إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الأزمة الأفغانية (تاريخياً.. وسياسياً.. وعسكرياً)





توزيع القبائل

مناطق توزيع القوات المتحاربة
التقسيمات الإدارية



الأزمة الأفغانية (تاريخيا، وسياسيا، وعسكرياً)

المبحث التاسع

المرحلة الثالثة للحرب في أفغانستان وظهور حركة طالبان

في أوائل أكتوبر 1994م، ظهرت على الساحة الأفغانية قوة جديدة أثرت إلى حد كبير على مجريات الأمور في أفغانستان، وجعلت الأطراف الأفغانية المتصارعة تعيد حساباتها، وذلك في وقت واجهت فيه المحللون السياسيون صعوبة كبيرة في التعرف على ماهية حركة الطالبان؟ وكيف نشأت هذه الحركة؟ وهل توجد قوى خارجية تدعمها؟ لقد أثارت سرعة تداعي الأحداث العديد من الأسئلة، فهاهي حركة شبابية أمكنها تجميع حوالي ثلاثين ألف مقاتل في أقل من أربع سنوات.

كانت بداية انتصارات الطالبان في الرابع من نوفمبر 1994م، عندما قاموا بالتصدي لعملية قرصنة، قام بها مجموعة من قطاع الطرق في قافلة باكستانية تتكون من ثلاثين شاحنة محملة بالمواد الغذائية والسلع التجارية كانت في طريقها إلى آسيا الوسطى.

أما الانتصار الثاني للحركة فكان في أواخر نوفمبر 1994م، حين استولت على مدينة قندهار دون مقاومة تذكر وبمساعدة من الأهالي، ثم تتابعت الانتصارات ففي الفترة من نوفمبر 1994م، وحتى مارس 1995م، كانت الطالبان قد استولت على محافظات غزنة، ولگر، وسيدان وزابل دون مقاومة تذكر، وكان اجتياح الطالبان يبدو حتميا، فالمقاومة الوحيدة والجادة كانت من قبل الحزب الإسلامي بقيادة قلب الدين حكمتيار، ففي أواخر يناير 1995م، حاول حكمتيار أن يحول دون سقوط غزنة، حيث دامت المعارك لعدة أيام إلى أن انتهت بهزيمة الحزب الإسلامي.

ومن الجدير بالذكر أن حاكم ضاحية غزنة ـ كارى يابا ـ لم يظهر أي مقاومة حيث يقال أنه تلقى وعدا من أحمد شاه مسعود، بالمكافأة في حالة تسهيل مهمة الطالبان في الاستيلاء على غزنة، وبالفعل ساهم كارى يابا، في دعم الطالبان حتى تمكنوا من الاستيلاء على الإقليم. وكان شاه مسعود، بل كل التحالف الحكومي سعداء بسرعة تقدم هذه الحركة وانتصاراتها، خاصة على الحزب الإسلامي لأنهم وجدوا أن الطالبان قد استطاعوا تحقيق ما عجزوا هم عن تحقيقه، ولكن هل ستستمر هذه الانتصارات من حركة غير جيدة التنظيم وغير مدربه على نحو جيد، أم أنه يمكن القول إن سر هذه الانتصارات يتمثل في ضعف خصومها وازدياد صراعاتهم الإقليمية.

أولاً: بداية ظهور حركة الطالبان

بدأت الحركة من قندهار حيث كانت مؤلفة من مجلس مكون من ثلاثين شخصا بزعامة الملا محمد عمر الذي كان أحد القادة عند مولوي محمد بني محمدي، وكان قائداً شجاعاً إلاّ أنه لم يكن يملك رؤية سياسية واضحة ـ مثل باقي الزعماء ـ لذا لم يعتقد الكثير بقدرة هذه الحركة على الصمود. فعندما أعلنت الطالبان عن اسم زعيمها وأميرها لم يكن أحد يعتقد أن محمد عمر قادر على تنظيم حركة تستطيع تحقيق السيطرة والأمن لأفغانستان خلال فترة بسيطة.

وقد ساعد الطالبان على تحقيق انتصاراتهم الأسباب الآتية:

1. الصراعات الداخلية بين تحالف الحكومة بزعامة برهان رباني والمعارضة بزعامة قلب الدين حكمتيار، هذه الصراعات أوجدت مناخا مناسبا لتحقيق الانتصارات، حيث إن الشعب الأفغاني كان في حاجة إلى طرف ثالث لحسم الموقف لصالحه.

2. شيوع مفاهيم أن الطالبان هم طلبة علم، فقد كان العلماء والفقراء لهم احترامهم في المجتمع الأفغاني، إضافة إلى انتشار الشائعات التي تؤكد على أن من يعارض الحركة سوف يتعرض للبلاء.

3. كان المجتمع الأفغاني قد أصابه الشلل الكامل، وانتشرت فيه عمليات الابتزاز والسطو المسلح وتعددت أنواع الضرائب التي يدفعها، لذا كانت الخطوة الأولى التي يفعلها الطالبان عند استيلائهم على الإقليم هو إلغاء القوانين الجائرة خاصة الضرائب مما كان له أثرا كبيرا على دعم الشعب الأفغاني لهم ومنحهم المساعدات اللامحدودة لهم.

ثانياً: من هم الطالبان؟

طالبان باللغة الأفغانية هم طلبة المدارس الشرعية الأهلية الأفغانية والذين كانوا يدرسون العلوم الدينية في مدينة بيشاور الباكستانية، وهي مدارس يشرف عليها الشيوخ التقليديون، وهذه المدارس تديرها جمعية علماء الإسلام الباكستانية. والطالبان في الأصل هي جمعية دينية حديثة التكوين تفرعت عن جمعية باكستانية تسمى جمعية علماء الإسلام يتزعمها عالم دين باكستاني يدعى ملا سميع الحق، وكان قد انشق عام 1993م، عن الجماعة الأساسية التي يتزعمها ملا فضل الرحمن.

وقد أنشأت هذه الجماعة العديد من المدارس الإسلامية في كل من باكستان وأفغانستان وتعتبر هذه المدارس المكان الذي يتربى فيه أفراد الجماعة حيث تنتشر في شتى أقاليم باكستان، وتمول هذه المدارس عن طريق التبرعات من داخل وخارج باكستان.

وتعتبر مادة الفقه الحنفي، وأصول الفقه، وعلوم اللغة العربية والمنطق والفلسفة القديمة وكتب الصحاح الستة، أساس المنهج التعليمي لهذه المدارس، وتنهج هذه المدارس المناهج التقليدية في مختلف توجهاتها بدءاً بالزي ومرورا بالمنهج الدراسي، ومن ثم فهم يرفضون أي تطور في المنهج الدراسي، أو منهج سلوكياتهم العادية، ومن هذا المنطلق تغرس هذه المدارس في شخصية طلابها معارضة أي خط فكري جديد، لذا فانهم يعارضون الحركات والفكر الإسلامي الحديث.

ويوجد عدد من هذه المدارس الدينية في بعض أقاليم أفغانستان مثل التي في قندهار ـ الموطن الأساسي لحركة الطالبان ـ ولكنها قليلة وذات إمكانيات يسيرة، وتعتمد أيضاً على التبرعات الشعبية. ويعتقد البعض أن الأساس لحركة الطالبان هي تلك الأطر الفكرية التي أنشأتها الأحزاب الأفغانية، وخاصة الحزب الإسلامي المنسق بزعامة محمد يونس خالص وحركة الثورة الإسلامية بزعامة محمد بن محمدي صاحبتا الانتشار الكبير بين علماء الدين وطلاب المدارس الدينية، خاصة في المناطق الجنوبية ذات الأغلبية البشتونيه.

ثالثاً: لماذا نشأت حركة الطالبان؟

اختلف المحللون والمراقبون السياسيون في الأسباب التي أدت إلى نشأة هذه الحركة، وهل هي حركة جديدة الفكر، أم أنها مثل باقي فصائل المجاهدين والتي انشقت عن أحد الفصائل، وقد انحصرت الاحتمالات في ثلاث هي:

1. أن الحركة نشأت كرد فعل تلقائي للتصرفات السيئة للمجاهدين، وهذا الرأي الذي يردده أفراد الحركة أنفسهم، ومن ثم نما لدى أفراد الطالبان كراهيتهم للأحزاب الأفغانية الموجودة على الساحة والتي أخذوا عليها القيام بأعمال التخريب والقتل وعدم احترامهم للتحالفات والمعاهدات التي وقعوها مع بعضهم، مع نقضهم للوعود، مما أفقدهم المصداقية. هذه التصرفات أسهمت في تصاعد الشعور بالعداء ضدهم من جانب الطالبان الأمر الذي جعلهم ـ أي الطالبان ـ يشكلون هذا التجمع، من أجل وضع نهاية للحرب الأهلية في أفغانستان، استعداداً لبدء إعادة إعمار دولتهم.

2. الرأي القائل أنّ الحركة نشأت بدافع سياسي باكستاني، عن طريق علماء الإسلام في الجمعية الباكستانية، حيث حفزوا الطلبة على الجهاد قبل العلم. ولهذا كانت البداية بإغلاق المدارس أمام الطلبة الأفغان، ومنعهم من الالتحاق بها لمدة خمس سنوات. وكانت حجتهم في ذلك، أن الجهاد فرض عين، بينما العلم فرض كفاية، وإن عليهم أن يتفرغوا للجهاد حالياً من أجل إقامة الدولة الإسلامية في أفغانستان، ثم بعد ذلك فليتفرغوا للعلم.

3. الرأي القائل أنّ الحركة كانت موجودة على الساحة، منذ بداية الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، ولكن نفوذها وإمكانياتها محدودة، حيث لم تكن تعتمد على قوى خارجية تدعمها، مثل باقي فصائل الجهاد الأخرى، إلى أن قررت باكستان، وبدعم من الأطراف الأخرى، أن تساندهم في الصراع ضد الأحزاب الأخرى.

وإذا كانت كل التحليلات تؤكد على أنه يوجد شبه اتفاق، بين موسكو وواشنطن، بعدم السماح بدولة إسلامية في هذه المنطقة، فما الوضع الآن؟ وقد أعلنت الطالبان عن برنامجها السياسي، الذي يتلخص في الآتي:

أ. تطبيق الشريعة الإسلامية، مع إخراج العناصر الشيوعية السابقة من مناصبها. وبالفعل تم تطبيق الشريعة الإسلامية على الإعلام والقضاء ومجالات عدة في الولايات، التي سيطرت عليها، مثل قندهار وننگهار وكنار ونعمان. وفيما يتعلق بتشكيل السلطة، فقد أعلنت عن قيام حكومة انتقالية تتألف من ستة أعضاء، برئاسة الملا محمد رباني، لرئاسة شؤون البلاد خلال هذه الفترة الانتقالية.

أما عن آليات انتقال السلطة والموقف من الانتخابات، فقد أكدت الحركة أن الانتخابات تقليد غير إسلامي، لأنها تساوى بين صوت العالم والجاهل.

ب. نزع سلاح جميع الأطراف في أفغانستان. وقد تمكنت بالفعل من تنفيذ ذلك في الولايات التسع، التي سيطرت عليها (حوالي 30% من مساحة البلاد). وقد أكدت الحركة أن هذه الخطوة سوف تمهد الطريق لتوحيد الفصائل الأفغانية، من أجل استقرار البلاد.

ولكن، وحتى الآن، فإن انتصارات الحركة أصبحت مهددة، نظراً لتعدد التحالفات ضدها، مما يؤكد على أن موقفهم أصبح حرجاً، حيث اتضح أن القوى الأفغانية الرئيسة (لربانى، ومسعود وحكمتيار ودوستم)، أصبحوا في وضع يجبرهم على إعادة دراسة موقف الحركة حتى يمكن تحجيمها.

رابعاً: عناصر حركة الطالبان

طرحت الانتصارات السريعة، التي حققتها الحركة، العديد من الأسئلة، والتي كان أبرزها التركيب التنظيمي للحركة، والعناصر التي تشكلها. فكما هو معروف أن باكستان، كانت قد حددت تقسيمات حزبية محددة، وهذه الأحزاب هي التي يمكنها الحصول على الدعم. ولم تكن حركة الطالبان ضمن هذه الأحزاب، فمن الذي كان يدعمها؟ هل هي باكستان أيضاً؟ أم دول أخرى فضلت عدم الإفصاح عن هويتها؟ ولكن المؤكد أن باكستان كان لها دور حيوي في دعم حركة الطالبان، خاصة في فترة حكم بينظير بوتو، التي اعتمدت على وزير الداخلية الباكستاني نصرالله بابر، والكولونيل أمام، في تنفيذ هذه السياسة. حاولت بينظير إيجاد قوة في مواجهة قوة حكمتيار، فكانت حركة الطالبان هي القادرة على القيام بهذا الدور. ولم يكن هدف بينظير هو حكمتيار فقط، إنما كانت هذه الضربة سوف تمتد إلى جهاز المخابرات الباكستاني، وإمتدادته السياسية الممثلة في نواز شريف، والجماعة الإسلامية، تحت زعامة قاضى حسين أحمد. وفي أكثر من مناسبة، كان الطالبان، يعلنون عن عدائهم للأصوليين، كما كانوا يعلنون أن هدفهم الرئيس هو تطبيق الشريعة الإسلامية. وليس في ذلك ما يمكن أن يفاجئ أحداً، ذلك أن طلبة الدين هؤلاء يدرسون ليصبحوا علماء دين. ولكن، للأسف، نجد أن ظاهر الحركة نقياً ومتمسكاً بالشريعة الإسلامية حيث يحاول تطبيقها، إلاّ أن الملاحظ أن العناصر البشرية للطالبان تتكون من مجموعات كثيرة متناقضة، تثير الكثير من الأسئلة في تكوينها، مثل:

1. طلاب المدارس الشرعية الأفغان، الذين كانوا يدرسون في المدارس الدينية بباكستان، وأغلبهم من اللاجئين الأفغان، وهؤلاء يشكلون عصب الحركة.

2. بعض ضباط الجيش الحكومي السابق، ممن هربوا إلى باكستان معلنين خروجهم على النظام الحكومي الشيوعي. وقد قام هؤلاء بدور رئيس في تدريب أفراد الطالبان، علاوة على قيامهم بقيادة الطائرات والدبابات، وتشغيل الأسلحة المتطورة، التي لا يستطيع تشغيلها أو صيانتها أفراد الطالبان.

3. بعض أفراد من جهاز المخابرات الأفغاني السابق "الخاد" حيث تم استيعابهم داخل جهاز " الحسبة"، الذي أنشأته الحركة. وعلى الرغم من معرفة قادة الطالبان أن هناك العديد من الشيوعيين السابقين داخل الحركة، إلاّ أنهم يؤكدون على أن هؤلاء الأفراد قد تغيرت أيديولوجيتهم، وأصبحوا منتمين فكراً وعقيدة تجاه حركة الطالبان.

4. أغلب عناصر الحركة كانوا ضمن تنظيمات المجاهدين، وبعضهم شارك في الجهاد ضد الجيش السوفيتي، مثل زعيم الحركة محمد عمر، والذي لا يُعرف حتى الآن الحزب الذي كان ينتمي إليه، هل جماعة الحزب الإسلامي (جناح محمد يونس خالص)، أم حركة انقلاب إسلامي (محمد بني محمدي)؟ ولكن الملاحظ أن الحركة ـ ذات الأغلبية البشتونية ـ قد استقطبت العديد من أعضاء الحزب الإسلامي (حكمتيار)، والجمعية الإسلامية، (رباني).

خامساً: أساليب قتال حركة الطالبان

استطاعت الطالبان، من خلال الدعم العسكري والمالي، أن تشكل قوة قوامها ـ وفقاً لبعض التقديرات ـ حوالي 200 دبابة، و25 طائرة مقاتلة، و12 طائرة عمودية. وقد يبدو أن هذه المعدات لا تكفي لمواجهة القوات المعارضة لنظامهم، إلاّ أن أسلوبهم في القتال يتسم بالذكاء والخداع، ومن ثم تمكنوا من تحقيق انتصارات كبيرة لا تتناسب مع قدراتهم القتالية، لذا، لابد من التعرف على أساليب أعمال قتالهم، التي تتركز في الآتي:

1. تجنب القتال بقدر الإمكان، حيث كانوا يتقدمون رافعين المصاحف بيد، والسلاح باليد الأخرى، طالبين من قادة المجاهدين الاستسلام، فإن قبلوا كان سلام على أن يسلموا أسلحتهم.

أما إذا رفضوا الاستسلام، فلا سبيل إلاّ القتال. وكانت أغلب المعارك تدور ليلاً، حيث كانت معارك قصيرة، لأن معظم المجاهدين كانوا قد فقدوا القدرة والرغبة في القتال. وهذا الأسلوب كان يظهر الطالبان كحركة ثورية زاهدة في الحكم، وجيش مسالم مرن لا يبغي إلاّ صالح الوطن.

2. الدخول في أحلاف تكتيكية أي قصيرة الأجل ومحدودة الأهداف، حيث تنتهي هذه الأحلاف بنهاية العملية الحربية فقط. والمثال على ذلك تحالفهم مع حزب الوحدة الشيعي، التي كانت تسيطر على جزء كبير من كابل، حيث وجدت نفسها ـ الوحدات الشيعية ـ معزولة، مما قوى الوحدة بين التحالف الحكومي والطالبان. ومن ثم حاول الشيخ علي مزاري، زعيم الوحدة، التفاوض مع الطالبان، حينما وجد الوحدة نفسه مستهدفًا من الطالبان، لكونهم حركة سنية أساساً، قبل أن تكون باشتونية، ولذلك فهي حركة مقاومة للوحدة الشيعي. وقد عرض على مزاري على الطالبان، أن تُسّلم قواته سلاحها شريطة أن يفعل التحالف الحكومي العمل نفسه. وأراد مزاري بذلك إعلام الطالبان أنه في موقع دفاعي، وليس في نيته بدء الحرب عليهم. وفي السادس من مارس 1995م، شنّ تحالف مسعود سياف ـ هجوماً على حزب الوحدة الشيعي، لإنهاء وجودهم في غرب كابل. وقد استخدم في ذلك الطيران والقنابل بأنواعها، مما دفع مزاري إلى طلب الدعم من دوستم، وكان ذلك اعترافا منه بضعف قواته، وإن كانت قد أظهرت مقاومة باسلة. وأعلن الطالبان أنهم سيتدخلون لإنهاء الحرب، وجرت المفاوضات اللازمة لتسهيل مهمة الطالبان، بتوصيلهم إلى مواقع الوحدة ـ أي حدود العاصمة كابل ـ عبر المناطق التي تسيطر عليها الوحدة. وما أن وصلت قوات الطالبان إلى قوات الوحدة، حتى عمدت إلى تجريدها من أسلحتها، مما آثار الاستغراب في صفوف قوات الوحدة، خاصة أن القتال لا يزال مستمراً في مواجهة عدو قوي.

حاول الشيخ علي مزاري التفاوض مع القيادات المحلية للطالبان، إلاّ أنها لم تستجب وطلبت منه اللجوء إلى قيادات الحركة.

وفي الثاني عشر من شهر مارس 1995م، قُتل علي مزاري في ظروف غامضة، بينما كان يحاول بشتى الطرق استعادة الأسلحة، التي فقدتها قواته. كان هذا الحادث هو الأول من نوعه، حيث يقتل أحد قادة المجاهدين، وقد اختلفت الروايات حول مقتله، فمن قائل أنهم الطالبان، وآخرون يؤكدون على أن رجال مسعود كانوا يتنصتون على كافة المكالمات بين مزاري والطالبان، فتمكنوا من معرفة خط سير مزاري أثناء سفره بالطائرة العمودية، فاتفقوا مباشرة مع قائد الطائرة وأقنعوه بالتخلص من الوفد وعلى رأسه مزاري مقابل مبلغ مالي كبير.

نجحت التكتيكات السابقة في رسم صورة إيجابية لحركة الطالبان، حيث ظهروا من خلالها كقوة زاهدة تسعى لتحقيق الأمن والاستقرار، وذلك انطلاقاً لتحقيق برامج للتنمية، لأن الوضع المتدني في أفغانستان والخراب الشامل، لا يجب إغفاله. فالواضح أن الدول الكبرى لن تقدم يد المعونة، طالما أن مصالحها محدودة، أو تكاد تكون مؤجلة إلى وقت لاحق. هذا القصور في سلوكيات الحركة، أكسبها شعبية كبيرة، وساعدها في السيطرة على جزء كبير من الأقاليم الأفغانية.

سادساً: الطالبان والطريق إلى كابل

مع الانتصارات المتتالية للطالبان، وتقدمها نحو كابل ـ في مارس 1995م ـ اضطرت القوى الأفغانية الرئيسية، عدا حكمتيار، إلى تكوين تحالف فيما بينهم لمواجهة الطالبان، وفي الوقت نفسه، آثر حكمتيار الانسحاب من چهارسبب، التي تبعد عن كابل حوالي 5 كم إلى سروبى، التي تبعد 50 كم. وكان هدفه من ذلك الابتعاد عن طريق تقدم الطالبان نحو كابل، وبذلك يعجل من المواجهة بين قوات الطالبان وقوات مسعود الذي يسيطر على العاصمة. ويُعد انسحاب حكمتيار خطوة تكتيكية، تدل على براعته العسكرية والسياسية. وفي الوقت نفسه، علق المحللون الإستراتيجيون على أن مسعود ارتكب خطأ كبيراً بالضغط على حكمتيار للانسحاب، وكان الأصوب تركه في مواقعه لاستنزاف قوة الطالبان قبل الوصول إلى كابل، ولكنه بذلك عجل ـ أي مسعود ـ في مواجهته للطالبان. وعلى الرغم من أن هذه المواجهة أسفرت، عن خسارة الطالبان لمواقعها حول كابل، كانت معظم الآراء تؤكد على أن حكمتيار كان يمكن أن يستفيد من هذا الموقف بمهاجمة كابل والاستيلاء عليها، أثناء انشغال مسعود في القتال، محققاً بذلك حلماً طالما راوده. ولكنه لم يدرك ذلك.

وفي فبراير 1995م، استولى الطالبان على كابل، إلاّ أنهم انهزموا في منتصف مارس من العام نفسه. وبذلك استعادت قوات التحالف الحكومي معنوياتها، حيث عدت أن حركة الطالبان قد انتهت عسكرياً. وقرر مسعود تبنى سياسة "اقتلاع الشر من جذوره"، وهاجم الطالبان في قندهار، مستفيداً من حالة الاستياء التي سيطرت على قيادات قندهار، جراء نزع الطالبان لأسلحتهم. فكان أن لجأ جزء منهم إلى كابل، والباقي إلى هرات وبيشاور. واستعان مسعود بالجنرال إسماعيل خان ـ حاكم هرات ـ من أجل مساندته عسكرياً لاحتلال قندهار، والقضاء على الطالبان. وفي 5 سبتمبر 1995م، تعرض إسماعيل خان لسلسلة من الهزائم، أهمها استيلاء الطالبان على هرات، ووصول الطالبان إلى الحدود مع إيران، فقررت الأخيرة تعاونها مع التحالف الحكومي، تحت قيادة رباني، بهدف استعادة هرات.

بدءًا من 17 ديسمبر 1995م، بدأت الطالبان في قصف كابل بالصواريخ قذفاً مركزاً. وفي 11  سبتمبر 1996م، استطاع الطالبان الاستيلاء على إقليم قندهار وعاصمته جلال آباد، حيث لجأ الآلاف إلى الحدود الباكستانية. إلاّ أن باكستان أغلقت الحدود أمامهم، قائلة إنها لا ترغب في المزيد من اللاجئين.

في السابع والعشرين من سبتمبر 1996م، استطاعت حركة الطالبان الاستيلاء على كابل، حيث فر الآلاف في اتجاه الحدود الباكستانية. وكانت أهم القرارات، التي أصدرتها الحركة في 30  سبتمبر 1996م، هو قرار حظر خروج المرأة للعمل، والبقاء في المنزل، وسوف تُدفع أجورهن بالكامل على الرغم من انهيار الوضع الاقتصادي.

وهكذا أصبحت الطالبان، باستيلائها على كابل ومعظم الأقاليم الأفغانية، وتشكيلها حكومة جديدة، ووفقاً لمعايير القوى المحلية السائدة الآن في أفغانستان، هي القوة الرئيسة الفاعلة على الساحة الأفغانية، ومن ثم وجب عليها أن تضع في اعتبارها مصالح الجوار، خاصة أنها أكثر قوة ونفوذ منها. وتتنافس على النفوذ في أفغانستان عدد من القوى الإقليمية والدولية، ما بين مؤيد ومعادٍ. هذه القوى ـ ولِما أثبتت الأحداث السابقة ـ لها تأثير على مجريات الأمور في أفغانستان.

أثارت هذه الانتصارات حفيظة محور (روسيا ـ الهند ـ إيران)، المواجه لمحور (الولايات المتحدة الأمريكية ـ باكستان) حيث ساد اعتقاد لدى المحور الأول، أن سقوط أفغانستان بأكملها في أيدي حركة الطالبان، يعنى سيطرة باكستان عليها. لذا قدمت هذه الدول الثلاث الدعم لقوات المعارضة. وفي المقابل دعمت إيران وأوزبكستان قوات المعارضة، المتمركزة في الشمال، ونجحوا في استقطاب عبدالمالك البهلواني[1]، الذي سرعان ما انقلب على الطالبان، والحق بهم هزيمة كبيرة في مزار شريف، مما اضطر الطالبان إلى الانسحاب جنوباً، مع ازدياد تقدم قوات المعارضة ونجاحها في السيطرة على الشمال الأفغاني بالكامل. ومن ثم نجح تحالف المعارضة في تشكيل حكومة في مزار شريف، تحت حكم برهان الدين رباني، وبدأت قوات المعارضة الزحف على كابل ليتجدد الصراع حول العاصمة.

وهكذا، وجدت الحركة نفسها تواجه ثلاث جبهات في وقت واحد؛ من الشمال الشرقي تحت قيادة عبدالمالك البهلواني، ومن شمال الوسط تحت قيادة شاه مسعود، ومن الشمال من قِبل الشيعة بقيادة نادري، الأمر الذي أدى بالحركة إلى التراجع إلى وسط البلاد، بعد تكبدها خسائر فادحة. وقد أبرزت هذه الهزائم أن هناك حدوداً، لقدرة الحركة على فرض سيطرتها العسكرية والسياسية، وأن الأطراف المناوئة مازالت تملك بعض عناصر القوة، إن لم تكن كافية للقضاء على الطالبان، فهي على الأقل قادرة على الدفاع عن نفسها، وكافية أيضاً لإزعاج الطالبان وتحديد نفوذها في مناطق الجنوب والوسط.

وكما هو معروف، فإن الطرف الذي يسيطر على العاصمة وعلى مساحة أكبر من الأرض كان دائماً ما يملي شروطه (طالبان حالياً)، ولكن وبعد تراجع الطالبان وخسارتها لمواقع عديدة، نجد أن باكستان تسعى لبدء عملية حوار بين الفصائل المختلفة في ظل سيطرة كاملة على العاصمة بواسطة الطالبان.

وفي ظل تدهور الموقف، ورغبة من الدول، التي لها مصالح في أفغانستان، تقدمت طهران بمبادرة لعقد مؤتمر للحوار. وقد شاركت جميع الفصائل في هذا المؤتمر، عدا الطالبان التي اتهمت إيران بأنها وسيط غير نزيه لأنها قدمت دعماً عسكرياً لتحالف المعارضة. وكان رد إيران على ذلك أن الحركة تتلقى الدعم من الولايات المتحدة الأمريكية وباكستان أيضاً، فلا مبرر لهذا اللوم.

على الرغم من الجهود، التي تبذلها الأمم المتحدة، والقرارات، التي صدرت عن مجلس الأمن، لوضع حد للأزمة الأفغانية، غير أن هذه المبادرات طيلة سنوات الأزمة، لم تؤدّ إلى نتيجة في ظل غياب ضغط الدول الكبرى، على الأطراف المتصارعة.

وتبقى نقطة مهمة أثرت في سلوكيات الحركة، فعلى الرغم من الانتصارات العسكرية، التي حققتها، بدأت تواجه انقسامات وصراعات داخلية، حيث شهدت بداية انقسام بين التيار الديني الأصولي المتشدد، الذي يدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية حسب مفهوم الحركة، ويتخذ هذا التيار من مدينة قندهار مركزاً دينياً وروحياً للحركة، متشبهاً بمدينة قم الإيرانية، والتيار الثاني، الذي يدعو إلى عودة الملك الأفغاني السابق ظاهر شاه، والقبول بقيادته من أجل وحدة البلاد، فهو الذي يستطيع تجميع الفصائل المختلفة، والبعد بها عن تيار الصراع المسلح.

ونتيجة لهذه الصراعات الداخلية انسحب اثنان من كبار قادتها من الحكومة، التي تم تشكيلها بعد الاستيلاء على كابل، وهما: الملا رفيع الله مؤذن، وزير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والملا محمد مير، وزير التجارة. وكان ابتعادهما عن الحياة السياسية لاعتراضهما على القرارات، التي تتخذ بشكل فردي، حيث تُفرض على أعضاء الحكومة دون التشاور معهم، الأمر الذي جعل الوزيرين يتحولان إلى عضوين صوريين. وهكذا فإن الانقسامات والصراعات الداخلية، قد ترسخ تدريجياً مع تطورات الأحداث، إلى أن تنتهي بالانقسام وربما الاقتتال.

إن الرؤية المستقبلية لوضع الطالبان، على ضوء تطورات الأوضاع الحالية، تصور الاحتمالات المستقبلية الآتية:

1. استمرار حكومة الطالبان في الحكم، مع تقديمها بعض التنازلات من أجل تشكيل حكومة وطنية تشترك فيها باقي فصائل المعارضة.

2. نجاح تحالف قوى المعارضة الأفغانية، في الإطاحة بحكومة الطالبان، وتكوين حكومة تشترك فيها أطراف المعارضة كافة.

إلاّ أن الاحتمال الثاني قد يصعب تحقيقه، ذلك أن أهم المؤيدين للحركة هم الولايات المتحدة الأمريكية وباكستان، لذا فلكي يتحقق الاحتمال الثاني، فعلى التحالف الأمريكي ـ الباكستاني أن يتخلى عن دعم الحركة، وهذا لن يحدث. ومن ثم فالاحتمال الأكبر ينحصر في الدعوة لعقد مؤتمر دولي تشارك فيه جميع الفصائل الأفغانية ودول الجوار. وهذا المؤتمر لابد أن يكون تحت الرعاية المباشرة للولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وإشراف الأمم المتحدة، على أن تكون قرارات هذا المؤتمر ملزمة للأطراف المعنية.

إن واقع الأمر يؤكد أن المرحلة الراهنة من تطور النظام العالمي الجديد، تقتضي تزايد الحاجة إلى تدخل الأمم المتحدة في الحروب والنزاعات الداخلية، وإن الممارسات الأخيرة لمجلس الأمن إزاء الحروب الأهلية والصراعات الداخلية تكشف عن حدوث نوع من التطور في المعايير، الواجب توافرها لمباشرة الاختصاص الدولي في هذا الخصوص. فلم تعد الشؤون الداخلية قيدا مانعاً لاختصاص مجلس الأمن في التصدي للصراعات الداخلية، التي يرى فيها مجلس الأمن تهديداً للسلام والأمن الدوليين.

إن تدخل الأمم المتحدة في أفغانستان لا يُعدّ أمرًا غريباً أو غير مقبول، فمنذ انتهاء الحرب الباردة، تلاحظ اتساع عمليات السّلم لتشمل مختلف مناطق العالم، مثل: كمبوديا، والصومال، وأنجولا، والعراق، والصحراء الغربية، وقبرص. وفي كل هذه الحالات، تلاحظ زيادة المساحة في اختصاص مجلس الأمن، ليشمل ما كان محرماً أو محظوراً، حيث اتسع نطاق الأسانيد القانونية، التي يسوقها المجلس في معرض تبريره للتدخل في الشؤون الداخلية للدول التي تجتاحها الحروب الأهلية، والصراعات الداخلية.



[1] عبدالمالك البهلوني: كان المساعد الأيمن لعبدالرشيد دوستم، إلاّ أنه انفصل عنه وانضم لحركة الطالبان.