إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الأزمة الأفغانية (تاريخياً.. وسياسياً.. وعسكرياً)





توزيع القبائل

مناطق توزيع القوات المتحاربة
التقسيمات الإدارية



الأزمة الأفغانية (تاريخيا، وسياسيا، وعسكرياً)

المبحث السابع

المرحلة الأولى للحرب في أفغانستان من فبراير 89 عقب الانسحاب السوفيتي

كان لانهيار الاتحاد السوفيتي، وتفككه إلى دول مستقلة، آثار وتداعيات كثيرة، أثّر اثنان منها آثاراً في غاية الأهمية، على مستقبل الأوضاع في أفغانستان.

الأول: قرار الاتحاد السوفيتي سحب قواته العسكرية من أفغانستان. وهذا القرار استوجب من قيادات المجاهدين النظر في كيفية التعامل مع النظام الشيوعي القائم، حيث اتُفق على رفض التعاون معه، بل وضرورة إسقاطه. وكانت كل الآراء تؤكد، أن انسحاب القوات السوفيتية سوف يؤدي حتما إلى سقوط النظام الشيوعي في كابل، وإلى حمامات دم في كل أفغانستان، ولكن الذي حدث خلاف ذلك، فالنظام استمر ثلاث سنوات، واستمرت حرب الأخوة على مختلف المستويات.

الثاني: انتقال عدوى تعاظم النزعات الاستقلالية ـ التي تُبنى على أسس عرقية أو قومية ـ من الاتحاد السوفيتي إلى أفغانستان، حيث تلاحظ صعوبة إيجاد زعامة للمجاهدين، أو إيجاد حد أدنى من الاتفاق لإدارة البلاد، في أعقاب جلاء القوات السوفيتية. وبهذا الانسحاب بدأ يتلاشى الطابع الدولي لقضية أفغانستان إلى أن تحولت إلى قضية محلية. وأحيانا يمكن اعتبارها إقليمية بسبب ما تثيره من تداعيات أمنية لدول الجوار، وبخاصة باكستان وإيران ودول الجنوب السوفيتي (طاجيكستان، أوزبكستان، تركمنستان).

في أعقاب انسحاب القوات السوفيتية عام 1989م، بدأ التفكك بين المجاهدين، وتلاشت روح الجهاد في سبيل أفغانستان، وطفا على السطح التوجه القبلي العرقي، يفرض نفسه بقوة على الحياة السياسية، يحاول أن يجد دوراً له في تولى زمام الحكم. بل إنه لتحقيق هذا الهدف، يسعى لتقليص دور علماء الدين والمفكرين عن الساحة السياسية، طالما أن الخطر الخارجي قد زال. بجانب هذا النمط العرقي، تلاحظ ظهور توجه طائفي جديد، ظهر مع الثورة الإيرانية الإسلامية، وهو التوجه الطائفي بين المسلمين السنة والشيعة، وهذا التوجه كان له تأثير سلبي أثناء المحاولات العديدة لتوحيد صفوف المجاهدين، لإقامة حكومة تتولى السلطة.

وواقع الأمر يؤكد على أن الحرب الأهلية القائمة في أفغانستان، أساسها، بل سببها الرئيس هو افتقار الدولة إلى قيادة وطنية موحدة، فالشخصيات الدينية، التي تولت زمام القيادة أثناء فترة المقاومة ضد الاتحاد السوفيتي، لم تكن مؤهلة للعمل السياسي، لأن كل اهتماماتها كانت موجهة إلى الجهاد. وحتى هذا الجهاد لم يصل إلى مستوى الثورة الإسلامية، مثلما حدث في إيران بالمفهوم المتعارف عليه لدى الفقه الإسلامي، وذلك لعدم وجود برنامج اجتماعي وسياسي لهذا الجهاد. وكانت هذه المقاومة تتألف من فصائل متعددة، انضمت إليها عناصر من القوات المسلحة الأفغانية، التي فضلت الانضمام إلى صفوف المجاهدين، بدلاً من العمل مع النظام الشيوعي. هذه الفصائل، كان كل منها يعمل بأسلوبه الخاص وفي إقليمه، وما يحققه من مكاسب فهو عائد عليه وعلى أفراده. ويؤكد على هذا الأسلوب، نجاح الهزارا (الشيعة)، في التمرد على النظام الشيوعي في منطقتهم، حيث أقاموا أسلوباً للإدارة يشبه "الحكم الذاتي"، أطلقوا عليه "مجلس الثورة للوحدة الأفغانية الإسلامية لأفغانستان" وانتخبوا سيد بهشتي رئيساً له.

إن الحرب الأهلية الأفغانية، والتي بدأت مع انسحاب القوات السوفيتية، أي عمرها الآن أكثر من عشرة أعوام، هذه الحرب تعتبر نموذجاً حياً لما تخلفه وراءها مثل هذه الحروب من تدمير وخراب، تتعرض له البنية الأساسية للدولة، مما يمثل خسارة فادحة لدولة فقيرة مثل أفغانستان، ولا يعلم إلاّ الله إمكانية إعادة إعمار مثل هذه الدولة. إضافة إلى ذلك، يوجد الآلاف القتلى والجرحى والمعوقين، وملايين اللاجئين، الذين هربوا إلى البلاد المجاورة بحثاً عن الأمن. وفي الوقت نفسه لهم آثارهم السلبية على التوزيع الديموجرافي لهذه البلاد (باكستان وإيران)، خاصة إذا ما كان لهؤلاء الأفراد أصول في الدولة المضيفة، مثل الباشتون في باكستان.

وعلى الرغم من المحاولات العديدة، والاتفاقيات، التي وقعّت بين الأطراف، إلاّ أن طابع الانفراد بالحكم والهيمنة الفردية، هو الذي يعرقل كل الاتفاقيات. وقد أصبح المدخل الرئيس لحل القضية، لابد أن يكون من خلال كل القوى المؤثرة، تحت رعاية القوتين العظميين، مع عدم إغفال الأطراف المشتركة في الجهاد. وخلاف ذلك فستستمر الحرب الأهلية.

أولاً: تطور الحرب الأهلية في أفغانستان

على الرغم من اختلاف الآراء، وصعوبة تحديد تاريخ بدء الحرب الأهلية، إلاّ أنه وطبقاً لما وصلت إليه الأمم المتحدة في تعريف الحرب الأهلية، فإن الأزمة الأفغانية قد مرت بمرحلتين:

1. المرحلة الأولى: وهي فترة الاحتلال العسكري السوفيتي، التي بدأت يوم 27 (كانون الأول) ديسمبر 1979م، وحتى انسحاب آخر جندي سوفيتي يوم 15 (شباط) فبراير 1989م. وهذه المرحلة يمكن أن يطلق عليها "حركة الجهاد".

2. المرحلة الثانية: وهي الفترة من جلاء القوات السوفيتية أي 15 (شباط) فبراير 1989م، حتى الآن، وهي بناء على تعريف الأمم المتحدة، والقانون الدولي للحرب الأهلية، يمكن أن يُطلق عليها "حرباً أهلية"، وهذه الفترة هي المعينة بالدراسة.

ولمّا كان من الصعب الفصل الزمني، بين مرحلة الصراع المسلح ضد عدو خارجي، وهو الاتحاد السوفيتي، ومرحلة الحرب الأهلية بين رعايا دولة واحدة، إلاّ أنه من المؤكد ـ وكما ذُكر من قبل ـ فإن بداية الحرب الأهلية، كان قوامها الصراع المسلّح، بين فصائل المجاهدين من جانب، وبين نظام حكم نجيب الله من جانب آخر، وذلك في أعقاب الانسحاب السوفيتي. وعلى الرغم من القضاء على حكم نجيب الله، إلاّ أن الحرب الأهلية استمرت بين المجاهدين ضد بعضهم، وكلٌ منهم يسعى للاستيلاء على الحكم بمفرده. وهكذا تحولت أحزاب الجهاد إلى أحزاب سياسية، هدفها الرئيس حكم البلاد. هذه الحرب صاحبها ظهور تحالفات بين فصائل المجاهدين، استعداداً لما عدّوه الفصل الختامي للجهاد انتقالاً إلى الحكم في كابل، وذلك في ظل اتفاق أمريكي ـ سوفيتي، بعد توقيع اتفاقيات جنيف الأربع في 14 (نيسان) أبريل 1988م، التي تضمنت برنامج الانسحاب السوفيتي، وعودة اللاجئين، والاتصالات الخاصة بتسوية الوضع الأفغاني.

وعلى الرغم من المحاولات العديدة، التي قام بها الاتحاد السوفيتي من أجل تعيين حكومة وطنية، تجمع الشيوعيين والإسلاميين، إلاّ أنه فشل. ورفض المجاهدون هذه الصيغة، إضافة إلى اعتراضهم على الاتفاقيات الأربع. وأكد على ذلك عبد رب الرسول سياف، رئيس الاتحاد الإسلامي للمجاهدين، في مؤتمر أحزاب المجاهدين، وأمام 100 ألف شخص، قائلاً:

"… إن أحزاب المجاهدين السّبعة ترفض جملة وتفصيلاً، ما تم توقيعه في جنيف …".

وإذا كان شكل النظام الشيوعي في أفغانستان، برئاسة نجيب الله، ذا صورة مملوءة بالغيوم والنذر، عندما أعلن نجيب الله الأحكام العرفية، وعزّز إجراءات الأمن، حتى تحولت كابل إلى مدينة رعب. وبدأ الحديث عن تصاعد العمليات العسكرية، حيث لوحت موسكو وهددت، بأنه إذا استمر التوتر، فإن هناك معاهدات صداقة وتعاون تربط بين موسكو ونظام كابل الشيوعي، وعلى رأسه نجيب الله، الذي يمثل الشّرعية لتوليه الرئاسة بإرادة شعبية، وأن مجلس النواب اختاره. إضافة إلى أن موضوع تنازله عن السلطة غير وارد الآن، وأن حكومته سوف تبقى، وأنّ جيش أفغانستان قادر على الدفاع عن النظام أمام هجمات المجاهدين.

كان المجاهدون مختلفين فيما بينهم على مسائل كثيرة، لكنهم متفقون على مسألتين:

الأولى: كراهية السوفييت.

الثانية: ضرورة إسقاط نظام نجيب الله، بصفته نظاماً عميلاً للسوفيت.

وسوى ذلك، فهم منقسمون حول مستقبل البلاد، وحول تشكيل مجلس الشورى وتشكيل الحكومة المؤقتة، التي يزمعون الإعلان عنها، أي إنهم مختلفون على الأشياء الجوهرية، متفقون على أشياء المفروض أنها ثانوية. فكراهية النظام الشيوعي يجب ألاّ تؤثر على المصالح الوطنية للبلاد. فليس معنى كراهية الشيوعيين، أن تستمر الحرب الأهلية واستنزاف موارد الدولة. أما عن سقوط حكومة نجيب الله، فهذا وضع مرحلي لابد وأن ينتهي. وبالفعل انتهى حكم نجيب الله عام 1992م، ومازالت الحرب الأهلية مستمرة، ولم يفعل المجاهدون شيئاً استعداداً لتولي أمور البلاد، بعد سقوط حكومة نجيب الله. وقد سلّم نجيب الله الحكم للجنة، لأنه لم يجد إلاّ الخلافات والنزاعات بين المجاهدين.

وفي أعقاب انسحاب الاتحاد السوفيتي، شعر المجاهدون بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد تخلت عنهم، بعد أن حققت أهدافها في استنزاف الاتحاد السوفيتي وهزيمته. ويذهب بعض المؤيدين للدور الأمريكي بأنها على حق، لأن عقب انسحاب الجيش السوفيتي، أصبح ما يحدث في أفغانستان شأن محل داخلي للأفغان، ليس له صلة بالتوازنات الدولية، التي تؤثر على المصالح الحكومية. وهكذا تولد لدى المجاهدين الأفغان عدم مبالاة بالاتفاقيات، التي عقدت ولم يكونوا أطرافاً فيها.

إنّ تقسيم الحرب الأهلية في أفغانستان، إلى مراحل واضحة المعالم، من الأمور الصعبة. إلاّ أن الفيصل في هذا التقسيم، سوف يستند على تعريف الأمم المتحدة للحرب الأهلية، وعلى المستجدات، التي حدثت في النظام العالمي الجديد لانتهاء الحرب الباردة، والتفكك الذي حدث للاتحاد السوفيتي.

ثانياً. المرحلة الأولى للحرب الأهلية

وتبدأ في أعقاب الانسحاب السوفيتي يوم 15 (شباط) فبراير 1989م وهو الانسحاب الذي تم بناء على اتفاقيات جنيف في 14 (نيسان) أبريل 1988م، وحتى سقوط حكم نجيب الله في 16 (نيسان) أبريل 1992م.

كان الخامس عشر من (شباط) فبراير 1989م، هو اليوم الذي غادر فيه آخر جندي سوفيتي أراضي أفغانستان. وبدأت قوات المجاهدين الاستيلاء على المناطق، التي ينسحب منها السوفييت، ومحاصرة المدن الرئيسة، وهي كابل وجلال أباد وقندهار وحيرات. واستمر القصف العشوائي المتبادل بين القوات الحكومية من جانب، وقوات المجاهدين من جانب آخر، مما نتج عنه سقوط مئات الضحايا، وتدهور الحالة الصحية، مع صعوبة وصول الإمدادات الغذائية والطبية للمدن المُحَاصَرة، نظراً لاعتراض قوات المجاهدين لتلك الإمدادات.

وكان موقف الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة الأمريكية، وباكستان، فضلاً عن الموقف الداخلي، تجاه الحرب الأهلية في هذه المرحلة، أمراً حيويا،ً وقد تبدى في الآتي:

1. الاتحاد السوفيتي

اتجه الاتحاد السوفيتي إلى دعم حكومة نجيب الله، عن طريق المساعدات الاقتصادية، والمساعدات العسكرية، والكم الكبير من الأسلحة والمعدات، التي تركها في أعقاب انسحابه. إلاّ أنه على صعيد السياسة الخارجية، فقد زار شيفرنادزه، وزير الخارجية السوفيتي، ومن قبله نائبه، بولي فرنتسوف، باكستان في محاولة للتفاوض مع المجاهدين، وإقناعهم بأنهم قوة ضمن قوى الشعب الأفغاني، وعليهم إشراك حزب الشعب الديموقراطي في حكومة وطنية، مع فصائل المجاهدين. إلاّ أن هذا الطلب قوبل بالرفض. وفي مقابلة أخرى مع بينظير بوتو، طلب منها الكف عن مساندة المجاهدين بالأسلحة والمعدات العسكرية، والعمل على ضرورة إيجاد حل لمشكلة اللاجئين، إلاّ أن هذه المحاولة فشلت أيضاً. وفي مواجهة هذا الفشل، كان على الاتحاد السوفيتي العمل بشتى الوسائل، من أجل صمود كابل في مواجهة هجمات المجاهدين وحصارهم لها. وفي سبيله لتنفيذ هذه الإستراتيجية، استمر الاتحاد السوفيتي في إمداد نظام نجيب الله بالمعدات والأسلحة، ولكن الثابت أن ولاء الجيش لنجيب الله أصبح غير مضمون، ومعنوياته متدهورة، والأفراد الموالون للحكومة يعيشون في رعب، خشية أن يأتي يوم الحساب. وفي كل الأحوال، كان معظم الضباط والجنود المسلحين أسلحة سوفيتية حديثة، يُفضلون القتال حتى الموت على مواجهة احتمال إعدامهم على أيدي المجاهدين، إن هم استولوا على كابل، وشكّلوا حكومة إسلامية. لذا فإن المعركة لإسقاط كابل، لن تكون معركة سهلة.

وفي أواخر عام 1991م، وتحديداً إثر فشل المحاولة الانقلابية في موسكو يوم 21 (آب) أغسطس 1991م، أصبح من المقرر إنهاء الدعم السوفيتي، الموجه إلى حكومة نجيب الله إلى غير رجعة. وترتب على ذلك أنّ الحكومة الأفغانية فقدت، القدرة على الصمود في مواجهة فصائل المجاهدين، الذين وجدوا في هذا التطور في العلاقات، مؤشراً على اقتراب النصر والاستيلاء على كابل.

2. الولايات المتحدة الأمريكية

تعددت الآراء بخصوص موقف الولايات المتحدة الأمريكية، تجاه الحرب الأهلية في أفغانستان. فبعد أن تبلورت فكرة أن ما يجرى في أفغانستان، هو حرب أهلية، ومشكلة داخلية يتعين على الأفغان حلها بأنفسهم، إلاّ أن الواقع كان خلاف ذلك. فقد صرح أكثر من مصدر رسمي، أن الولايات المتحدة الأمريكية ستستمر في دعم المجاهدين من خلال باكستان، طالما بقيت حكومة نجيب الله في الحكم. إضافة إلى أن المساعدات الأمريكية تعتبر ضرورية، طالما أن السوفييت قد أخلّوا بالتزاماتهم تجاه اتفاقيات جنيف عام 1988م، عندما تركوا خلفهم كميات كبيرة من الأسلحة أثناء انسحابهم، وفضلاً عن الجسر الجوى القائم بينهم وبين كابل، من أجل إمداد حكومة نجيب الله بالسّلاح المتطور. ومن ثم، فإن حكومة ريجان، ومن بعده بوش، استمرتا في إمداد الثوار بالسلاح على الرغم من انسحاب الجيش السوفيتي. ولكن نتيجة لغزو العراق للكويت، أصبح واضحاً اختفاء القضية الأفغانية من الساحة العالمية، وانشغال العالم باحتلال الكويت، وأُسلوب التعامل مع العراق.

وفي تطور مفاجئ، قررت الحكومة الأمريكية عدم تخصيص أي مساعدات للمجاهدين الأفغان في مشروع ميزانية عام 1992م، فيما يعتبره المحللون الإستراتيجيون اعترافاً من جانب الإدارة الأمريكية، بأن سياسة دعم المجاهدين للإطاحة بنظام نجيب الله، والمستمرة منذ 11 عاماً، سياسة عفا عليها الزمن.

3. باكستان

صاحب التغير الأمريكي، على النحو السابق، تغير في مسلك باكستان تجاه أفغانستان. فقد أعلنت بينظير بوتو عن رغبتها في إقامة اتحاد فيدرالي مع أفغانستان. وهذا التصور الباكستاني دفع نجيب الله إلى اتهام باكستان، بأنها تسعى إلى الاستيلاء على مناطق أفغانية. ويرى بعض المحللين أن إعلان بينظير بوتو عن الاتحاد الفيدرالي الإسلامي، المكّون من أفغانستان وباكستان وإيران، ما هو إلا أحياء لنظرية كيسنجر القديمة عن "قوس الأزمات"، وعلى الرغم من أن هذا التصور صعب تحقيقه، بل يمكن اعتباره تصوراً نظرياً، لأن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي اتفقا، عن قصد أو عن غيره، على عدم إقامة نظام إسلامي في أفغانستان. لذا فإنه من المستحيل الموافقة على إقامة اتحاد إسلامي، بين هذه الدول الثلاث. وتشير بعض التقارير، بل وتؤكد على أن باكستان مستمرة في تقديم الدعم للمجاهدين من أجل:

أ. إسقاط حكومة كابل، والقضاء على النظام الشيوعي بالكامل.

ب. تمكين المجاهدين الأفغان من السيطرة على السلطة، وتعيين حكومة موالية لباكستان.

وهكذا، تطابقت أهداف كل من الولايات المتحدة الأمريكية وباكستان. أما إيران، دولة الجوار مع أفغانستان، فقد كانت في هذه المرحلة قد أنهت صراعها مع العراق، واتجهت إلى محاولة إيجاد دور لها في حل الأزمة، من خلال تجمع الأحزاب الشيعية. إلاّ أن المحاولات لم تسفر عن شيء، سوى زيادة تعقيد الموقف، وأصبح اللاجئون الأفغان في إيران، يسببون الكثير من المشاكل لها.

4. البيئة الداخلية في أفغانستان

إن صورة الانقسام، التي يبدو عليها المجاهدون الأفغان تدعو للأسف ـ حتى وإن كانت متوقعة من قبل ـ فهي لا تبشر بالخير. ذلك أن زعماء الأحزاب، التي اتخذت قواعدها في باكستان، والأخرى في إيران، يتصارعون على حكم لم يحصلوا عليه بعد، بدلاً من الاهتمام بشعبهم، الذي دفع ثمناً باهظاً من أجل نصر، أصبح قريب المنال.

وقد اعتمد نجيب الله على تلك الانقسامات، محاولاً الاستفادة منها من أجل دعم موقف حكومته، وذلك بطرح مبادرات عديدة لتشكيل حكومة وحدة وطنية ذات قاعدة عريضة، تضم جميع القوى الأفغانية سواء من الحكومة أو المجاهدين بمختلف فصائلهم. ولكن ذلك الاقتراح قوبل بالرفض.

وعلى الرغم من مظاهر المصالحة التي يبديها نجيب الله، فلا يجب إغفال أسلوبه الديكتاتوري في إدارة البلاد. فقد أعلن حالة الطوارئ لمدة ثلاثة شهور، بعد جلاء القوات السوفيتية مباشرة، وأجرى تعديلاً وزارياً، وجمع أبرز المناصب في قبضته، وأبعد الوزراء الذين لا ينتمون للحزب الشيوعي ولتيار پرچم، الذي ينتمي إليه. وبذلك تمكن من إحكام قبضته على البلاد. كما وزّع السلاح على حوالي ثلاثين ألفاً من أعضاء الحزب، حيث كون فرقاً للدفاع المدني عن كابل، وأحبط محاولة انقلاب داخلية ضده، في 10 (شباط) فبراير 1989م، أي قبل إتمام جلاء القوات السوفيتية.

ووفقاً لتقديرات المحللين الإستراتيجيين، فإن صمود نظام نجيب يتوقف على قدر المساعدات، التي تصل إليه من السوفييت، مع استمرار فتح طرق الإمداد، ومدى تماسك الروح المعنوية بين قواته. وهذه العناصر تُعد متوفرة، عدا تماسك قواته، الذي يُعتبر مشكوكاً فيه.

وكان أهم أُطروحات نجيب الله السياسية، تلك التي قدمها يوم 24 (كانون الثاني) يناير 1990م، وهي موافقته على عقد مؤتمر وطني، مصحوباً بوقف لإطلاق النار لمدة ستة أشهر، على أن يُشَكّل من خلال المؤتمر عدة لجان تختص بوضع دستور جديد للبلاد، وأخرى للتخطيط لإجراء انتخابات عامة. إضافة إلى تلك اللجان، تُشَكّل جمعية وطنية، للموافقة على أحكام الدستور الجديد، وعلى خطة الانتخابات، التي يمكن أن تتم تحت إشراف دولي.

وعلى الرغم من أن نجيب الله أبدى استعداده الكامل للاستقالة، أثناء الانتخابات المقترحة، على أن يُعطي المزيد من الصلاحيات الإدارية لوزراء الدفاع والداخلية، فيما يتعلق باللجان الخاصة بالانتخابات، إلاّ أنّ فصائل المجاهدين ـ كلها ـ رفضت هذا العرض، لحرصها على هدفها من الحرب، وهو القضاء على النظام الشّيوعي بالكامل، ممثلاً في شخص نجيب الله.

وفي ظل تقليص المعونات، المقدمة من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، نتيجة للمتغيرات التي نتجت عن الانسحاب السوفيتي، بدأ التركيز على الأمم المتحدة لتولي زمام المبادرة لإيجاد تسوية للقضية الأفغانية. فكانت هناك خطة لإحلال السلام، أعلن عنها الأمين العام في (أيار) مايو 1991م، تتضمن: الحفاظ على سيادة أفغانستان واستقلاله، والاعتراف بحق الشعب الأفغاني في تقرير مصيره، وإجراء حوار بين القوى الأفغانية لتشكيل حكومة ذات قاعدة وطنية عريضة، وإيقاف إمدادات السلاح أطراف الصراع إلى كافة، فضلاً عن المساعدات الاقتصادية لإعادة إعمار أفغانستان، وإعادة توطين اللاجئين في ديارهم.

ولأن بعض جماعات المجاهدين، ترى أن الأمم المتحدة مؤسسة تسيطر عليها الولايات المتحدة الأمريكية، لذا فإن مصداقية المؤسسة الدّولية كوسيط محايد قادر على تحقيق تسوية سياسية، تنال رضاء جميع الأطراف أصبح أمراً مشكوكاً فيه. لذا، فإن فشل خطة (أيار) مايو 1991م، كان بسبب تصميم بعض جماعات الجهاد على تولى السلطة أولاً، لذا لم تحظ هذه الخطة إلا بمساندة بعض الجماعات المعتدلة، التي لم تكن تقدر عسكرياً على المطالبة بنصيب في المساعدة.

وفي السادس عشر من (نيسان) أبريل 1992م، تم الإطاحة بنظام الرئيس الأفغاني نجيب الله، بعد حكم دام ست سنوات، وتولى الحكم بعده ائتلاف مكون من 4 ضباط، من كبار القادة العسكريين، إضافة إلى أحمد شاه مسعود، من حزب الجمعية الإسلامية. وقد تم اختياره لأن قواته تسيطر على المناطق الشمالية، وقاعدة باجرام العسكرية، والمطار المدني الوحيد بالمدينة. وهكذا، وبعد 13 عاماً من الكفاح المسلح، وصل المجاهدون الأفغان إلى كابل، بعد القضاء على النظام الشيوعي، وتحقق بذلك هدفهم من الجهاد، ولكن لم يتحقق هدفهم من الأمن والاستقرار لأفغانستان، لأن الوضع ما يزال على ما هو عليه.

كان أهم نتائج انهيار النظام الشيوعي ـ عقب سقوط حكم نجيب الله ـ ذلك الائتلاف، الذي تم بين المجلس العسكري الحاكم، وأحمد شاه مسعود، على الرغم من أن قلب الدين حكمتيار رئيس الحزب الإسلامي، رفضه، مؤكداً أنه على استعداد لوقف زحف قواته إلى كابل، إذا استسلم الائتلاف الحاكم له، وسلّم السلطة إلى مجلس يحدد الحزب الإسلامي أسماء أعضائه.

5. الموقف العسكري للمجاهدين

بدأ المجاهدون الأفغان أول مرحلة من إستراتيجيتهم العسكرية، لإسقاط نظام نجيب الله الموالى للاتحاد السوفيتي. وتتلخص هذه الإستراتيجية في إحكام الحصار حول المدن الرئيسة، والضغط عليها، مع قطع خطوط الإمدادات والمواصلات بحيث لا يكون أمامها إلاّ أحد الخيارين الآتيين:

أ. الاستسلام دون قتال، وهو الخيار الذي يفضله المجاهدون.

ب. الصراع المسلح.

وفي هذه المرحلة أحكم المجاهدون الحصار، حول أكبر أربع مدن في أفغانستان وهي: كابل، وجلال آباد، وغزنه، وقندهار، وبسقوط إحدى هذه المدن سرعان ما تتداعى باقي المدن. وقد حقق المجاهدون نجاحاً كبيراً في الاستيلاء على الحاميات العسكرية والمواقع الحكومية في طريقهم إلى جلال آباد. وأصبح الطريق من الحدود الباكستانية حتى جلال آباد، أرضاً أفغانية محررة من قوات الحكومة، يسيطر عليها المجاهدون.

(1) جلال آباد

هي عاصمة إقليم ننگرهار، الذي يقع شرقي أفغانستان، وتُعد البوابة إلى كابل حيث تبعد 100كم فقط عن العاصمة. وتمثل معركة جلال آباد أهمية إستراتيجية، خاصة بالنسبة للمجاهدين، حيث يحتاجون لانتصار يقنع العالم بأن فصائلهم المنقسمة، يمكنها التوحد في مواجهة حكومة نجيب الله، ويرغبون في أن تصبح جلال آباد (500.000 نسمة) عاصمة لحكومتهم المؤقتة.

ويحاصر جلال آباد حوالي 12 ألف من المجاهدين، ارتفع عددهم خلال الأيام الأخيرة، طبقاً لمصادر سوفيتية، إلى 20 ألف مقاتل، وينتمي عدد كبير منهم إلى قوات الحزب الإسلامي (يونس خالص)، ولمعظم فصائل المجاهدين الست. يُدافع عن المدينة ما بين 10 ـ 12 ألف من ميليشيات الحكومة وجنودها، وقد شهدت المدينة قتالاً شرساً وعنيفاً، عندما التحم المجاهدون مع قوات الحكومة في معارك ضارية. واضطر أكثر من 70 ألف من السكان إلى الفرار، من ضراوة القتال، متجهين إلى بيشاور. والواضح أن التّسليح السوفيتي لقوات الحكومة، كان له أثر كبير في صمود المدينة. وتؤكد بعض التقارير أن الجيش الأفغاني استخدم الصواريخ (سكود ـ ب) السوفيتية، ذات القدرة التدميرية العالية، في قصف المجاهدين أثناء الحصار.

والواقع أن سقوط جلال آباد ليس سهلاً. فخلال عشر سنوات من القتال، لم تواجه المجاهدين معركة صعبة، مثل معركة جلال آباد، وهذه هي العقبة الرئيسة في هذه المعركة.

(2) غزنة

بعد انسحاب القوات الحكومية من إقليم غزنة ـ جنوب غرب كابل ـ اخترق المجاهدون دفاعاتها الخارجية، واستولوا على بعض أحيائها. وتتمركز القوات الحكومية في عدة أميال مربعة، في المدينة نفسها، وفي المطار. وإذا نجحت قوات النظام في صد هجوم المجاهدين على جلال آباد، فيتوقع المحللون العسكريون أن تكون غزنة أول مدينة تسقط في الربيع ـ بعد ذوبان الجليد ـ في أيدي المجاهدين، حيث يأمل أمين واردك، وهو أحد أبرز قيادات الحزب الإسلامي، أن يستسلم حوالي 4 آلاف من القوات الحكومية المحتلين لحامية غزنة، كما حدث حول جلال آباد. وعلى الرغم من أن خطة الهجوم جاهزة للتنفيذ، منذ شهر (كانون الأول) ديسمبر 1988م، إلاّ أن المجاهدين فضلوا تأجيل الهجوم، استجابة لنداء أهالي مدينة غزنة بسبب الشتاء القارس البرد، وأيضاً إلى ما بعد انتهاء انسحاب القوات السوفيتية (15 فبراير 1989م)، ولكن التأجيل طال أمده، إلى أن تم تحرير المدينة في السادس عشر من (نيسان) أبريل 1992م.

(3) قندهار

يشدد المجاهدون الحصار حول مدينة قندهار، ثانية أكبر مدن أفغانستان (جنوب غرب كابل)، وذلك انتظاراً للهجوم الكبير، حيث يقف في مواجهتهم حوالي 12 ألف من الجنود الحكوميين. وتُعد قندهار معقل قبائل الباشتون، الذين يمثلون 40% من إجمالي السكان الأفغان، وهي عاصمة المجاهدين الآن، فهم يسيطرون عليها منذ سنوات طويلة رغم كل محاولات القوات الحكومية ـ والسوفيتية قبل انسحابها ـ لإبعادهم وفك الحصار عنها. ولا تسيطر القوات الحكومية إلا على بعض أحياء من قلب المدينة، إضافة إلى المطار.

وتمثل قندهار القاعدة الآمنة، التي تلتقي فيها قيادات المجاهدين في الداخل، لوضع خططهم ومناقشة إِستراتيجيتهم، لاستمرار أعمال القتال.

وعلى عكس جلال آباد، التي يسود الانقسام بين مختلف جماعات المجاهدين فيها، فإن المجاهدين في قندهار يشكلون جبهة موحدة، وتربطهم روابط قبلية أكثر تأثيراً من انتماءاتهم الحزبية. لذا كان من السهل على قيادات المجاهدين في المدينة، انتخاب مجلس للشورى يتولى إدارة المدينة، ويحظى باحترام السكان والمجاهدين كافة. ولا يوجد في قندهار نقاط تفتيش بين المواقع المختلفة، التي يُسيطر عليها المجاهدون، مثلما يحدث في جلال آباد. كما أن سقوط بعض الحاميات العسكرية، لم يتبعه أي عمليات انتقامية أو تخريب، مثلما حدث في الحاميات، التي سقطت حول جلال آباد. والملاحظ أن المجاهدين، قبل القيام بأي هجوم عسكري، يبلّغون المواطنين ويحذرونهم، ليتدبروا أمورهم الأمنية.

ويؤكد القائد الميداني فضل الدين أغا، وهو من الوجوه البارزة للمجاهدين في قندهار، أن المدينة سيتم الاستيلاء عليها خلال أسابيع قليلة لشدة الحصار، ولأن المؤن لم تعد تكفي المدينة إلاّ بضعة أيام.

(4) كابل

ترك الاتحاد السوفيتي قبل انسحابه من كابل، نظاماً قوياً مُعيناً. فقد شيدوا ثلاثة خطوط دفاعية حول المدينة، آخرها على مسافة 20 ميلاً من منتصف كابل، وحصنوا هذه الخطوط بالدبابات، التي تحميها الميليشيات المسلحة، عند كل نقطة يمكن اختراقها.

وفي مواجهة هذه التحصينات، يُشدد أكثر من ثلاثة آلاف من المجاهدين الحصار حول كابل، انتظاراً لفصل الربيع، لشن الهجوم الحاسم والنهائي على العاصمة. وقد طلب المجاهدون من السكان إخلاء الأماكن القريبة من المنشآت العسكرية والمطار، حيث حصّنوا مواقعهم، مع إرسال أسلحة ثقيلة لاحتلال المواقع الحيوية حول العاصمة. ويتعرض مطار كابل للقصف العشوائي يومياً بالصواريخ. ويتمركز حوالي20 ألف مجاهد شمالي كابل، على الطريق الموصل بينها وبين الحدود السوفيتية، ولمنع وصول الإمدادات للمدينة.

وفي مواجهة المجاهدين، يزعم نجيب الله أنه يستطيع تجنيد 500 ألف مقاتل (وهو عدد مبالغ فيه) فالجيش الذي أصبح يتراوح عدده ما بين 40 ـ50 ألف، لا يمكن الاعتماد عليه، حيث استسلم منه للمجاهدين حوالي 12 ألف جندي، منذ انسحاب السوفييت. إلاّ أن نجيب الله يمكنه الاعتماد على ولاء 80 ألف من الميلشيات شبه العسكرية، و50 ألف من رجال البوليس السري المسلحين جيداً. كما يسيطر نظامه على 23 إقليماً، من بين 29 إقليماً، أي أن المجاهدين يسيطرون على 6 أقاليم فقط. إضافة إلى أن قدرات الجيش القتالية متفوقة على المجاهدين، لجودة التنظيم وتوافر الأسلحة والمعدات المتطورة، التي تركها السوفييت عند انسحابهم.

6. الموقف السياسي للمجاهدين

شكّل انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان، الذي اكتمل في 15 (شباط) فبراير 1989م، للمجاهدين الأفغان حرجاً شديداً، حيث وضعهم في مفترق الطرق، أمام مسؤولياتهم. فإما القبول بالحل السلمي والمصالحة الوطنية، وإما المضي في خوض حرب أهلية متعددة الجبهات، بلا دعم أو مساعدة أجنبية، علاوة على استنزاف للموارد المتاحة بلا عائد.

وبين هذين الخيارين، ظلت الحرب الأهلية تتأرجح في مواقفها، دون أن تحرز تقدماً على أي من الطريقين. فقد كانت تتقاسمها الاعتبارات الطائفية والعرقية والأيديولوجية والسياسية، ولم تعد ثمة سلطة مركزية، قادرة على أن تمسك زمام الأمور وقيادة البلاد إلى بر الأمان، إضافة إلى مشاكلها الاقتصادية المتزايدة من جراء إحجام معظم الدول المانحة، عن الاستمرار في تقديم الدعم.

وفي ظل هذه التطورات والأحداث المتلاحقة، على الساحة الدولية تم تشكيل أول حكومة مؤقتة في (شباط) فبراير 1988، برئاسة المهندس أحمد شاه بن دولت خان، وبعد ذلك بعام كامل اجتمع مجلس الشورى واتفق على انتخاب حكومة جديدة في 12 (شباط) فبراير 1989، حيث انتُخب صبغة الله مجددي رئيساً لدولة المجاهدين الأفغان الإسلامية، والبرفيسور عبد رب الرسول سياف رئيساً للوزراء. ووزعت باقي الوزارات على رؤساء الأحزاب. فتولى قلب الدين حكمتيار وزارة الخارجية، ومولوى يونس خالص وزراء الداخلية، ومحمد بني محمدي وزارة الدفاع، وبرهان الدين رباني وزارة الإِعمار، واضطر المجاهدون الأفغان من خلال حكومتهم المؤقتة، إلى الاهتمام بالتحركات السياسية والدبلوماسية، الرامية إلى إيجاد حل للقضية الأفغانية بالطرق السلمية، وذلك على الصعيدين الإقليمي والدولي.

فعلى الصعيد الدولي، أبدت أحزاب المجاهدين تجاوباً وقبولاً متحفظاَ، تجاه خطة الأمم المتحدة لحل القضية. فبعد عدة لقاءات عقدها الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في أفغانستان (بينون سيفان)، في واشنطن وموسكو وإسلام آباد وطهران وكابل، توصل الجميع إلى خطة عامة لحل النزاع الأفغاني، تتلخص في الآتي:

أ. الاعتراف بالهوية الإسلامية لأفغانستان.

ب. وقف إطلاق النار وقطع جميع الإمدادات من مختلف الدول، عن جميع أطراف النزاع.

ج. ترتيبات أمنية تتعهد بها سلطة يوافق عليها الأغلبية، حتى يمكن تشكيل حكومة موسعة عبر انتخابات حرة شاملة.

د. منح منظمة الأمم المتحدة والمؤتمر الإسلامي، دوراً خلال المرحلة الانتقالية للإشراف على الانتخابات.

هـ. عودة اللاجئين وتقديم المساعدات، في إعادة بناء وإِعمار أفغانستان.

و. حق الشعب الأفغاني في تقرير مصيره بنفسه.

وعلى المستوى الإقليمي، شاركت أحزاب المجاهدين (باكستان وإيران والمجاهدون الأفغان) في المؤتمر الثلاثي، الذي عقد في إسلام آباد في آخر (تموز) يوليه 1991م، بهدف إيجاد حل سياسي للنزاع الأفغاني. وأصدر المؤتمر بياناً مشتركاً، يؤكد ضرورة تسوية الأزمة الأفغانية تسوية سلمية عادلة من شأنها إعادة الهوية الإسلامية لأفغانستان، واستقلالها وسيادتها.

ولم يشر البيان إلى الكفاح المسلح، ومفهوم الجهاد، الذي رفعه المجاهدون منذ أكثر من 12 عاماً، مكتفياً بالإشارة إلى أن الشعب الأفغاني، لابد وأن يختار حكومته بنفسه، بعيداً عن الضغوط والتدخلات الأجنبية. وأكد البيان على توفير الضمانات اللازمة لعودة اللاجئين الأفغان إلى بلادهم.

ومن جهة أخرى، وافق المؤتمرون، بما فيهم إيران، على تشكيل المجلس الجديد المؤلف من 38 عضواً، الذي اختاره ائتلاف المجاهدين المكوّن من الأحزاب السّبعة المتمركزة في باكستان، وذلك بهدف دراسة مشاريع الحل السّلمي.

وتأكيداً لهذا التوجه السّلمي من جانب الحكومة الانتقالية، صرح رئيس وزراء نظام نجيب الله، بأنه علم أثناء حضوره اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، التي شارك فيها وفد من المجاهدين الأفغان كمراقبين، بأن هناك اجتماعا يعقد قريباً بين الحكومة والمجاهدين، يكون الأول من نوعه منذ بداية الحرب، وذلك بعد المحادثات الثنائية التي أجرتها الأمم المتحدة مع كل من حكومة كابل، والحكومة المؤقتة للمجاهدين. وثمة خطوة أخرى بدأها المجاهدون على طريق التسوية السلمية، وهي قيام وفد من المجاهدين برئاسة زعيم الجمعية الإسلامية، برهان الدين رباني، بزيارة موسكو بين 10 ـ 16 (تشرين الثاني) نوفمبر 1991م.

وقد وصف رباني هذه الزيارة، في أعقاب محادثاته مع الرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، والروسي بوريس يلتسن، بأنها فاقت كل التوقعات. وبعد الزيارة أصدر الجانبان بياناً، لخصا فيه مستقبل العلاقة السوفيتية الأفغانية، اشتمل على الآتي:

(1) إدانة قرار الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1979م، وإدانة قتال الجيش السوفيتي للشعب الأفغاني المسلم.

(2) الاتفاق على نقل السلطة من الحكومة الشيوعية، إلى حكومة إسلامية انتقالية.

(3) موافقة وفد المجاهدين على إجراء انتخابات عامة في أفغانستان، بعد عامين من تسلم الحكومة الإسلامية الانتقالية للسلطة في كابل، على أن تجري الانتخابات تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة والمؤتمر الإسلامي.

(4) موافقة الاتحاد السوفيتي على إيقاف المساعدات والإمدادات العسكرية، على أن يتم هذا الإيقاف على مراحل يكون آخرها قبل (كانون الثاني) يناير 1992م، وأن يعلن الاتحاد السوفيتي استعداده للمشاركة في إعادة إِعمار ما دمرته الحرب في أفغانستان.

(5) الإفراج عن أسرى العمليات الحربية السوفييت، والمحتجزين لدى المجاهدين، وذلك ابتداء من أول عام 1992م.

(6) تشكيل لجنة مشتركة خلال شهر من تاريخ صدور هذا البيان، لمتابعة تنفيذ بنود الاتفاق، والعمل من أجل استمرار المحادثات بين الطرفين.

وبهذا الاتفاق، تتخلى الحكومة السوفيتية عن الرئيس الأفغاني نجيب الله، وتعلن موافقتها على تسليم السلطة إلى حكومة إسلامية انتقالية، بعد أن كانت تصر على أن يكون لحزب الوطن الحاكم دوراً رئيساً في الحكومة الانتقالية. ويعلق بعض المحللين الإستراتيجيين على أن الذي حدث في الموقف السوفيتي، كان نتيجة لإعلام الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي عن هويتها الإسلامية، مطالبين بالاستقلال، الأمر الذي جدد مخاوفه القديمة تجاه انتقال الفكر الإسلامي من اتجاه أفغانستان، فضلاً عن تزايد الضغوط المحلية والدولية، لإيقاف النزيف الناتج عن المساعدات الموجهة لأفغانستان، التي تقدر بحوالي 200 مليون دولار شهرياً.

وقد أكد رباني، عقب زيارته إلى الاتحاد السوفيتي، ضرورة اغتنام فرصة التغييرات الكبيرة، التي حدثت في البنية السياسية للاتحاد السوفيتي، إضافة إلى ظهور مفهوم الوحدة والحرية والديموقراطية، بين صفوف المثقفين ورجال الأعمال داخل أفغانستان، الذين أطلقوا شعارات تدعو إلى السلام، مثل: "الناس يريدون السلام، ولا يريدون من يطلق الصواريخ على مدنهم"، "والشعب يطالب بحكومة تدعم الحرية والديموقراطية، وتحفظ سيادة البلاد". وهذه المؤشرات تحذر المجاهدين وغيرهم، من استمرار الحرب الأهلية.

وهكذا، فإن تطور الأحداث على الصعيد العالمي، وفي ظل النظام العالمي الجديد، الداعي إلى إزالة توابع الحرب الباردة بما فيها النزاعات الإقليمية، أصبح يلح على المجاهدين الأفغان بالخروج من دائرة الحرب الأهلية، التي ضاقت حلقاتها بانسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان، وانهيار أطماع السوفيت، التي وقف المجاهدون يقاومونها طوال سنوات بلغت اثنا عشر عاماً، حتى أمكن تحرير أفغانستان عسكرياً. ولكن الدولة ظلت فريسة حرب أهلية ضروس، قضت على مقومات الدولة كلها.

وعلى الرغم من أن المجلس العسكري، الذي تولى السلطة بعد نجيب الله، وافق على خطة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، وعلى مشاركة قادة المجاهدين في هذا المجلس، إلاّ أن قلب الدين حكمتيار رفض الخيار السلمي، وفضل عليه الخيار العسكري، وذلك من أجل السيطرة على كابل وفرض التسوية، التي تحقق له الاستيلاء على الحكم كاملاً. وهكذا فشلت المحاولات السلمية، لتحقيق أمن البلاد واستقرارها، وفقد المجلس الحاكم قدرته على الدفاع عن نفسه، أو حتى السيطرة على كابل، عقب فرار العديد من جنود الجيش، وانضمامهم إلى تحالفات جديدة مع جماعات المجاهدين الأفغان، خاصة رشيد دوستم، الذي هرب بفرقة من رجال المليشيات، وترك قوات الحكومة المنهارة وانضم للمجاهدين. وبذلك حقق نوعاً من التوازن بين قوات أحمد شاه مسعود، وقوات قلب الدين حكمتيار ومنعهما من الاستيلاء على كابل، حيث ظل موقفها معلقاً بين الاثنين، لتفادي إراقة المزيد من الدماء.