إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات اجتماعية ونفسية / الاعتقاد









2

الاضطراب الضلالي

    ويوجد اضطراب تَغْلب فيه الضلالات، أو تكون أساسه، إلى درجة أن أطلق عليه اسمها، فسمي بالاضطراب الضلالي، وهو نوعين:

1. الاضطراب الضلالي.

2. الاضطراب الضلالي المشارك.

1. الاضطراب الضلالي (Delusional Disorder)

وهو اضطراب تسود فيه الضلالات أو الضلالات المنتظمة، من دون سبب جسماني، وتغيب فيه مواصفات الاضطراب الوجداني (الهوس والاكتئاب)، والفصام العقلي، وليس هناك أعراض أخرى يجدر ذكرها. غير أن الوجدان يكون مناسباً لمحتوى الضلالات، وتظل شخصية المريض متماسكة إلى حدٍّ كبير واختبار الواقع سليم نسبياً.

وأهـم ما يميز صورة هذا الاضطراب الإكلينيكية، هو وجود ضلالات غير مفرطة في الغرابـة، ولا ترجع إلى مرض عقلي آخر (مثل الفصام أو الاضطراب الوجداني)، وليس هناك سبب عضوي يكمن خلف هذا الاضطراب. وموضوعات الضلالات عادة هي: الحب أو العظمة أو الغيرة أو الاضطهاد أو ذات محتوى جسماني. وبناء على الموضوع الضلالي البارز، يكون نوع الاضطراب، ومن ثم فأنواع الاضطراب الضلالي هي:

أ. هوس المحب

إذ تسيطر على الشخص ضلال (اعتقاد) أنه محبوب من آخر حباً رومانسياً لدرجة الالتحام الروحي، وعادة يكون هذا الآخر من طبقة عالية أو مشهور أو رئيسه في العمل، وقد يكون غريباً عن صاحب الضلال تماماً. وقد يبذل المضطرب (صاحب الضلال) مجهودات للاتصال الشخصي بموضوع الضلال خلال التليفون أو الخطابات أو الهدايا أو الزيارات، أو الملاحظة المستمرة أو اعتراضه في الطريق.

ويكثر انتشار هذا الاضطراب بين الإناث في المرحلة الإكلينيكية (ظهور الأعراض المرضية والمثول في عيادات الطب النفسي)، بينما يلاحظ انتشاره أكثر بين الذكور في مجال الطب النفسي الشرعي. ويروي أستاذ علم النفس قصة الطالبة التي حضرت له ندوة في مدرستها الثانوية، ثم بدأت تراسلني بالبريد وتعبر عن حبها الشديد، ولم يرد عليها لمعرفته بهذا الاضطراب من خلال خطاباتها، فانتقلت إلى المكالمات الهاتفية، وحين لم تجد استجابة منه، حضرت إلى عيادته، وطلبت مقابلته، من دون أن تأخذ دورها كمريضة، فرفض مقابلتها، فكانت آخر رسائلها إليه، والتي تضمنت عتاباً شديداً، ولوعة بالغة، من حب لم يكن طرفاً فيه، ولم يشجعها، إطلاقاً، عليه، وذلك لمعرفته بما يمكن أن ينجم عن الاستجابة لمن لديه ضلالات المحب.

وكثيرون من المشاهير، خاصة الرجال، يستجيبون لتلك الضلالات لدى هؤلاء المريضات، تحت شعارات أن الحب شعور طيب ينبغي ألا يصد، ولكن غالباً ما تكون العاقبة سيئة، إذ تتمادى المحبة في حبها ثم تتدخل في حياة الشخص، موضوع الحب، بتصرفات تسبب له الكثير من المشاكل، وهو مسؤول عن ذلك لأنه ساعدها أن تضع ضلالاتها حيز الواقع وتتمسك بهـا. أمـا النساء موضوع الحب لدى الرجال المرضى بالاضطراب الضلالي، فغالباً لا يستجبن لمن يحبونهم ضلالياً، وغالباً ما يبلغن البوليس إذا تكررت مطاردة المحب لهن وشعرن بتهديده لحياتهن الاجتماعية.

ب. العظمة الضلالية

يعتقد الشخص، بما لا يدع مجالاً للشك، أنه عظيم، ولكنه غير معروف، أو أنه اكتشف اكتشافات مهمة، ويتقدم، أحياناً، لهيئات حكومية، ليسجل هذه الاكتشافات الوهمية. ويُروى أن مريضاً كان طالباً في المرحلة الثانوية، وكان يضايق مدرسي الفيزياء خلال الشرح في الحصة الخاصة بالفيزياء، ويحاول أن يثبت للمدرس أنه يفهم أكثر منه، وأنه اكتشف أخطاء في نظرية النسبية التي وضعها (أينشتين)، فكان المدرس يطرده من الفصل إلى الأخصائي الاجتماعي بالمدرسة، الذي حوله الأخصائي النفسي لمعالجته، وحين تحدث معه، وصل الحوار إلى أن قال الطالب إن المدرسين يستفزونه ويضايقونه، وإذا استمروا على ذلك، فإنه سوف يصنع أمراً خطيراً! فسأله الطبيب، ماذا سيصنع. فأجاب: أليس الذي يمسك الأرض في مكانها من الكون هو الجاذبية، التي بينها وبين الشمس؟ فأجاب الطبيب بالإيجاب. قال: إنني سوف أفصل تلك الجاذبية، وأجعل الأرض تضيع في الفضاء السحيق. فطلب الطبيب منه أن يحضر والده، وهو حاصل على مؤهل جامعي. وحين حضر الأب أخبره أن ابنه مريض، وأنه غير مستبصر بمرضه، وأنه يبدو متماسك التفكير، ولكنه لديه ضلالات عظمة سوف تدمر مستقبله الدراسي، إذا لم يأخذ العلاج، وأعطيته وصفة طبية بالعلاج. ولم يقتنع الأب بما قاله له الطبيب. ثم بعد عشر سنوات جاء الأب ومعه الابن إلى الطبيب نفسه، وأخبره برحلة طويلة من فشل الابن، دراسياً، ودخوله مستشفيات الصحة النفسية عدة مرات بعد الفشل الدراسي الذريع، الذي جعله يتحول إلى مضطرب السلوك من النوع العنيف، إذ ضرب والده وأخيه، وأحدث بهم إصابات بالغة، وذلك كعدوان ضد المجتمع الذي لم يستطع أن يثبت فيه أنه عظيم (من وجهة نظره المرضية). وهكذا، تسبب الاضطراب الضلالي الذي لم يعالج، في وقته، في ضياع هذا الطالب، دراسياً ونفسياً.

وقد يعتقد صاحب الضلال أنه على علاقة خاصة بشخص بارز، كنجم سينمائي مشهور، أو أنه مستشار لرئيس الدولة. وقد تحمل ضلالات العظمة محتوى عقائدياً (دينياً)، يسيطر بها الشخص على مجموعات من الناس، ويصبح قائداً لها، ويطلب منهم أن يبايعونه أميراً للمؤمنين، مثلاً. ويذكر أستاذ الطب النفسي قصة طالب الطب، الذي انتابته ضلالات العظمة هذه، فتفرغ لدراسة الدين، وترك الطب، وأقنع أسرته بضلالاته، خاصة وأنه الولد الوحيد، وكان متفوقاً دراسياً، وكانوا يثقون بقدرته العقلية، ثم طلب منهم أن يبايعوه أميراً للمؤمنين، ففعلت الأسرة، ثم أمر أخته التي كانت تدرس الطب، أن تترك دراسته، عملاً بأحاديث الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالتداوي بالحبة السوداء، إذ قال: "فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ السَّامَ"(البخاري: 5256)، وما ورد في القرآن الكريم عن فوائد العسل الصحية في قوله تعالى: )يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس((النحل: 69). ومن ثَمّ، فلا داعي لدراسة الطب فانصاعت لأمره؛ وبعد أن تزوجت تلك الأخت ظلت تدين بالوفاء لأخيها، لدرجة أنه حين مرض ابناها بالحمى، وأخذهما زوجها إلى طبيب، رغما عنها، وكتب لهما الطبيب علاجاً، لم تعطه لهما دون علم الزوج، وظلت تداويهما بالعسل والحبة السوداء، حتى توفى أحدهما وأصيب الآخر بالصمم. وهذا نموذج لما يمكن أن يفعله صاحب ضلال العظمة، لمن يقعون تحت تأثير ضلالاته.

ج. الغيرة الضلالية (ضلالات الخيانة)

وفى هذا النوع يكون المضطرب مقتنعاً تماماً، ومن دون سبب، بأن زوجته، تخونه ويجمع أدلة واهية ليؤكد خيانتها، ويقوي من ضلالته بهذه الأدلة، وغالباً يُقدم على خطوات غير عادية، تحت سيطرة الضلالات، فيواجه زوجته بذلك، وقد يحبسها في المنزل ويغلقه عليها، أو يمنع خروجها، بمفردها، أو يتتبعها، سراً، وكثيرا ما يعتدي عليها بالضرب. ويروى أن ابنين متزوجين أحضرا والدهما ووالدتهما إلى طبيب نفسي، وحين جلس الوالد، وكان منفعلاً، وجه كلامه إلى الطبيب، قائلاً: "اُنظر إلى هذه السيدة، إنها زوجتي (الوالدة)، وهي تخونني منذ أن تزوجتها، من سبعة وثلاثين عاماً، وسبق أن طلقتها مرتين بسبب خيانتها، وهي كاذبة وتنكر كل خياناتها، ولكن عندي أدلة على خيانتها، وأريد أن أطلقها الليلة، إلا أن أبنائي طلبوا أن أؤجل الطلاق حتى آخذ رأيك، لأنها الطلقة الأخيرة". وبينما كان يقول ذلك، كانت زوجته تبكي، بشدة، وكانت في التاسعة والخمسين من عمرها؛ ثم طلب الطبيب من السيدة وولداها الخروج، وجلس مع الوالد على انفراد، ليسمع ما لديه من أدلة. ولاحظ أن أدلته كلها واهية، ولكنه الإعتقاد المرضي (الضلال)، هو الذي يسيطرعلى عقله، وكان من خلال تفريغه لشحنته الانفعالية قد هدأ، فقال الطبيب له: "ألا ترى معي أن قرار الطلاق الذي ستأخذه، قرار خطير، خاصة أنها التطليقة الأخيرة؟". قال: "نعم". فقال له: "إذاً، لنرجئ قرار الطلاق، ونأخذ هذا العلاج، لكي تهدأ أعصابك، وتستطيع التفكير بهدوء، على أن نلتقى جلستين نفسيتين أسبوعياً". فوافق؛ وتردد على الطبيب عدداً من الجلسات النفسية، التي كشفت أصل عقدته. لقد كان من قرية، ونظراً لعدم توافر المدارس له ولأخوته، على مقربة منهم، آنذاك، وصعوبة المواصلات، اضطر الأب إلى تأجير شقة لهم في المدينة ليقيموا فيها، وأقامت معهم الأم لخدمتهم والإشراف عليهم، وفي يوم ما، وهو فى المرحلة الثانوية، خرج إلى زميله لكي يذهبا إلى السينما، ولكنه لم يجد زميله فعاد إلى البيت، وكان معه مفتاحاً فدخل من دون أن يشعر به أحد، وإذا به يجد أمه فى وضع جنسي كامل مع زوج أخته الكبرى، فذهل للحظة، ثم اندفع خارجاً من البيت وظل يمشي عدة ساعات عاد بعدها إلى البيت. ولكنه، في خلال تلك الساعات، كان يفكر أيقول لأبيه؟ وإذا قال له، فإنه سيصدم والده الذي يحبه، وسوف ينهدم بيت أخته، ولديها أولاد من زوجها هذا! ولكن هداه تفكيره، في نهاية الأمر إلى كتم الأمر في نفسه، ولا يطلع عليه أحداً، ولكنه قاطع أمه منذ تلك اللحظة، إلى أن توفيت، إذ كان يتجنبها ولا يخاطبها، ولا يجلس في مكان هي فيه. وعندما تزوج، كان خوفه الشديد من خيانة زوجته، فكان يتصيد لها الهفوات، وكان يعاقبها على الخيانة المحفورة في ذاكرته، والتي لم تكن هي طرفاً فيها. لقد طرح عليها مشاعره الأولية تجاه أمه، ومنها مشاعره تجاه خيانة أمه التي أخذت هي (أي الزوجة) مكانها؛ وكانت المرة الأولى التي يحدث شخصاً غيره في هذا الموضوع، وبتفسير ما حدث، داخلياً، له، وبفهمه خطأ الخلط بين أمه وزوجته، في داخل نفسه، حلت عقدته، وتحسنت نفسيته، للمرة الأولى، بعد مرور سنوات طويلة من ضلال الخيانة.

د. الاضطهاد الضلالي

وهو أكثر أنواع الاضطراب شيوعاً، وقد تكون الضلالات بسيطة أو معقدة، وعادة تشمل موضوعاً واحداً أو مجموعة موضوعات مرتبطة ببعضها، مثل أن هناك من يتآمرون ضده، أو من يحتال عليه، أو يتجسس عليه، أو يتتبعه، أو يدس له سماً أو عقاراً، أو يحقد عليه بخبث أو يضايقه، أو يعترضه في تحقيق أهدافه. ويروي الأستاذ الدكتور محمود حمودة، جامعة الأزهر، قصة المريض الذي حضر إلى عيادته، وجلس يتحدث بصوت هامس، لأن ما يقوله خطير، وتُعَدّ وصمة عار في جبين الوطن. فسأله الأستاذ، باهتمام وجدية، عن التفاصيل. فقال إنه كان يعمل في مكان ما بمؤهل شهادة إتمام الثانوية العامة، مؤقتاً، لأنه كان منتسباً لكلية جامعية، وفى هذا المكان طلب منه رئيسه أن يوقع على كشف حساب، فرفض (أي المريض) التوقيع على الكشف، إلاّ بعد مطالعة الفواتير. وعندما طلب كوباً من الشاي ليشربه لاحظ أن الشاي لونه أحمر زيادة عن اللون المألوف، فشكّ أن فيه شيئاً قد وضع له عقاباً على رفضه التوقيع. ومع ذلك شربه ليتأكد من ظنونه، ولكنه بعد شربه شعر بانحلال في أعصاب أطرافه السفلي، وظل يشرب كوب الشاي يومياً لينظر ماذا هم فاعلون؟ إذ شعر أنهم يودون إيذاءه. ثم ذهب إلى المكتبة، وفتح كتاباً في علم السموم، وقرأ فيه عن كل السموم ليعرف ما هو نوع السم الذي يضعونه له. واكتشف، من قراءته، أنهم يضعون له سم الاستركنين، وكان، آنذاك، قد حصل على مؤهله الجامعي، فترك العمل في ذلك المكان، وانتقل ليعمل مدرساً في مكان آخر. ولكنهم، لم يتركوه، على حد قوله، فإذا ركب حافلة ركب خلفه اثنان، وإذا نزل تتبعوه. فسأله الأستاذ: هل وصلوا إلى بيتك؟ فأجاب: هذه هي المصيبة يا دكتور!! إنني حين أدخل إلى سريري لأنام أشعر بالغاز الذي يسلطونه عليَّ، فأستنشقه، ويحدث تفككاً في جسمي فلا أشعر إلاَّ في الصباح عندما أستيقظ من نومي، وأنا لا أدري. وأشعر أن مقاومتي ضعفت وأعصابي تعبت منهم. فقال له: "فعلاً لقد تحملت الكثير، وهذا العلاج سيريح أعصابك"، وكان علاجاً للضلالات، وبعد أسبوع عاد، وقد خفت حدة ضلالاته كثيراً، ولم يعد هناك من يتتبعوه أو يسلطون عليه الغاز.

في بعض الحالات تكون بؤرة الضلالة هي العدل أو الحق، الذي يتطلب موقفاً قضائياً، وهذا ما يطلق عليه البارانوي كثير التشكي. وهؤلاء الأشخاص، غالباً، يندمجون في مجالات متكررة للحصول على الإشباع بواسطة الشكوى أمام المحاكم والهيئات الحكومية الأخرى. وأصحاب الضلالات الاضطهادية، غالباً، عدوانيون سريعو الغضب، ويلجأون إلى العنف ضد من يعتقدون أنهم يؤذونهم. ويروي الدكتور حمودة قصة الرجل الذي أحضر ابنه بعد أن تسلمه من قسم الشرطة، بسبب بلاغاته الكاذبة عن أشخاص يصلون معه في المسجد، أنهم يخططون لمؤامرة قومية خطيرة، بعد أن لاحظ ضابط الشرطة أنه ليس طبيعياً، من خلال تردده عليهم عدة مرات، لشكوى غير موجود لها أي أساس في الواقع.

هـ. الضلالية الجسمانية

وتحدث الضلالات الجسمانية بأشكال مختلفة أكثرها شيوعاً اقتناع الشخص خطأ أنه تخرج منه رائحة كريهة من جلده أو من فمه أو من فتحه الشرج أو من الفرج. مثل المريض الذي حضر يشكو من خروج رائحة كريهة من جلده، وأن تلك الرائحة تجعل رفاقه يبتعدون عنه، وتسبب له الحرج، وأنه تردد على أطباء الأمراض الجلدية كثيراً لهذا السبب إلى أن أرسله أحدهم للطبيب النفسي، وما أن أُعطى العقاقير الخاصة بالاضطراب الضلالي ومعها مضاد للاكتئاب حتى تحسنت حالته تماما.

وقد يشكو المريض أن لديه عدوى الحشرات على جلده، أو أن لديه عدوى طفيلية داخلية، أو أن جزءاً من جسمه لا يعمل (مثل الأمعاء الغليظة)، أو أن جزءاً من جسمه قبيح الشكل، ويبغي إصلاحه مثل أنفه أو فمه. وعادة مرضى الضلالات الجسمانية يذهبون إلى الأطباء العضويين للعلاج، أو إلى جراح تجميل لتصحيح الجزء الذي يتصور أنه قبيح، فيجد الجراح أن الجزء لا يحتاج إلى تصحيح، وأن أي تدخل جراحي سيحدث تشوهاً، فيرسله إلى الطبيب النفسي.

انتشار الاضطراب الضلالي

يُعَدّ الاضطراب الضلالي غير شائع الانتشار، وربما لأن حالاته لا تمثل للتشخيص الاكلينيكي، إذ يمثل مرضاه في المحاكم في مشكلات قضائية، أو يذهبون إلى الأطباء العضويين، أو ينعزلون. وهو أكثر بين الإناث، وبين الأقارب من الدرجة الأولى.

وعادة يبدأ الاضطراب الضلالي في متوسطي العمر (40 ـ 55)، وقد يبدأ مبكراً أو متأخراً عن ذلك. ومساره متفاوت من حالة لأخرى، فأحياناً يصبح مزمناً (خاصة النوع الاضطهادي)، وأحياناً يمر بفترات من الهوادة، يعقبها فترات أخرى من الاشتداد، وفي بعض الحالات يظل الاضطراب شهوراً قليلة، ثم يختفي، من دون انتكاس.

ونادراً ما يعوق الاضطراب الضلالي الأداء اليومي للشخص، إذ إن ذكاء الشخص وقدرته الوظيفية لا تتأثر، حتى عندما يصبح الاضطراب مزمناً. ولكن الذي يتأثر، غالباً، هو علاقات الشخص الاجتماعية والزوجية. وبصفة عامة، فإن المصابين بهذا المرض، يبدون عاديون في مظهرهم وسلوكهم، ما لم تناقش ضلالاتهم.

أسباب الاضطراب الضلالي

وأسباب الاضطراب الضلالي ليست معروفة إلى الآن، وهناك اتجاه يقول إنها أحد أنواع الفصام العقلي، أو اضطراب الوجدان الفرعية (الهوس والاكتئاب)، إلاّ أن الدراسات الأسرية أشارت إلى أن الاضطراب الضلالي مستقل عنها، إذ لوحظ أنه لا يزداد حدوث الفصام واضطراب الوجدان في عائلات مرضى الاضطراب الضلالي، ولم يلاحظ زيادة حدوث الاضطراب الضلالي في عائلات مرضى الفصام، كما أن هذا الاضطراب لا يتحول إلى الفصام أو اضطراب الوجدان إلا نادراً، وبدايته في سن متأخرة عما هي في الفصام واضطراب الوجدان. كل هذا، يرجح أن الاضطراب الضلالي ليس أحد أنواع الفصام أو اضطراب الوجدان.

وهناك محاولات بيولوجية لربط ما يحدث في هذا الاضطراب من ضلالات مركبة وما يحدث في بعض حالات الأمراض العصبية، خاصة التي تشمل الجهاز الطرفي والنوى القاعدية. ولكن التفسيرات النفسية الدينامية أكثر إسهاماً في هذا الاضطراب، إذ لوحظ أن هؤلاء الأفراد لديهم حساسية زائدة، مع شعور بعدم الأمان، مثل الخوف من أن يصبح جنوسي مثلي (لواطي)، ولوحظ أن الأنا يتخذ حيلاً دفاعية، هي التكوين العكسي والإسقاط والإنكار. وعلى الرغم من أنه لا توجد أدلة بحثية تقرر العلاقة السببية بين عوامل دينامية محددة وحدوث الأعراض الضلالية، إلا أن الخبرة الإكلينيكية تشير إلى أن المرضى يفيدون من العلاج النفسي.

قد يكون الضلال الاضطهادي دفاعاً ضد الميول الجنسية المثلية، باستخدام حيل الإنكار والإسقاط الدفاعية، كما قال (فرويد)، مثل:

  1. شعور (أنا أحبه) يتم إنكاره، ويتغير بواسطة التكوين العكسي إلى أنا لا أحبه أنا أكرهه. وهذا الشعور يتحول من خلال الإسقاط إلى لست أنا الذي أكرهه، هو الذي يكرهني، وهذا هو ما يظهر في حالة المرض (ضلال الاضطهاد).
  1. إنه يضطهدني، وبدلاً من استشعار الميول الجنسية المثلية السالبة، فإن المريض يرفض حب أي شخص، عدا نفسه.

أمّا في ضلالات الحب، يغير الشعور (أنا أحبه) إلى (أنا أحبها)، وهذا الشعور خلال الإسقاط يصبح (هي تحبنى). أمّا في ضلالات الغيرة فتوجد محاولة لإبعاد تهديد الميول الجنسية المثلية، حيث يتغير شعور (أنا أحبه) إلى الإنكار (أنا لا أحبه)، ولاسقاط عليها (هي تحبه وتخونني معه)، وهذا ما يحدث في ضلالات الخيانة، ونفس هذه الديناميات النفسية في حالة الإناث.

وأشارت الملاحظة الإكلينيكية، كذلك، إلى أن بعض المرضى البارانويين يخبرون نقصاً في الثقة باستقرار العلاقات، يعزى إلى الجو الأسري العدائي المستمر، فغالباً ما تكون الأم مسيطرة والأب متباعد (أو غائب) أو سادي، إذ يستخدم التكوين العكسي كدفاع ضد العدوان والحاجة للاعتمادية ومشاعر العطف. فالحاجة إلى الاعتمادية تحول إلى استقلال مبالغ فيه، والإنكار يستخدم لتجنب الوعي بالواقع المؤلم، ويسقط رفضه وغضبه على الآخرين، والإسقاط هنا لحماية الشخص من التعرف على النزعات غير المقبولة في نفسه.

فالشعور بالدونية، يؤدي من خلال التكوين العكسي والإسقاط إلى ضلالات العظمة، وضلالات الحب استبدال لمشاعر الرفض (أو إسقاط للحب النرجسي المستخدم كدفاع ضد نقص اعتبارات الذات والانجراح). أمّا الضلالات الجسمانية، فتفسر دينامياً كنكوص إلى النرجسية الطفلية، إذ يسحب المريض ارتباطه العاطفي بالآخرين ويركزه على جسمه في الضلالات الجسمانية.

العلاج

يدخل المريض مستشفى، إذا كان هناك خطر منه على نفسه أو على الآخرين، (الانتحار أو القتل، مثلاً)، ويعطى مهدئات من طريق الحقن، إذا كان في حالة (هياج). أمّا في الحالات غير الخطيرة، فيكوّن المُعالِج علاقة ثقة مع المريض، أولاً، ثم يصف له عقاقير من مضادات الذهان، ويوضح له أعراضها الجانبية، حتى لا يشك في نوايا الطبيب، عند ظهور الأعراض الجانبية. ويكون البدء بجرعات صغيرة، تزداد ببطء، حتى تتحقق درجة مناسبة من التحسن. وإذا فشل العلاج لمدة ستة أسابيع، تعطى مجموعة أخرى من مضادات الذهان، ويلاحظ أن سبب الفشل عادة هوعدم تعاطي العلاج، ويصاحب ذلك العلاج النفسي الفردي.

2. الاضطراب الذهاني المشارك (المستحث) (Shared Psychotic Disorder)

هو اضطراب ضلالي، يحدث للمريض نتيجة لعلاقته الوثيقة بشخص آخر، هو صاحب هذه الضلالات أصلاً، أي أنه هو المريض الأصلي وشاركه المريض الأول ضلالاته، ولذا يسمى هذا الاضطراب بالبارانوي المشارك، ويسمى بالذهان المرتبط.

وأهم ما يميز صورة الاضطراب الذهاني المستحث الإكلينيكية، وجود ضلالات لدى الشخص كنتيجة لعلاقته الوثيقة بآخر، الذي لديه فعلاً اضطراب ذهاني وضلالات بارزة. وهذه الضلالات مشتركة بين الشخصين، ومحتوى هذه الضلالات، في حدود الممكن، وغالباً يبنى على الخبرة الماضية المشتركة للشخصين، وأحياناً يمكن أن تكون الضلالات المستحثة مفرطة في الغرابة، وعادة يكون الشخص المضطرب، أساساً، مسيطراً في العلاقة التي بينهما ويملي ضلالاته تدريجياً على الآخر (الطرف السالب في العلاقة)؛ وعادة يحدث هذا بعد فترة من تعايشهما معاً، وانعزالهما، وعدم احتكاكهما بالناس الآخرين.

ولقد حدث هذا لزوجين كانا يعملان في دولة أخرى، حيث انتابت الزوجة ضلالات أن هناك من يروجون شائعات ضدها، تهدف إلى النيل من شرفها، فتعتقد أنهم يتهمونها بممارسة الجنس مع رجل آخر (هذا الرجل كان قد شاركهم إحدى الرحلات منذ فترة ولم تره هي بعد تلك الرحلة)، وأقنعت الزوج بضلالاتها (اعتقاداتها المرضية)، لدرجة أنه تشاجر، غير مرة، في السوق، وهو يشتري السلع اللازمة لهما. وساءت علاقاتهما بزملائهما في العمل، على الرغم من أنهما يعملان في مكانين متباعدين، وليست بين المكانين علاقة، فقررا العودة إلى بلدهما. وحين حكيا الأمر إلى شقيق الزوجة، عرف أنهما مرضى، وذهب بهما إلى الطبيب النفسي، الذي رأى أنه لكي يُعالجا لا بدّ من فصلهما مدة، حتى يمكن تحرير الضلالي المشارك، وهو هنا الزوج، من الضلالي المسيطر، وهي الزوجة. ثم عولجا منفصلين، فكان تحسن الزوج (الضلالي المشارك) أسرع من تحسن الزوجة، ولم يسمح الطبيب لهما أن يعيشا معاً، إلاّ بعد أن تحوصلت ضلالات الزوجة، وأصبحت مستبصرة بأنها اعتقاد مرضي.

فعندما يُعزل مضطرب الذهان المستحث عن المضطرب الأصلي، تتناقص حدة الضلالات لديه. والشائع أن هذا الاضطراب يحدث في علاقة شخصين فقط (أحدهما أصلي والآخر تابع)، ولكن سجلت حالات لأكثر من تابع (أي لديهم ذهان مستحث)، قد تصل إلى اثنا عشر شخصاً، وقد تشمل أسرة بأكملها، والمصابون بهذا الاضطراب نادراً ما يبحثون عن علاج، والحالات التابعة، عادة، تظهر للضوء عندما يعالج الشخص الأصلي.

ويُعَدّ الذهان المستحث اضطراباً نادراً، يكثر بين الإناث، وفي الطبقات الاجتماعية الدنيا. والمصابون بعاهات جسمانية أكثر عرضة لاعتمادهم على الآخرين. وتصل نسبة الانتشار إلى 95% من الحالات.

وعلى الرغم من أن هناك قول شائع بأن فصل التابع المصاب بالذهان المستحث عن المضطرب الأصلي والمسيطر في العلاقة، ينتج عنه تحسن، إلاّ أن الدراسات الإكلينيكية قررت نسبة شفاء قليلة من 10% إلى 40% فقط، ولكن عدم التحسن بعد الفصل يحتم إعادة النظر في التشخيص، فقد يكون اضطراباً ضلالياً أو فصام.

السـبب

عادة، يكون السبب نفسياً اجتماعياً لوجود شخصين، أحدهما مسيطر، والآخر تابع، والعلاقة بينهما حميمة، وارتباطهما بالعالم الخارجي معدوم، وهناك مكسب متبادل لكلا الشخصين، ويسعى التابع ليحوز القبول من الشخص المسيطر.

العــلاج

يلزم فصل الشخص المصاب بذهان مستحث عن مصدر الضلالات (الشخص المسيطر)، وتعطى العقاقير المضادة للذهان، إذا لزمت فقط ،ولكن العلاج النفسي مهم جداً لمساعدة المريض في التخلص من ضلالاته المستحثة، والارتباط بالواقع الخارجي والعالم من حوله.