسلحة الرئيسي إلى العراق منذ عام 1974، وحليفته على مدى 16 عاماً قبل غزو الكويت. وكان شيفنمان، وهو عضو يساري متشدد في الحزب الاشتراكي، وعضو قيادي بارز في جمعية الصداقة الفرنسية ـ العراقية، يسعى علناً إلى إسناد دور بارز إلى العراق في الشرق الأوسط. كان يرى في نظام صدام، البعثي العلماني، حاجزاً منيعاً أمام التيار الإسلامي. وليس ثمة ما يدعو إلى الاستغراب حول العلاقات الفرنسية الوطيدة مع بغداد، إذ أبرمت فرنسا مع العراق عقوداً ضخمة لتزويده بالأسلحة عام 1974 ثم في أعوام 1977 و1982 و1985 و1987. وعندما وجد العراق نفسه في وضع حرج أثناء حربه على إيران عام 1983، قدمت فرنسا إلى القوات الجوية العراقية طائرات من نوع (Super – Etendard) المزودة بصواريخ أكسوست من أسطولها الجوي الخاص. لذلك، كانت العلاقات العراقية ـ الفرنسية الحميمة، التي توطدت على مدى السنين، والتي انطوت على عقود بمليارات الدولارات، حقيقة سياسية واضحة في المنطقة. وكانت سياسة فرنسا التقليدية، منذ ديجول، تتسم بنزعة الاستقلال عن الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت علاقتها الطويلة بنظام صدام حسين، ودعمها له، منذ توليه السلطة مباشرة في منتصف السبعينيات، دافعاً لصدام حسين إلى الظن بأن فرنسا ستقف إلى جواره، أو على الأقل ستقف موقف الحياد، ولن تتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية بحال من الأحوال، وبالفعل كان شيفنمان يعارض أي عمل هجومي على العراق. وحين اقتنع أخيراً بضرورة تحرير الكويت لم يقبل أن يؤدي ذلك إلى تدمير قدرات العراق العسكرية. وعارض خطة تطويق فرق الحرس الجمهوري العراقي وتدميرها. ولكن موقف فرنسا تغ ير تماماً ودفعت بحاملة الطائرات كليمنصو إلى المنطقة وعلى متنها طائرات عمودية هجومية لإسناد القوات البرية الفرنسية.

5. كرت تأييد المعارضة الكويتية له

كان صدام حسين على علم بالخلافات التي كانت قائمة، عام 1990، بين المعارضة الكويتية والحكومة حول مجلس الأمة والمجلس الوطني، وذلك الكم من الصدامات والاعتقالات الذي أوحى إلى القيادة العراقية بوجود تصدع في الجبهة الداخلية للكويت، والاعتقاد بأن تلك المعارضة سوف تستقبل "قوات التحرير" العراقية بالورد، خاصة أن الصحافة الكويتية في ذلك الوقت (المعارضة والمؤيدة) كانت تقف وراء العراق دون تحفظ يذكر. ولعل هذا هو ما أوحى إلى القيادة العراقية أن تعلن في أيام الاجتياح الأولى، أنه قد كانت هنالك ثورة شعبية في الكويت، وأن هذه الثورة قد طلبت الدعم من "الأشقاء" في العراق.

ثم صدرت عدة بيانات من إذاعة الكويت عن الحكومة الكويتية الحرة المؤقتة التي شكَّلها صدام أعلنت فيها أن المستعمر الأجنبي هو الذي نصب أسرة الصباح التي نهبت ثروة الكويت وأذلت الشعب الكويتي وفرضت حالة شاملة من الإرهاب والقمع وكبت الحريات وقطع الأرزاق، فضلاً عن تآمرها ضد العراق الذي قدم الغالي والدم دفاعاً عن أرض وكرامة العرب، وأن حكومة الكويت الحرة المؤقتة سوف تقوم بعد تأمين الاستقرار الضروري، بإجراء انتخابات حرة نزيهة لقيام مجلس شعبي. كما أعلنت مصادرتها لأموال الأمير وولي عهده وبعض أفراد أسرته، وأكدت أن المتحدثين باسم الحكومة السابقة في الخارج لم يعودوا يمثلون السلطة الشرعية في الكويت. وفي بيان آخر أذيع من راديو بغداد أن حكومة الكويت الحرة المؤقتة نسقت مع قيادات العراق الشقيق على أن تبدأ القوات العسكرية الانسحاب من الكويت وفق جدول زمني.

غير أن تلك الحكومة التي وضح أن العراق قد أقامها في الكويت بقيادة العقيد علاء حسين لم تعمر طويلاً، فعلى أثر إعلانها الجمهورية في 7 أغسطس 1990 وطلبها الاندماج مع العراق على اعتبار أن الكويت جزء منه، انفرط عقدها بعد موافقة مجلس قيادة الثورة بالإجماع على قيام الوحدة الاندماجية بين الكويت والعراق. ولو كانت لدى صدام خطة مسبقة لغزو الكويت، لوجد بالتأكيد متسعاً من الوقت للاتصال بأعضاء المعارضة، والإعداد لتشكيل حكومة كويتية مؤقتة لترأس المحافظة الجديدة (الرقم 19 أي الكويت)، كذلك لم يحاول الحصول على تأييد فئة البعثيين المؤيدين له في الكويت. وعندما احتاج إلى تأسيس "حكومة عميلة" في الكويت، بعد الغزو، لم يجد كويتياً واحداً يقبل التعاون معه.

ولعل الأحداث التي كانت جارية على الساحة الكويتية آنذاك، قد شجعت النظام العراقي على تبين هذا المبرر وذلك وفق قراءة خاطئة للأحداث ومسارها، لقد كان هناك نوع من الصدام بين الحكومة الكويتية والمعارضة نتيجة الاختلاف على قضايا وطنية، ولكن هذا الخلاف دار في إطار من الاتفاق المبدئي (بين جميع الأطراف) على ثوابت معينة، لعل أهمها استقلالية الدولة وشرعية الأسرة الحاكمة (رغم الخلاف معها). بمعنى أن الخلاف أو الصدام محدد بهذه الثوابت بحيث أن كل كويتي من الممكن أن ينتقد ما يشاء، حتى الأسرة الحاكمة، ولكنه يقف عند الحدود المتفق عليها ألا وهي استقلالية الدولة وشرعية الأسرة. وما عدا ذلك فهو خاضع لإطار المبادئ العامة للدستور الذي ينظم الحياة السياسية في إطار معين من الثوابت.

ثالثاً: أسلوب استخدام صدام حسين لكروته

    أول ما يعيب أسلوب صدام أنه:

1. جعل القرار السياسي والعسكري في يده وحده، وكأنه محترف سياسة وعسكرية في وقت واحد، وسار على النسق الشمولي الذي لا يعترف بالمستشارين أو المتخصصين، وحتى إن وجدوا فإنهم لا يستطيعون أن يجهروا إلاّ بالرأى الذي يرضي الرئيس، وإلا كانت أعناقهم هي الثمن.

2. لم يدرس التاريخ أو يعتبر به، ولم يع أحدث مثال له، وهو طموحات عبدالناصر، وكيف حورب عندما خرج عن الخطوط المتفق عليها بين القوى العظمى وعندما ظهرت أطماعه.

3. الغرور واعتقاد أن بإمكانه اللعب بكروت متعارضة في وقت واحد، مثل التهديد بالإرهاب العالمي، وارتداء عباءة الإسلام، وادعاء حماية حقوق فلسطين.

4. أعطى القوات المتحالفة فرصة ستة أشهر تقريباً لتدريب قواتهم، واستكمال كل دقائق الحملة الجوية، وجلب الطائرات المناسبة المتخصصة لتنفيذ مهام محددة.

5. سلم المبادأة للخصم، ورضي أن تؤكل قواته المسلحة قطعة قطعة تحت شعار الصمود والفداء. وأعتقد أن أفضل طريقة للنصر هي الدفاع، مع أن من أبسط القواعد العسكرية أن الدفاع مرحلة مؤقتة، لا بد أن تتبعها مرحلة الهجمات الوقائية وضربات الإحباط.

6. دفع بقواته دون غطاء جوي، وتركهم بعد ذلك يرحبون بالوقوع في الأسر والاستسلام.

7. لم يستوعب المتغيرات الدولية، ولم يع أنه، مع النظام الدولي الجديد، فإن مبدأ غزو دولة لأراضي دولة أخرى مرفوض تماماً، ونسي، في استخدامه لكرت النفط والاقتصاد، أن منطقة الشرق الأوسط مقيدة بحركة العالم الاقتصادية، ومن ثم لا يمكن أن يسمح العالم بأن تصبح المنطقة في مهب الريح. ولا يسمح بوجود قوة إقليمية عسكرية واقتصادية تهدد المصالح الغربية وتسيطر على منابع النفط في منطقة الخليج.

8. لم يحاول إتاحة أي فرصة للحلول والمبادرات السلمية، بل استمر في تصعيد الموقف دون مبرر.

9. المبادرات التي أعلنها صدام كانت غير مقبولة من قوى التحالف، وكان يعلم جيداً أنها لن تقبل بها، لأنها لا تفي بالحد الأدنى الذي كانت تصر عليه.

10. لم يدرك أن التيار القومي العربي كان آخذاً في الانحسار مقابل بروز تيارات أصولية إسلامية في العديد من الدول العربية ترفض مقولات حزب البعث ووجوده ومبادئه.

11. لم يدرك أن النظام الحالي أحادي القطبية، ولم يعد ثنائي القطبية كما كان، وأن الاتفاق أصبح أكثر من الاختلاف.

12. أصر على تلقي الضربات الجوية الكاسحة على حساب مقدرات الشعب العراقي.

13. لم يهيئ الرأي العام الداخلي لتقبل نتائج القرار وتأثيراته الإيجابية والسلبية، ومن ثم انفجرت الثورة الشعبية بمجرد وقف إطلاق النار.

14. فشلت الدبلوماسية العراقية، في التأثير على القرارات المتلاحقة، التي أصدرها مجلس الأمن مقابل التأثير والنجاح الملحوظ للدبلوماسية الأمريكية.

15. فشل في إعداد مسرح المباراة سياسياً، وهو الأمر الذي نجحت فيه الدول المتحالفة.

16. التلويح بالردع مع المبالغة في تأثير ما لديه من صواريخ أرض / أرض وأسلحة كيماوية، مع عدم وجود أي تأثير لها.

17. استخدم المساعي الحميدة للرئيس جورباتشوف أسوأ استخدام. وأهدر وقتاً ثميناً بسبب التأخير الناشئ عن عدم رغبته في السماح لوزير خارجيته طارق عزيز بحرية التفاوض، أثناء وجوده في موسكو، ومن ثم الاضطرار إلى القيام برحلات مكوكية بين موسكو وبغداد عن طريق طهران، وكذلك بسبب انهيار الاتصالات العراقية نتيجة قصف القوات المتحالفة لها.

18. والأمر الذي لا شك فيه، أن العراق ألحق باحتلاله الكويت دماراً ليس في بنية الكويت فحسب، بل وفي الاقتصاد العراقي الذي زاده إعياء، والأخطر من ذلك، ما سببه احتلاله للكويت من تكبيد الكويت والمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي الأخرى مبالغ هائلة في انفاقاتها إزاء القوات المتحالفة الدولية، التي وصلت إلى مئات المليارات من الدولارات، وكان ذلك بالطبع خصماً من رصيد الثروة العربية القومية. كما أرغم مئات الألوف من الناس على النزوح من بيوتهم، وخلق صدعاً عميقاً في العالم العربي تمثل في إذكاء مشاعر الكراهية وبذر بذور الشك بين الشعوب العربية. ولعل هذا الصدع هو أشد عواقب الأزمة خطراً. لقد تخيل أن احتلال الكويت هو البديل الواقعي للأزمة الاقتصادية الطاحنة. ذلك أن الكويت تملك موارد نفطية كبيرة يمكن أن تعزز مداخيل النفط العراقي. كما أن امتلاك الكويت لأصول خارجية مهمة مدرة للعائد لا بد أن يساهم في تعزيز دخل العملات الصعبة، وتلك الأصول يمكن تسييلها أو رهنها لمواجهة التزامات الديون الخارجية القديمة أو الجديدة. وعلى الرغم من أن هذا المنطق، يتنافى مع مفاهيم وقيم العلاقات بين الدول، ومفاهيم الشرعية والسيادة، فإن ذلك لم يكن على جدول أعمال النظام في بغداد، حيث لم تكن تلك الاعتبارات تمثل قيمة لديه. ولذلك لم يكن غريباً أن يتحدث الدكتور سعدون حمادي، نائب رئيس الوزراء العراقي إبان فترة الاحتلال، عن القدرات الاقتصادية للعراق بعد الاحتلال. فقد ذكر أن العراق سيتمكن من ضخ ستة ملايين برميل من النفط، وجني ثمار ذلك من أموال مهمة، تمكن العراق من مواجهة التزاماته، والشروع في إعادة أعمار المنشآت والمدن، كما نشرت الحكومة العراقية بيانات عن الإمكانات المادية الناتجة عن الأصول الكويتية.

يضاف إلى ذلك تصريحات عدد من المسؤولين العراقيين، خلال فترة الاحتلال، أن الكويت سوف تكون مركزاً لإنتاج النفط، وميناء للتصدير والاستيراد، ومقراً للبنوك والمؤسسات المالية، وبذلك لن تكون هناك أنشطة اقتصادية أخرى تذكر فيها. وكان من أهداف ذلك التوجه إفراغ البلاد من معظم سكانها، وإجبار الكويتيين وغيرهم على المغادرة بمختلف الأساليب. كذلك قامت القوات العراقية بنقل أجهزة ومعدات وممتلكات المنشآت الكويتية الخاصة والعامة إلى العراق، بحجة إعادة توزيع الثروة بعدالة في كافة أرجاء القطر العراقي، كما كانوا يقولون. وبطبيعة الحال كان جزء من ذلك النقل القسري للممتلكات الكويتية، نهباً واضحاً لصالح المنتفعين من الغزو من أقطاب النظام، وأتباعهم في أجهزة القوات المسلحة، والأمن، وبقية الأجهزة التي دخلت الكويت.

وعندما حدث الغزو، توقفت الحياة الاقتصادية الاعتيادية، فقد توقف إنتاج النفط، بعد أن قررت الأمم المتحدة حظر شراء النفط العراقي والنفط الكويتي، كما توقفت تجارة الاستيراد من العالم الخارجي، وبذلك أصبحت الموانئ الكويتية والعراقية معطلة طيلة فترة الاحتلال. أما البنوك والشركات الاستثمارية، والمؤسسات الصناعية، والعديد من الشركات التجارية وشركات الخدمات فقد توقفت، بسبب العصيان المدني في الكويت أو نتيجة لعدم وجود جدوى اقتصادية من استمرار النشاط في ظل الاحتلال.

ومن الواضح أن الحظر كان مؤثراً. وبرهنت العقوبات على عزلة العراق على الساحة الدولية. وحال الحصار بين صدام والوصول إلى الأسواق العالمية، وقضى على المصدر الرئيسي الذي كان يعتمد عليه في الدخل ـ صادرات النفط ـ وحرم قواته المسلحة من سبل الحصول على قطع الغيار التي تحتاجها لصيانة المعدات الأجنبية الصنع.

وخلاصة القول يبدو أن صدام بدأ في إلقاء الكروت المختلفة، أملاً أن يتحسن موقفه، وهو لا يعلم أن جميعها مكشوفة، وأن جميعها قد زادت موقفه سوءاً.