إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الأزمة الأفغانية (تاريخياً.. وسياسياً.. وعسكرياً)





توزيع القبائل

مناطق توزيع القوات المتحاربة
التقسيمات الإدارية



الأزمة الأفغانية (تاريخيا، وسياسيا، وعسكرياً)

المبحث الأول

الخلفية التاريخية

تؤكد الشواهد التاريخية، على أن التدخل السوفيتي يعود إلى عام 1873م عندما غزا الروس بجيوشهم الأراضي الأفغانية، واقتطعوا منها: خيفة ومرو وبخارى وطشقند وسمرقند وقزوين، على الحدود[1]. ولم يتوقفوا عن الاستمرار، إلاّ لخشيتهم من مواجهة بريطانيا العظمى، التي كانت موجودة في كابل من أجل تهدئة الأوضاع الاجتماعية والسياسية في البلاد، بعد حروب قبلية طاحنه. وكان هدف بريطانيا من هذا التدخل، تحقيق الاستقرار لجزء حيوي من طريقهم إلى شبه القارة الهندية، التي كانت ضمن إمبراطوريتهم.

وعلى الرغم من الاحتلال الروسي لهذه الأقاليم، كانت روسيا تتظاهر بمساعدة أفغانستان للحصول على استقلالها عن بريطانيا، حيث قدمت المساعدات العسكرية أثناء الحروب الثلاثة، بين بريطانيا وأفغانستان.

وفي عام 1878م، وقعت أول معاهدة عسكرية، بين الأمير شير علي خان، حاكم أفغانستان، ورئيس البعثة الروسية. وتضمنت المعاهدة تعهداً بمساعدة الأمير في الحرب ضد الإنجليز، عن طريق إمداده بالأسلحة. وبذلك يكون الأمير شير علي خان، أول من استجاب لمبادرات الصداقة والتعاون مع الروس.

وفي الفترة ما بين الأعوام 1901 ـ 1919م، تولى الأمير حبيب الله خان حكم أفغانستان، في أعقاب حكم عبدالرحمن خان (1880 ـ 1901م)، ولكن لا يذكر له أي نوع من التعاون مع روسيا. و اتسمت هذه الفترة بالاتزان في التعامل مع روسيا. وبدأت العلاقات تنمو وتزداد، أثناء فترة حكم أمان الله خان، التي بدأت بعد اغتيال والدة حبيب الله خان عام 1919م. كان لأمان الله تصور لأفغانستان حديثة مستقلة. وامتاز أمان الله بعقلية تقدمية، إضافة لأفكاره التحررية، وإيمانه ببلده ورغبته في تحريرها. فما كان منه إلاّ أن وطّد علاقته بالاتحاد السوفيتي، الذي أمدّه بالمساعدات العسكرية، مما حقق له الانتصار على بريطانيا، وتحرير أفغانستان، وتوقيع معاهدة سلام حصلت أفغانستان بموجبها على الاستقلال، والاعتراف بها دولة مستقلة.

وبهذا الاستقلال ازدادت العلاقات الروسية الأفغانية قوة. ووجد الأمير أمان الله نفسه أمام دولة، قدمت له احتياجاته العسكرية، التي حققت له النصر، إضافة إلى استعدادها لدعم الاقتصاد الأفغاني، من خلال برامج وخطط طموحه. وفي الثامن والعشرين من (شباط) فبراير 1921م، وقّعت معاهدة صداقة وعدم اعتداء، بين الاتحاد السوفيتي وأفغانستان، لمدة خمسة وعشرين عاماً. وفي السابع من (تشرين الثاني) نوفمبر 1926م، وقّع البلدان معاهدة "الحياد وعدم الاعتداء". وقد عُززت هذه المعاهدات بالكثير من الاتفاقيات الجانبية، لمساعدة أفغانستان في العديد من المجالات.

وطبقاً لهذه الاتفاقية ـ اتفاقية الحياد وعدم الاعتداء ـ نُصّ على حظر أي نوع من التدخل المسلح، أو اعتداء دولة على الأخرى، خاصة أن أفغانستان ركزت على استقلالية الدول الإسلامية الحدودية (خيوه وبخارى). إلاّ أنه لم يمض وقت طويل، حتى كانت روسيا قد احتلتهما عسكرياً.

وكان رد فعل أمان الله خان ضعيفاً، وغير مقبول من الشعب الأفغاني، بل إنه اتخذ موقفاً سلبياً، من هذا الاحتلال السوفيتي.

وبالنظر إلى فترة حكم الأمير أمان الله خان (1919 ـ 1929م)، يتضح أنه عمّق النفوذ السوفيتي، وعلى الرغم من الإصلاحات العديدةّ فإن التدخل السوفيتي في المجتمع الأفغاني كان السبب الرئيس في انهيار حُكمه.

وعندما استولى على الحكم أحد قطاع الطرق، ويدعي (باتشا سقا) لمدة ستة أشهر فقط، لا يذكر لهذه الفترة أي نوع من النشاط السياسي، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.

في (تشرين الأول) أكتوبر 1929م، استطاع نادر خان الانتصار على باتشا سقا؛ وعلى إِثر ذلك جرى انتخابه بالإجماع ملكاً على البلاد. وقد وجه اهتماماً كبيراً للعمل الوطني، ودعم الوحدة الوطنية، وإعادة المسيرة الحضارية. كما استطاع تقليص النفوذ السوفيتي في أفغانستان، وهو إجراء قُوبل بارتياح شديد من الشعب الأفغاني، بطبقاته المختلفة.

أولاً: الملك "محمد ظاهر شاه"

في الثامن من (تشرين الثاني) نوفمبر عام 1933م، اغتيل نادر شاه، وتولى الحكم بعده ابنه ظاهر شاه، الذي استمرت ولايته حتى عام 1973م. وكان لطول فترة حكمه أثر كبير في تحقيق الكثير من طموحاته، إضافة إلى إنجازاته العديدة على المستوى المحلي والدولي، خاصة الاتحاد السوفيتي. وعلى الرغم من صغر سنه، إلاّ أنه تمكّن بمعاونة أعمامه، من السيطرة داخلياً على البلاد، وتحقيق الاستقرار لها. والدليل على ذلك أن فترة حكمه، امتدت أربعين عاماً. وكان من الواضح أن الملك ظاهر شاه، لديه الكثير من الأفكار الإصلاحية، إضافة إلى رغبته في أن يكون لأفغانستان دور عالمي، خاصة في منطقة آسيا الوسطى. وكانت البداية عام 1934م، بانضمام أفغانستان إلى عصبة الأمم المتحدة. وفي عام 1937م، وقّع ميثاق سعد أباد مع تركيا والعراق وإيران، وهو ميثاق تعاون وصداقة. كما استطاع أن يحافظ على حياد أفغانستان، أثناء الحرب العالمية الثانية، فلم ينضم لأحد المحاور على الرغم من تعاطف بعض الأحزاب الإسلامية مع تركيا. وبانفصال باكستان عن الهند عام 1947م، انفجرت بعض المشاكل الحدودية، عندما طالبت أفغانستان بإعادة النظر في خط الحدود المعروف باسم "خط دوران"، حيث طرح على بساط البحث مشكلة الأفغان، الذين يعيشون في الدولة الجديدة باكستان.

في العشرين من (أيلول) سبتمبر عام 1953م، تسلّم الأمير محمد داود مهام رئيس الوزراء. وكان طموحه يتعدى الوزارة، لاعتقاده أنه أحق من ابن عمه ظاهر شاه لتولي الحكم. وعين الأمير داود رجاله في الوظائف المهمة، فعين شقيقه نعيم خان وزيراً للخارجية، وعبدالملك عبدالرحيم زياي وزيراً للمالية. وكان هدفه إحكام السيطرة على أغلب المناصب الحكومية، عن طريق أقربائه و المخلصين له. كانت مشكلة الباشتون من أهم المشاكل لمحمد داود، لذلك طلب المساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية مرتين، الأولى عام 1953م فور توليه الحكم، والثانية عام 1958م، تحسباً من احتمال صراع مسلح مع باكستان. ولكن الولايات المتحدة الأمريكية رفضت طلبه في المرتين، فما كان منه إلاّ أن اتجه إلى الاتحاد السوفيتي، الذين استفاد من خطأ التقدير لدى الولايات المتحدة الأمريكية.

في شهر (آب) أغسطس 1956م، وقّعت أفغانستان والاتحاد السوفيتي، ودولاً أخرى من حلف وارسو، اتفاقية لتزويد أفغانستان بما قيمته 25 مليون دولار، أسلحة ومعدات حربية. وهكذا كانت بداية تطوير العلاقات بين الدولتين. فالتعاون الوثيق دائماً ما يبدأ من خلال المجال العسكري، لأنه لا يكون قاصراً على توريد المعدات فقط. بل يتبع السلاح مأموريات للتدريب على هذه الأسلحة، ومأموريات صيانة وإمداد. وهذه المأموريات غالباً ما تكون أول خطوة على طريق انتشار الأفكار الشيوعية، داخل القوات المسلحة الأفغانية. وكما هو معروف، فإن التدريب لا يكون قاصراً على العلوم الفنية الخاصة بالتشغيل أو بالصيانة، إنما يتعدى ذلك إلى تعلم الفكر الماركسي، وأسـلوب تطبيقاته من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية.

وبدلاً من أن تحاول الولايات المتحدة الأمريكية تحقيق نوع من التوازن، في العلاقات مع الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، إذا بها اعتباراً من (كانون الأول) ديسمبر 1953م، تُمد باكستان بمساعدات عسكرية، ظناً منها أن أفغانستان ربما تقوم بعمل عسكري ضد باكستان، لإيجاد حل لمشكلة الباشتون.

ورأى محمد داود في المساعدات الأمريكية لباكستان، خطراً حقيقياً على دولته، فجدد طلبه للولايات المتحدة الأمريكية لتقديم مثل هذه المساعدات، إلاّ أنه فوجئ بالرفض.

وفي عام 1954م زار ريتشارد نيكسون أفغانستان، والتقى بكبار المسؤولين، الذين شرحوا له الموقف المتدهور، مع باكستان، وضرورة أن تساعد الولايات المتحدة الأمريكية أفغانستان، مثلما تساعد باكستان، ولكن نيكسون لم يقتنع بتلك الحجج من منطلق أن تسليح أفغانستان في هذه المرحلة، سيتبعه صراع حدودي بين الدولتين، لا مبرر له. ولم يضع في حساباته إمكانية التوجه الأفغاني إلى الاتحاد السوفيتي، الذي يقف مترصداً لأخطاء التقدير الأمريكي.

وهكذا دفعت السياسة الخارجية الأمريكية أفغانستان، للتوجه إلى الاتحاد السوفيتي، لدعم قدراتها العسكرية من أجل إيجاد حلٍ لمشكلة الباشتون، التي لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية تقدر أهميتها بالنسبة لأفغانستان. ازداد التوتر حول مشكلة باشتونستان، ومن ثم عقدت الحكومة الأفغانية جمعية وطنية، خلال الفترة من 20 ـ 25 (تشرين الثاني) نوفمبر 1955م، من أجل الحصول على موافقة الجمعية لشراء السلاح اللازم من الدول المختلفة. وقد حصلت حكومة داود على التأييد اللازم، من الجمعية الوطنية.

في الفترة بين 15 ـ 18 من (كانون الأول) ديسمبر 1955م، زار كل من خروشوف وبولجانين كابل. وفي هذه الزيارة أكد بولجانين، رئيس الوزراء السوفيتي، في خطابه بتاريخ 16 من الشهر نفسه، على أن الاتحاد السوفيتي يتعاطف مع السياسة الأفغانية، فيما يتعلق بقضية الباشتون؛ وأن بلاده مع الحل العادل لهذه القضية، التي لن تصل إلى نهايتها إذا لم يؤخذ في الاعتبار مصالح الشعوب، التي تعيش في الباشتون.

إضافة إلى إحجام الولايات المتحدة الأمريكية عن تقديم المعونة، إلاّ أن أسلوب المعونة، في حد ذاته، يختلف كلية من حيث التكلفة، عن مثيله المقدم من الاتحاد السوفيتي. والمثال على ذلك، أنه في عام 1946م، ارتبطت أفغانستان بمشروع تعاون زراعي مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو عبارة عن إقامة بعض السدود، وتطوير أساليب الري. وفي نهاية المشروع، بلغت تكاليفه ضعف ما كانت الهند قد تقدمت به لتنفيذ المشروع نفسه. والنتيجة أن أفغانستان اضطرت لطلب قروض، لتسديد ما تبقى عليها من تكلفة هذا المشروع. وقد عاب الأفغان على القائمين بالمشروع التبذير، واستيرادهم كل ما يخص المشروع، حتى المواد الغذائية، من الولايات المتحدة الأمريكية. واستغل محمد داود هذه التّجربة، وأصر على إعادة التوازي في العلاقات، بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.

في الثاني والعشرين من شهر (أيلول) سبتمبر 1956م، اقتبست أفغانستان أسلوب الخطط الخمسية للتنمية، وهو الأسلوب الذي كان متبعاً في كافة الدول الغربية والشرقية. أي أنها لم تكن متأثرة بالاتحاد السوفيتي. وكان تركيز محمد داود في الخطة الأولى، موجهاً أساساً إلى التقنية الأساسية. إلاّ أن التمويل، الذي بلغ 100 مليون دولار، قدمها الاتحاد السوفيتي، الذي اشترط استيراد معدات ثقيلة بهذا المبلغ. أما التمويل المحلي، فإن المستثمرين الأفغان لم يكن يعنيهم الاستثمار في مثل هذه المشروعات القليلة العائد. وهكذا لم تحقق الخطة الأولى ما كان مرجواً منها، لكن كتجربة أولى يمكن القول بأنها خطوة على طريق التنمية.

كان محمد داود يدرك خطورة الاعتماد كلياً على الاتحاد السوفيتي، وأنه من الأفضل أن تشارك الولايات المتحدة الأمريكية في الخطة الخمسية الثانية. فأرسل وزير خارجيته في زيارة رسمية إلى واشنطن، عارضاً عليهم المساهمة في تمويل الخطة. ولكنه فوجئ بعدم استجابتهم للطلب؛ وبذلك اضطر محمد داود للبدء في الخطة الخمسية الثانية، معتمداً مرة أخرى على الاتحاد السوفيتي. وهكذا ازداد قيد التبعية، وتمكن السوفييت من إحكام السيطرة على قطاعات الدولة المختلفة، سواء الإنتاجية أو الخدمية.

بتتبع فترة حكم محمد داود، فإن أهم ما ميزها هو حسن علاقاته وتعددها، مع كل من الاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا وبولندا، من المعسكر الاشتراكي إضافة إلى الصين. هذه العلاقات لم تمنع إيجاد علاقات حسنة، مع الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا. إلاّ أن أهم سلبيات علاقاته الخارجية، كانت تقاربه الشديد مع الاتحاد السوفيتي. ولعل عذره أنه حاول مراراً مع الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنه لم يُوفّق. وعلى الرغم من اعتماده الكلي على الاتحاد السوفيتي، إلاّ أن ذلك لا يعيب النظام. فقد حافظ على الهوية الأفغانية، وعلى المبادئ الإسلامية. في عام 1963م انتهت فترة حكم محمد داود، بتخلص الملك ظاهر شاه منه، إيماناً بضرورة إعطاء الشعب الأفغاني مساحة أكبر من الديموقراطية، وهذا ما لا يتمشى مع فكر داود وتوجهاته، لذا من الأصوب أن يحل محله من هو مقتنع بهذا الفكر التحرري.

ثانياً: المرحلة الديموقراطية (1964 ـ 1973م)

شهدت مرحلة حكم محمد داود (1953 ـ 1963م)، تعاوناً كبيراً بين الاتحاد السوفيتي وأفغانستان. إلاّ أن هذا التعاون صاحبه اختراق للمجتمع الأفغاني، حيث تأثر داود بالنظام الشمولي والديكتاتوري في إدارة البلاد، الأمر الذي أغضب الملك ظاهر شاه لتوقعه أن هذا الأسلوب، سوف يقود البلاد إلى الشيوعية الكاملة. في عام 1963م ـ وبعد إقالة داود ـ شكل محمد يوسف حكومة انتقالية، أهم أهدافها وضع دستور جديد للبلاد، يحوّل أفغانستان إلى نظام ديمقراطي. أما الهدف الثاني فهو محاولة إيجاد حل لمشكلة الباشتون. وبالفعل قام سيد شمس الدين مجروح، وزير العدل، بالتعاون مع المشرِّع الفرنسي لويس فرجير، بصياغة فقرات الدستور الجديد عام 1964م، الذي تجلّت فيه إرادة الملك ظاهر شاه، بمنح بعض الحريات من خلال السّماح بحرية التعبير. وقد تُرجمت هذه الإرادة بالترخيص بإصدار صحف مستقلة، أو تنتمي إلى أحزاب سياسية، وكان من أهم بنود هذا الدستور، عدم السماح لإفراد الأسرة المالكة بالعمل السياسي الحزبي، حتى لا يمكنهم تولي المناصب التنفيذية العليا، مثل رئيس الوزراء، أو حتى رئيس المحكمة. وبصدور هذا الدستور، بدأ نشاط الأحزاب اليسارية المنظّمة، خاصة حزب الشعب الديموقراطي الأفغاني. فالأقليات، كما هو معروف دائماً، تكون منظّمة وقوية. فتعداد أفراد الحزب ـ حتى الستينات ـ لم يكن يتعدى المئات، أغلبهم من المثقفين وضباط الجيش، لأن أغلب أعضاء هاتين الفئتين، لابد أن يكونوا قد حصلوا على دورات تدريبية في الاتحاد السوفيتي. وكان هؤلاء يمثلون الطليعة الثورية، التي تمكنت من استقطاب الآلاف من أفراد الشعب الأفغاني، مدنيين وعسكريين. هذه الطلائع الثورية، ازدادت بمرور الزمن، وازداد انتشارها حتى تمكنت الأيديولوجية الشيوعية، من طبقات مختلفة من الشعب الأفغاني كله.

ثالثا: تطور الحركة الشيوعية في أفغانستان

في أول (كانون الثاني) يناير1965م، عقد نور محمد تراقي أول اجتماع رسمي وعلني، لحزب الشّعب الديموقراطي، مستفيداً من الحرية، التي أطلقها الملك ظاهر شاه. وكان هدف هذا المؤتمر، هو وضع الإطار التنظيمي لقيادات الحزب، وخطة المشاركة في الانتخابات. وفي هذا الاجتماع تم اختيار نور الدين محمد تراقي، أميناً عاماً للحزب. كما شُكلت اللجنة المركزية من بعض المسؤولين البارزين في الحزب. واستعداداً لهذه الانتخابات، سافر تراقي إلى موسكو، للحصول على الدعم الأدبي والمادي من السّوفيت. وقد تم الاتفاق على أن يتقدم ستة أعضاء، من حزب الشعب الديموقراطي إلى الانتخابات، من بينهم نور تراقي، وحفيظ الله أمين. وقد فاز أربعة أعضاء، وسقط تراقي وأمين.

وعلى الرغم من الدعم الظاهري للحزب، الذي قدمه الاتحاد السوفيتي على مراحل متعددة، إلاّ أن الحزب كان في فترات متعددة، منقسماً على نفسه إلى جناحين: جناح خلق، ويُعنى بالعمال من الريف والطبقات الفقيرة، من فلاحين ورعاة؛ وجناح يُدعى "پرچم"، ويتألف من طبقات مثقفة وضباط من الجيش. وبين الجناحين، خلق وپرچم، كان هنالك "ميرا أكبر خبير"، زعيم الماركسية الأفغانية، والأب الروحي لها. كان خبير أستاذاً، تخرجت على يديه النخبة المثقفة في البلاد، وله يرجع فضل تأسيس بعض كليات الجامعة في كابل.

ومن أبرز عوامل الانقسام، بين الجناحين ـ خلق وپرچم ـ اختلافهما حول كيفية قيادة الثورة في أفغانستان. فقد كان نور تراقي ـ زعيم خلق ـ يؤمن بأنه لا يمكن أن تكون هناك ثورة في البلاد، دون العناية أولاً ببناء الطبقة العاملة، وهي التي يمكنها ـ بعد ذلك ـ إدارة العملية السياسية. وكان تراقي يستند في هذا الفكر، إلى البرنامج السياسي، الذي أقره المؤتمر الرابع والعشرون للحزب الشيوعي السوفيتي، حول الدور الفاعل والحاسم للطبقة العاملة، في قيادة العملية الثورية. بينما كان كارمل ـ زعيم پرچم ـ يدعو إلى إقامة التحالفات العريضة، مثل تأسيس جبهة وطنية واسعة، تتحمل أعباء النهضة الثورية. كان لهذا الانقسام انعكاسات خارجية تتفاعل معه في بادئ الأمر دعم كلٌ من الحزب الشيوعي السوفيتي والهندي، جناح تراقي وتعاطفوا معهم، وعملوا على تأييد صحيفته "خلق". أما جناح كارمل، فكان يستمد العون والتأييد من حزب "توده" الشيوعي الإيراني، والحزب الوطني الديموقراطي الباكستاني.

في 11 (نيسان) أبريل 1966م، صدر العدد الأول من صحيفة الحزب الشيوعي (خلق)، إلاّ أنه بعد صدور ستة أعداد منها، قرر مجلسي النواب والشيوخ في 12 (أيار) مايو 1966م، منعها من الصدور، لاقتناعهما بأن الماركسية تشكل خطورة على المجتمع، وعلى قيمه الوطنية والدينية. وعلى الرغم من قرار المنع، استمرت الصحيفة في الصدور، تجري طباعتها داخل السفارة السوفيتية في كابل، مما منحها نوعاً ما من الحصانة.

غداة حظر صدور صحيفة (خلق) انتقد بابراك كارمل اللهجة المتطرفة لهذه الصحيفة، واعترض على إستراتيجية تراقي، كما اقترح التخلي عن اللون الأحمر في شعارات الحزب، داعياً إلى إقناع الملك ظاهر شاه بأن حقيقة الحزب ليست شيوعية، وذلك لتأمين استمرارية تحركها. ولكن تراقي رأى أن أفكار كار ميل، تشكل انحرافاً خطيراً ونوعاً من الردة، عن الخط الشيوعي المتشدد.

حرص كارمل في الدورة البرلمانية لعام 1966م، على التودد للملك ظاهر شاه، بأن أجرى مقارنات إيجابية بين عهد الملك ظاهر شاه وعهود أسلافه السابقين. وكانت موسكو متأكدة من أن تقارب كارمل مع الملك، سيؤدي إلى حتمية إقصائه عن الحزب.

وفي الرابع والعشرين من (أيلول) سبتمبر 1966م، أثناء انعقاد اللجنة المركزية لحزب الشعب الديموقراطي، طلبت اللجنة من كار ميل أن يستقيل من منصبه، عضواً دائماً باللجنة المركزية. وفي الوقت نفسه، رفضت اللجنة قبول "مير أكبر خبير" عضواً بها. فما كان من كار ميل إلاّ الاستقالة، حيث طلب من "مير أكبر خبير" التعاون معه لإنشاء حزب جديد، هو "البارشام". وهكذا، انقسم الحزب إلى جناحين، على رأس أحدهم بابراك كار ميل، وأنا هيتا راتب زاده، والأخر نور الدين تراقي وحفيظ الله أمين.

حصل بابراك كارمل على ترخيص بإصدار صحيفة "پرچم"، حاملة اسم الحزب الشيوعي على صفحتها الأولى. ومنذ ذلك الحين أصبح اسم "پرچم" هو الاسم، الذي يطلق على الجناح الذي يقوده كارمل. استمر انقسام حزب الشعب الديموقراطي إلى جناحين، اعتباراً من هذا التاريخ حتى قيام ثورة (نيسان) أبريل 1978م. وكان كل جناح يتهم الآخر بالانشقاق، حتى أنهما نقلا خلافاتهما على الصفحات والنشرات السرية والصحف الشيوعية، خارج البلاد.

رابعاًً: العلاقات السوفيتية الأفغانية فترة حكم محمد داود (جمهورية أفغانستان الأولى)

اختلفت الآراء حول الانقلاب، الذي قام به الأمير محمد داود عام 1973؛ هل حصل على الضوء الأخضر من الاتحاد السوفيتي، أم أنها مسألة داخلية بحتة؟ إلاّ أن الأقوال الموثوق بها تؤكد على أن الانقلاب هو عمل أفغاني بحت، بدليل أن مراسلات السفارة الأمريكية في كابل، التي تابعت الحدث تؤكد على ذلك. أما الاتجاه الذي يؤكد أن للسوفييت دوراً في الانقلاب، وأن روسيا كانت على علم به، هو ذلك القدر الكبير من الدعم، ولو بصورة غير مباشرة، ذلك أن بعض كبار الضباط، أمثال محمد راقي، وأسلم، وطن جار، وعبدالقادر، وهم من المتورطين في عملية الانقضاض على السلطة، أعضاء في حزب الشعب الديموقراطي، الذي لا يتحرك إلاّ بتعليمات من موسكو. ويجب القول إن الشيوعيين اخترقوا الجيش الأفغاني، وتم تجنيد عددٍ كبيرٍ من الضباط. وحسب شهادة المقربين إلى محمد داود، فإن فكرة الانقلاب قد راودته فور إقالته، من قبل الملك ظاهر شاه في 9 (آذار) مارس 1963م، الأمر الذي سبب له غضباً شديداً. وبعد يومين من إعلان نبأ إقالته، عقد داود اجتماعاً حضره عدد من أصدقائه وأعوانه، بينهم رسولي وشرف وسيدي عبدالله، الذين صاروا بعد الانقلاب أعضاء في حكومته. وظهرت فكرة قلب النظام، وسحب السلطة من الملك. لكن داود رفض الفكرة، واعتبر أن التوقيت غير مناسب، إلاّ أن الفكرة لم تبارحه، وأخذ يخطط لها بصمت ورويه منذ عام 1963م، إلى أن نفذها عام 1973م.

وكان انقلاب الأمير داود له أهمية في التمهيد للثورة الشيوعية، حيث إن فتره حكمه من عام 1973م حتى عام 1978م، تُعد فترة تسكين كوادر شيوعية، في مختلف المناصب الأفغانية، سواء فعل داود ذلك بلا إدراك لتداعيات مثل هذا الموقف، أو أن الشيوعيين، بإمكانياتهم وقدراتهم الذاتية، تمكنوا من احتلال المواقع المهمة في الدولة. ولكن كل الشواهد تدل على أن هذه الفترة من تاريخ العلاقات، اتسمت بالآتي:

1. على المستوى الرسمي، تمكن الاتحاد السوفيتي، من خلال كوادر حزب الشعب الديموقراطي من فرض سيطرة كاملة على دولة أفغانستان؛ فالوحدات الخدمية يديرها، سواء الصف الأول أو الصف الثاني، كوادر شيوعية؛ والوحدات الإنتاجية ينتشر فيها الخبراء والمستشارون السوفييت، بأيديولوجيتهم الشيوعية يبثون أفكارهم بين العمال، والاقتصاد الأفغاني يعاني من القروض وفوائدها؛ وموسكو أصبحت تتدخل في أسلوب إدارة الاقتصاد الأفغاني، بالنظريات الماركسية. أما الجيش الأفغاني، وهو الذي قام بالانقلاب، فقد تولى حفيظ الله أمين مهمة تكوين خلايا شيوعية من الضباط والأفراد، الذين تم تدريبهم في الاتحاد السوفيتي وعادوا بفكر شيوعي ناقم وساخط على الملكية. وهكذا، يتضح أن أفغانستان أصبحت مهيأة لانقلاب شيوعي، والانضمام إلى الدول الشيوعية، التي تدور في فلك الاتحاد السوفيتي.

2. أما على مستوى الشعب الأفغاني، فالعقيدة الإسلامية وقفت حائلاً ومانعاً قوياً، ضد سيطرة الفكر الماركسي. فالقبائل، وهي أساس النظام الاجتماعي الأفغاني، بعقيدتها الإسلامية شعرت بالخطر الشيوعي، وبأن الدولة مقبلة على مرحلة صعبة في تاريخها. فكانت بداية الانتفاضة الإسلامية في مواجهة المد الشيوعي، الذي لم يتدارك داود حجمه، إلاّ مع اقتراب استيلاء الشيوعيين على الحكم. فقد استشعرت الأحزاب الإسلامية الخطر، منذ بداية التعاون بين داود وحزب الشعب الديموقراطي. أما داود نفسه فقد كانت رقابته فقط على المعارضة الإسلامية، متناسياً أن ولاء الإسلاميين لن يتعدى حدود أفغانستان، أما ولاء الشيوعيين فدائماً يكون لموسكو.

وعلى الرغم من عدم الطعن في وطنية محمد داود، أو الشك فيها، إلاّ أن الشواهد تؤكد على أن فترتي حكمه كانتا السبب الرئيس، في التدخل السوفيتي في أفغانستان، ومرد ذلك إلى:

أ. في فترة رئاسته الوزارة من عام (1953 إلى 1963م) ـ أيام حكم محمد ظاهر شاه ـ كانت له السيطرة الكاملة على البلاد، بأسلوب شمولي ديكتاتوري. ولمّا اطمأن السوفيت إلى أن طموحات داود ترقى إلى أكبر من الوزارة؛ هَيَّؤوا له أحقيته في الرئاسة، وأن الظروف فقط، وليست الكفاءة، هي التي آلت بالمُلك إلى ظاهر شاه. استفادت موسكو من ذلك، حين قيدت داود بقيد جديد، هو ضرورة التخلص من ظاهر شاه. لذا، تلاحظ أن داود كان يميل دائماً إلى الاتحاد السوفيتي، على الرغم من تظاهره بإقامة نوع من التوازن في العلاقات، مع الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت هذه الفترة بداية التأهيل النفسي لداود، للسير في ركب الاتحاد السوفيتي، فور توليه الحكم.

ب. أما الفترة الثانية من حكم داود ـ وهي رئاسته للجمهورية الأفغانية الأولى (1973ـ 1978م) ـ فلو سألنا كيف تم الانقلاب العسكري،؟ ومن هم القائمون به؟ وما هو دور داود في الانقلاب؟ لأدركنا دوره الهامشي في هذا الانقلاب. بل يمكن القول إن الشيوعيين سلموا داود السلطة، لأن هذه المرحلة، أي القضاء على الملكية، لم يكن من المفضل أن يقوم بها الشيوعيون، إنما الأفضل أن يقوم بها أحد أفراد العائلة المالكة لامتصاص رد فعل الشعب الأفغاني. وهذا ما حدث بالضبط، فالشعب الأفغاني لم يستشعر الخطر من استيلاء داود على الحكم، فقد قام بالانقلاب "الكوادر" الشيوعية من ضباط الجيش، الذين جندهم حفيظ الله أمين. وكما هو معروف فداود كان بعيداً عن السلطة لمدة عشر سنوات، والتغييرات التي تمت في المناصب الحكومية على مستوى الدولة الأفغانية عديدة، أي أن الشعب الأفغاني بمشاكله العديدة، غير مؤهل لمتابعة إنجازات محمد داود. إذاً، الواضح أن دوره لم يتعد إذاعة بيان في الإذاعة، لبعض وحدات الجيش، التي كانت مؤهلة من قبل للقيام بالانقلاب، خاصة أن الملك ظاهر شاه كان خارج البلاد، أي لا مقاومة تذكر في مواجهة تحرك الجيش الأفغاني.

تولى محمد داود رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة، التي كان يعاونه فيها أكثر من سبعة وزراء شيوعيين، إضافة إلى أن أغلب المناصب الرئيسة، يتولاها الشيوعيون، لذلك فإن صلاحياته كانت محدودة بأطر شيوعية، وتعليمات من الاتحاد السوفيتي بالسياسات الأفغانية المختلفة.

إنّ تحليل العلاقات الأفغانية السوفيتية، يؤكد على أن مدة حكم محمد داود خمسة عشر عاماً منها عشرة أعوام رئيساً للوزارة، وخمسة أعوام رئيساً للجمهورية، كان لها أثر كبير ـ دون قصد غالباً ـ على قرار الاتحاد السوفيتي احتلال أفغانستان. ذلك أن فترة رئاسته للجمهورية (1973 ـ 1978م)، هي التي أوجدت البيئة الداخلية المناسبة لاستيلاء الشيوعيين على الحكم، توطئة للاحتلال الكامل لأفغانستان عام 1979م.

تهيأت الفرصة لمحمد داود أكثر من مرة، للقضاء على الشيوعيين، ولكنه تقاعس. وكان آخرها قبل قيامهم بالثورة، عندما أضاع الوقت في البحث عن صيغة قانونية لإلقاء القبض على رموزهم، وعندما توصل إلى هذه الصيغة، كان أمين قد أصدر أوامره ببدء الثورة الشيوعية، التي سرعان ما استولت على الحكم. لذا، فإنه يمكن التأكيد على أن أمين هو العقل المدبر للثورة، وأن محاولاته العديدة للاستئثار بالحكم، تولدت لديه لقناعته بأحقيته في إدارة البلاد.

خامساً: استيلاء الشيوعيين على الحكم

كان لتسرب السلطة من يد داود، سواء عن قصد أو عن قوة التنظيم الشيوعي، أثره الكبير في التجهيز للغزو السوفيتي. فقد دعم الشيوعيون كوادرهم داخل مرافق الدولة المختلفة، خصوصاً القوات المسلحة، وأصبح لهم خلايا منظمة جاهزة للانقضاض على السلطة.

في 27 (نيسان) أبريل 1978م، عقد داود اجتماعاً لمجلس الوزراء، في محاولة منه لتدارك الموقف المتدهور؛ فقد عمت البلاد الإضرابات، التي كان سببها الشيوعيون. ولكن هذا الاجتماع جاء متأخراً، فقد كانت تلك الإضرابات هي شرارة الثورة الشيوعية. كان حفيظ الله أمين قد توقع المواجهة مع نظام محمد داود، فأصدر حفيظ الله تعليماته مسبقاً بميعاد بدء الثورة. وكان من الواضح أنه تمكن ـ على الرغم من اعتقاله ـ من إصدار أوامره، إلى أحد قادة وحدات الدبابات، ويدعى محمد رافع، وهو شيوعي، بالتقدم إلى كابل والاستيلاء عليها. وفي الوقت نفسه، تم الاستيلاء على سلاح الطيران في كابل، بواسطة الضبّاط الشيوعيين. وقرر رسولي الاستعانة بالطائرات المتمركزة في شينداد بالقرب من حيرات، وكان ذلك بعد ظهر اليوم نفسه، إلاّ أن هذه الطائرات لم تتمكن من الإقلاع، لاحتلال مركز العمليات الخاص بسلاح الطيران، بواسطة العناصر الشيوعية.

بوصول طلائع المدرعات أمام القصر الملكي بكابل، تأكد داود مما يجرى في البلاد، وقرر أن يقاوم في مكانة مهما كلفه ذلك. إلاّ أن مقاومته انهارت، نتيجة القصف البري والجوي المركّز. وتمت سيطرة الشيوعيين على الحكم، وقتل داود وبعض أفراد أسرته، أثناء الهجوم النهائي على القصر الرئاسي، فجر يوم 28 (نيسان) أبريل 1978م، إضافة إلى حوالي ألفي قتيلٍ من حرس القصر، الذي لم يبقَ منهم على قيد الحياة إلاّ القليل. وهكذا دفع داودُ حياته ثمناً لتردده في القضاء على رموز الشيوعية في مهدها. فالواضح أنه لو استجاب لمستشاريه، وتخلص من الزعماء الشيوعيين، لما حدثت هذه الثورة.

حرر الضباط الشيوعيون قادتهم المأسورين، في سجون الحكومة السابقة. كما حوكم العديد من أنصار النظام القديم وجرى إعدامهم.وهنا يثار السؤال مرة أخرى: هل كان للاتحاد السوفيتي دور في هذا الانقلاب؟ إن هذا الدور، حتى الآن، غير موثق، فجميع الرؤساء الشيوعيين، الذين تولوا السلطة منذ الثورة حتى الآن، قد قتلوا، ولا يوجد من يكتب تاريخ هذه الثورة، إلاّ أن الشواهد تدل على أن دور الاتحاد السوفيتي في ثورة (نيسان) أبريل 1978م يتلخص في الآتي:

1. مساعدة حفيظ الله أمين في تنظيم الخلايا الشيوعية، داخل الجيش الأفغاني. هذه الخلايا حققت نجاحاً كبيراً في استقطاب ضباط الجيش إليها. وقد تلاحظ أن عدد الشيوعيين في السبعينات لم يتعدَ المائة، ويوم الانقلاب وصل إلى الآلاف ما بين ضابط وجندي، إضافة إلى أن أغلب المناصب القيادية كانت توكل إليهم. وذلك أنّ القادة من الشيوعيين، آثروا إرسال البعثات والمأموريات ـ التي كانت تعقد بالاتحاد السوفيتي ـ للضباط والأفراد المنتمين إلى حزب الشعب الديموقراطي.

2. تقول بعض المصادر: إن قصف القصر الملكي، نُفّذ بواسطة طائرات (ميج ـ21). ولمّا كان الطيارون الأفغان لم يدربوا جيداً على مثل هذه الطائرات، مما يثير الشك، إضافة إلى وجود أكثر من 20 طياراً روسياً يعملون كخبراء في سلاح الطيران، الأمر الذي يوحي بأن قصف قصر الشعب تم بواسطة الطيارين الروس. ويقال أيضاً: إن طائرات روسية قادمة من طشقند شنت غارات جوية على قصر محمد داود، الأمر الذي يؤكد تورط الاتحاد السوفيتي في الانقلاب.

3. يقال إن الانقلابيين اتخذوا مبنى السفارة الروسية في كابل ـ لما تتمتع به من حصانه دبلوماسية ـ مقراً لهم لإدارة العملية الانقلابية، وأن قسماً كبيراً من التعليمات، كان يصدر خلال مبنى السفارة، مثل خطة الانقلاب التي نُقلت بواسطة أحد الضباط الشيوعيين، إلى حفيظ الله أمين.

ويُعد الانقلاب الشيوعي بداية مرحلة جديدة، في استقرار النفوذ الشيوعي في أفغانستان. بل يمكن القول: أنه بداية الغزو السوفيتي لأفغانستان. فكما هو واضح، فإن إستراتيجية موسكو ـ– البعيدة المدى ـ في غزو أفغانستان، جرى التخطيط لها منذ عام 1921م، حيث أرسلت موسكو مبعوثها (مكسيمليتفينوف) إلى كابل قبل أن تعترف بريطانيا باستقلال أفغانستان. وقبلت حكومة كابل إعانة سنوية قدرها مليون روبل، بمقتضى معاهدة وقّعت في العام نفسه مع الاتحاد السوفيتي. كما قبلت الحصول على المساعدات الفنية، خاصة في ميدان الطيران. وطوال حكم الملك ظاهر شاه (1933 ـ 1973م)، وحكم الجنرال محمد داود (1973 ـ 1978م)، ظل الاتحاد السوفيتي الدولة الأكثر نفوذاً في أفغانستان؛ فمثلاً بلغت المساعدات الروسية 1.5 مليار دولار في المدة من 1953 إلى 1963م، في مقابل مساعدات أمريكية، بلغت 450 مليون دولار ومساعدات صينية، بلغت 72 مليون دولار.

سادساً: العلاقات السوفيتية الأفغانية في فترة حكم النظام الشيوعي

تُعد ثورة (نيسان) أبريل 1978م، واستيلاء الشيوعيين على الحكم، الخطوة الرئيسة لغزو أفغانستان عسكرياً. فما سبق كان تمهيداً سياسياً واقتصادياً، وفكرياً للغزو. أما المرحلة التنفيذية، فقد بدأت مع بداية الثورة. فعلى الرغم من أن الاتحاد السوفيتي أحكم قبضته على أفغانستان، إلاّ أنه لم يقتنع بذلك؛ وتصّور أن احتلاله العسكري لأفغانستان لن يقابل بمعارضة، أو مواجهة، سواء على المستوى المحلي أو المستوى الدولي. ومع تداعيات الأحداث، وفداحة الأخطاء، التي يقوم بها حزب الشعب الديموقراطي، والخلافات المستمرة بين جناحي خلق والبارشام، إضافة إلى المحاولات العديدة للقضاء على المقاومة الإسلامية، كل ذلك هيأ الظروف للغزو العسكري.

صدر في 30 (نيسان) أبريل، مرسوم باعتبار الأول من (أيار) مايو عطلة وطنية، بمناسبة عيد العمال. وفي اليوم نفسه صدر المرسوم بتعيين نور الدين تراقي، رئيساً للمجلس الثوري، ورئيساً للوزراء، وبابراك كارميل نائباً له، وحفيظ الله أمين نائباً ثانياً ووزيراً للخارجية. وضم المجلس عشرين وزيراً، ضمنهم ثلاثة عسكريين وامرأة واحدة، هي اناهيتا راتب زادة، أحد وجوه البارشام البارزة. وبهذا التشكيل تمكن جناح خلق، من الهيمنة الكاملة على السلطة. وكانت الخطوة التالية هي إقصاء باقي أعضاء جناح پرچم عن الحكم، بأن عُينوا في مناصب خارج أفغانستان. وهكذا بدأت لعبة الكراسي من أجل سيطرة جناح خلق على الحكم. واستكمالاً لمسلسل التطهير، وبناءً على ادعاء تراقي على وزير الدفاع من(پرچم)، بأن الأخير شكل تنظيماً سرياً من أجل الاستيلاء على الحكم، إلاّ أنه تم القضاء على هذا التنظيم. وجد تراقي الفرصة متاحة له، للتخلص من بقايا قادة پرچم، خاصة من الجيش الأفغاني. وكان من نتائج الأسلوب الدموي، الذي يدير به تراقي وأمين البلاد، أن ازدادت المواجهات العسكرية، بين الحكومة والمقاومة، خاصة الإسلامية. وصل إلى أفغانستان حوالي 2500 جندي روسي للعمل بوحدات الجيش الأفغاني إضافة إلى بعض الخبراء المدنين، هذا الوجود المكثف أحدث قلقاً لدى الشعب الأفغاني.

في 5 (أيلول) سبتمبر 1978م، وقعت معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفيتي، يتم بموجبها الاستعانة بالجيش السوفيتي لحماية النظام الثوري الجديد في مواجهة خصومه. وبهذه المعاهدة تأكد دخول أفغانستان، دائرة نفوذ الاتحاد السوفيتي. تعرض حكم تراقي لسلسلة من المشاكل الداخلية والخارجية. فعلى المستوى الداخلي، لم تتقبل الجماهير الأفغانية القوانين الثورية، مثل الإصلاح الزراعي، وحرية المرأة في العمل. أما على المستوى الدولي، فقد أعلنت أغلب الدول عدم ارتياحها لنظام تراقي، حتى إِن بعض الدول الغربية قلصت مساعداتها الاقتصادية.

بدأت حركات التمرد والمقاومة المسلحة، في مناطق الجنوب الشرقي على الحدود مع باكستان. فقد دعا علماء الدين الأفغان إلى نبذ القوانين الشيوعية، والقضاء على النظام الشيوعي بالكامل. ويقال إنه نتيجة للعمل العسكري، خاصة القصف الجوي على هذه المناطق اضطر الكثير للهجرة إلى باكستان. وفي (تشرين الثاني) نوفمبر، بلغ عدد الجنود السوفييت الموجودين في أفغانستان 5000 خبير، لمساندة النظام إضافة إلى قيام الحكومة الأفغانية بحملة تطهير واسعة، داخل صفوف الجيش الأفغاني، مما كان له أثر كبير في إضعاف القدرة القتالية، للقوات الأفغانية.

في 27 (أزار) مارس 1979م، ونتيجة للموقف المتدهور داخلياً، اضطر نور الدين تراقي إلى إسناد مهام رئيس الوزراء، إلى حفيظ الله أمين. وكان معروفاً عنه شدة ولائه للاتحاد السوفيتي، وتعصبه للشيوعية. إضافة إلى تعطشه للحكم. ولكن هذه التغييرات، قوبلت بموجه من العنف أشد، من جانب الإسلاميين. واضطر تراقي إلى اللجؤ إلى الاتحاد السوفيتي، طلباً لمزيد من المساعدة العسكرية، ممثلة في وحدات كاملة. وتوجه تراقي إلى موسكو، وناقش مع كوسجين، رئيس الوزراء السوفيتي، طلباته. إلاّ أن الأخير رفض تلبيتها متعللاً بالرأي العام العالمي. ولكنه وافق على زيادة إمدادات الأسلحة والمعدات ومعها أطقم التشغيل اللازمة. وكان أمين يحاول تغطية حركة تدفق الخبراء السوفيت إلى أفغانستان، متعللاً بأن وجودهم ضروري للدفاع عن حرية الشعب الأفغاني، في مواجهة الإمبريالية الغربية.

مع بداية شهر (تموز) يوليه 1979م، تدهورت العلاقة بين أمين وتراقي، ووصلت إلى حافة الهاوية. وكان كل منهما يتحين الفرصة، لإزاحة الآخر عن طريقه. في هذه الظروف السيئة، وبينما تراقي يجهز للسفر إلى هافانا ـ في الرابع من (أيلول) سبتمبر 1979م ـ لحضور قمة عدم الانحياز، وجد كل من أمين وتراقي الفرصة مناسبة للإطاحة بالآخر.

أبلغ أسد الله سروري موسكو، بنية حفيظ الله أمين تصفيه تراقي. كما اتصل أيضاً بتراقي في هافانا، محذراً من خطة أمين الانقلابية. وزيادة في الحذر، جهز سروري خطة لاعتقال أمين وتصفيته. وكلف بهذه المهمة أحد أقاربه من الضباط، ويدعى عزيز أكبرى، إلاّ أن هذا الضابط، الذي كان عضواً في الـ ك ج ب (KJB)، أبلغ موسكو. فاقترحت عليه إبلاغ حفيظ الله أمين بذلك شخصياً، على أن يغير أمين برنامجه في استقبال تراقي. توجه نور الدين تراقي إلى الاتحاد السوفيتي، في طريق عودته من هافانا. وتناقش مع أندريه جروميكو ـ وزير الخارجية ـ فيما يجب عملة إزاء الوضع المتدهور في أفغانستان. وتقرر في هذا الاجتماع تشكيل جبهة مضادة ـ من أجل إعطاء الثورة وجهاً مقبولاً داخلياً وخارجياً ـ هذه الجبهة تتشكل من نور الدين تراقي، رئيساً للدولة وأميناً عاماً للحزب، وبابراك كارمل، رئيساً للوزراء وأميناً مساعداً للحزب، على أن يكون نصف أعضاء الحكومة من غير الشيوعيين، وذلك من أجل تهدئة الموقف في مواجهة الإسلاميين.

في الثالث عشر من (أيلول) سبتمبر 1979م، وفور عودة تراقي إلى كابل، استدعى حفيظ الله أمين، وعُقد اجتماع للجنة المركزية، إلاّ أن الأغلبية لم تكن في صالح تراقي. اجتمعت اللجنة مرة أخرى، بحضور السفير السوفيتي، حيث طلب أمين من تراقي إقصاء بعض الضباط غير الموالين للنظام، أمثال سروري. ووعد تراقي بذلك، إلاّ أنه ثبت لأمين لجوء هؤلاء الضباط إلى السفارة الروسية، حيث منحتهم حق اللجوء السياسي. وهكذا، تأكد أمين أن تراقي يخدعه. في 15 (أيلول) سبتمبر، طلب تراقي من أمين، التوجه إلى بيت الشعب لمقابلته والسفير السوفيتي. فتوجه إلى وزارة الدفاع وقاد انقلابا مسلحاً، أبرز معالمه إلقاء القبض على تراقي أثناء وجوده في بيت الشعب. وقد قتل نور الدين تراقي، في غرفته في بيت الشعب، بناء على أوامر حفيظ الله أمين. وأذيع بيان في السادس عشر من (أيلول) سبتمبر 1979م، باستقالة تراقي لسوء حالته الصحية، وأنه ـ أي أمين ـ قد تولى مقاليد الحكم. "اتبع أمين سياسة القبضة الحديدية، العنف والقهر والاعتقال، وسارع في تنفيذ السياسات الماركسية، التي لم يكن يرضى عنها الشعب الأفغاني. اتبع حفيظ الله أمين بعد ذلك سياسة متطرفة حيث دعي إلى تطبيق الاشتراكية في الحال، مع أن المجتمع إقطاعي قبلي، وما يحتاجه بالدرجة الأولى هو التنمية والتحديث. امتلأت شوارع المدن والقرى بصور ماركس وانجلز ولينين، وهم شخصيات لا يعرفها الشعب الأفغاني القبلي البسيط. ولمّا كان خصوم الثورة، يتخذون من الدفاع عن الدين شعاراً لأعمالهم المعادية للثورة، فإن حفيظ الله تشكك في كل متدين، واعتبره معادياً للثورة وهاجم علماء الدين علناً…".

وإذا كان تطبيع العلاقات بين موسكو وأمين، قد نجح في تجاوز هذه المرحلة، إلاّ أن موسكو لم تكن راضية عن هذا الحليف ـ حفيظ الله أمين ـ الذي لا يتبع إرشاداتها. وكانت موسكو تُّصر على وجوب المصالحة مع البارشام، إلاّ أن حفيظ الله أمين كان يراوغ. لذلك قرر السوفييت التخلص منه وتصفيته. وقد حاولوا ذلك سلمياً وبهدوء، عن طريق تنحيته، إلاّ أنهم فشلوا. وتفجرت الخلافات مرة أخرى، بين پرچم وخلق. فكان أن شنّ حفيظ الله أمين عدة حملات تطهيريه، ضد المجاهدين الإسلاميين. إلاّ أنها جميعها فشلت، مما دفع به إلى طلب العون من الروس، حتى أصبح موقفه حرجاً. وهكذا تطابقت مصالحه مع مصالح السوفييت. واعتباراً من نهاية (تشرين الثاني) نوفمبر 1979م، تكثف وجود الوحدات العسكرية، على طول الحدود مع أفغانستان بشكل واضح. وأصبح من المؤكد أنّ الاتحاد السوفيتي، سوف يقوم بعمل عسكري ضد أفغانستان، خاصة أن الوضع أصبح متدهوراً، لتصاعد حركة المقاومة الإسلامية، وظهور الحزب الإسلامي، بزعامة قلب الدين حكمتيار. كل هذه الظواهر، إضافة إلى تأكد موسكو من الاتصالات السّرية، التي يجريها أمين مع المعارضة المسلمة، وزعماء القبائل المناهضين للحكم، يؤكد عدم ولائه لموسكو، ومحاولة خداعهم. "… ولهذا قررت موسكو أن حافظ الله أمين، لا يؤتمن على دولة اشتراكية صديقة ـ أفغانستان ـ تقع مباشرة على حدود الاتحاد السوفيتي، خاصة أنه كان على اتصال مع الغرب والصين، مما سيؤدي إلى إضعاف النفوذ السوفيتي، واستبداله بنفوذ منافسين له. فأصبح لزاماً على موسكو، أن تتدخل، مثلما تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام، في الستينات...".

هذه كانت نظرة السوفييت إلى حفيظ الله أمين، خاصة وأن توليه الحكم كان على غير إرادتهم، ومن ثم، قَبِلَ أن يزول النظام الشيوعي، الذي أسهموا في وضعه. وقرر الاتحاد السوفيتي احتلال أفغانستان عسكرياً. وكانت بداية الترتيبات العسكرية للغزو، وصول الجنرال بافلوفسكي قائد القوات البرية السوفيتية، يوم 17 (آب) أغسطس 1979م، ومعه طاقم من كبار قادة القوات المسلحة. وقد أحيطت زيارتهم بسرية تامة، وحماية أمنية مكثفة، حيث تم إبلاغ المسؤولين الأفغان الموثوق فيهم، أن البعثة السوفيتية موجودة من أجل تقصي الحقائق. غير أن المسؤولية الخاصة لقائد الطاقم، تؤكد على أن المهمة الرئيسة للزيارة، هي التجهيز لغزو أفغانستان، مع تقييم شامل لأهمية هذا الغزو. ومن خلال هذه البعثة، دُفع بعدد كبير، يقدر بخمسائة رجل، من الاستخبارات العسكرية السوفيتية، من أجل التجهيز للغزو. ولم يتصور حفيظ الله أمين، نية الاتحاد السوفيتي في غزو أفغانستان. فهو يحكم من خلال حزب شيوعي، يسيطر على الجيش الأفغاني، وعلى الجهاز الإداري بالكامل، والحكومة بالكامل من الشيوعيين، ولاؤه بالكامل لموسكو، ويحاول بجدية القضاء على المقاومة الإسلامية، وبينه وبين السوفييت معاهدة صداقة! إذاً ما الدافع لدى الاتحاد السوفيتي لاحتلال أفغانستان عسكرياً والغدر به؟ وكانت هناك حسابات مختلفة لدى موسكو، خلاف ما يفكر فيه حفيظ الله أمين.

فقد أصبح وجهاً غير مرغوب فيه، سواء داخلياً أو خارجياً. وكان تقاربه في الفترة الأخيرة من باكستان، ومحاولته عقد معاهدة من أجل إيقاف دعم باكستان للمجاهدين، في الوقت الذي كان يجهز فيه لحملة عسكرية، للقضاء عليهم، وهذا ما أقلق موسكو. لم يفكر حفيظ الله أمين بأسلوب الاتحاد السوفيتي، بل إنه ساعدهم في تنفيذ قرار الغزو، بأن ألحّ عليهم أكثر من مرة، في طلب المساعدات العسكرية وزيادتها له، من أجل الهجوم الشامل على المجاهدين. في هذه المرة، لم يبخل الاتحاد السوفيتي عليه بالقوات المطلوبة، ولكنها كانت لغرض آخر. تدفقت القوات على أفغانستان، وقدرت بأكثر من ثلاث فرق، علاوة على الطائرات، التي تمركزت في مطارات أفغانستان، حتى الثامن عشر من شهر (كانون الأول) ديسمبر 1979م، كانت أغلب القوات قد تركزت في مواقعها المحددة لها، وجاهزة لاحتلال أفغانستان.

ولم يتخيل حفيظ الله أمين ما يحدث حوله، فأرتال المدرعات وناقلات الجند تعبر الحدود، من اتجاه الشمال، في طريقها لاحتلال مواقع قتالية؛ والطائرات تتمركز في المطارات الأفغانية المختلفة. واعتباراً من صباح 27 (كانون الأول) ديسمبر 1979م، بدأ قصف قصر الأمان، الذي يقيم فيه حفيظ الله أمين، عند ذلك أدرك أنه المقصود بهذا القصف، وأن إرسال المدرعات، لم يكن من أجل مساعدته، بل من أجل القضاء عليه. في مساء 27 (كانون الأول) ديسمبر 1979م، أعلن راديو كابل أن المجلس الثوري ـ الذي أُنشئ في أعقاب تولي كار ميل الحكم ـ قد حاكم حفيظ الله أمين، لِما فعله من جرائم في حق الشعب الأفغاني، وأدانه حيث حكم علية بالإعدام، وجرى تنفذ الحكم.

كانت موسكو قد حاولت أكثر من مرة، التخلص سلمياً من حفيظ الله أمين، ولكنه رفض الاستسلام لهم. وبذلك أعطى الفرصة للجيش السوفيتي، لاستكمال احتلالهم لباقي مرافق الدولة، بمساعدة عملائهم الشيوعيين. في 28 (كانون الأول) ديسمبر 1979م، احتل السوفييت مبنى الإذاعة في كابل، حيث أُذيع البيان التالي بصوت كارمل:

"إنّ حكومة أفغانستان، بالنظر إلى التدخل المستمر من قِبل الأعداء الخارجيين، ومن أجل الدفاع عن إنجازات ثورة نيسان، والحفاظ على كرامة البلاد واستقلالها القومي، ومن أجل المحافظة على الأمن والسلام، فإنها اعتماداً على معاهدة الصداقة والتعاون وحسن الجوار، المعقودة في 5/12/1978م، طلبت من الاتحاد السوفيتي تقديم الدعم السياسي والاقتصادي والمعنوي، بما في ذلك المساعدة العسكرية...".

حاول الاتحاد السوفيتي تسويغ تدخله، بأنه بناء على طلب الحكومة الشرعية لأفغانستان. إلاّ أن مثل هذا التدخل ـ في الواقع ـ يُعد خرقاً للقانون الدولي، وتهديداً للسلام. فقد اتفقت الأمم المتحدة بالإجماع، في سنة 1970م على الآتي:

"… لا يحق لدولة أو مجموعة دول، التدخل مباشرة، أو غيرة مباشرة، لأي سبب كان، في الأمور الداخلية والخارجية للدول الأخرى. وبالتالي فإن التدخل العسكري وجميع أشكال أو محاولات التهديد، ضد شخصية الدولة أو مقوماتها السياسية والاقتصادية والثقافية، هي خرق للقانون الدولي… كما أنه يَحْرمُ على أي دولة مساعدة أو تمويل أو إثارة حركات هدامة، أو أنشطة مسلحة، هدفها الإطاحة بالحكومة القائمة لدولة أخرى".

وهكذا، وعلى الرغم من اقتناع الاتحاد السوفيتي، بعدم مشروعية احتلاله لدولة أجنبية جار له، بينهما علاقات صداقة تقارب المائة عام، وتربطهم أكثر من معاهدة تعاون وصداقة، الأمر الذي يعرض سمعته الدولية، كدولة عظمى إلى الكثير من الانتقادات. وهذا ما حدث بالفعل.

باستكمال احتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، جرى تعيين بابراك كارمل رئيساً للبلاد. وكان قد وصل إلى كابل في سرية تامة، وبدأ مسلسل الاتهامات الإمبريالية ـ كما هي العادة ـ إلى حفيظ الله أمين، حيث اتهمه بالاتصال بالمخابرات المركزية الأمريكية، إضافة إلى اتصاله بقلب الدين حكمتيار، رئيس الحزب الإسلامي، للتجهيز لتشكيل حكومة تحالف مناهضة للاتحاد السوفيتي. وقد أراد كارميل من خلال خطابه، في أول (كانون الثاني) يناير، تسويغ التدخل السوفيتي، وتصفية حفيظ الله أمين حيث قال:

"…إن الجبهة الوطنية لحزب الشعب الديموقراطي الأفغاني، وبناء على إرادة شعبية عارمة، وبمساعدة جيش التحرير الوطني الأفغاني، قد استولت على السلطة السياسية، من أجل الدفاع عن مكاسب ثورة (نيسان) أبريل 1978م المظفرة …".

وعلى الرغم من المسوغات، التي أوردها القادة السوفييت في خطاباتهم ولقاءاتهم المتعددة، لاحتلالهم لدولة تربطهم بها روابط قوية، ومعاهدات صداقة، إلاّ أنه يمكن التأكيد على أن احتلال أفغانستان لم يكن وليد سنوات قليلة سابقة، بل يمكن القول إن فكرة احتلال أفغانستان، قد بدأت لدى الاتحاد السوفيتي بتولي محمد داود الحكم عام 1953م. فقد اعتقد السوفيت أن تكالب محمد داود عليهم، وعلى معوناتهم الاقتصادية والعسكرية، إضافة إلى تعاونه مع الشيوعيين في إدارة الدول الأفغانية، كل هذا سمح لهم بالتخطيط للغزو العسكري لأفغانستان. فقد كانت كل الظروف والشواهد تدل على إمكانية التدخل العسكري. ولكن ما لم يكن يدركه الاتحاد السوفيتي أن توابع الغزو كثيرة، خاصة في بلد تكره الشيوعية، فالجهاد لديهم فريضة، وتمسكهم بالعقيدة الإسلامية هو مكمن الخطورة، وهذا ما حدث بالفعل، حيث استمرت المقاومة في صراع مسلح دام عشر سنوات.

وهكذا تبدل الواقع بعودة جناح پرچم، بقيادة بابراك كارمل، إلى الحكم. وبدأ مسلسل جديد من التغييرات الوظيفية، باستبدال جناح خلق، حيث تولى المناصب الحكومية والمناصب القيادية بالجيش الأفغاني، أفراد من جناح پرچم.

 



[1] رسمت الحدود الأفغانية السوفيتية كما هي الآن بالاتفاق بين روسيا وبريطانيا سنة 1895.