إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الانتفاضة الفلسطينية (1988)









المبحث الثالث

المبحث الثالث

مراحل الانتفاضة وتطورها

أولاً: مرت الانتفاضة بعدة مراحل:

المرحلة الأولى: بدأت برمي الحجارة في منطقة جباليا، في 8 ديسمبر 1987، وانتهت في يناير 1988.

المرحلة الثانية: استمرت حتى مارس 1988، حيث اتسعت الانتفاضة لتشمل كل المناطق المحتلة، وتستخدم العصيان المدني.

المرحلة الثالثة: منذ نهاية مارس 1988م حتى يونيه 1990، حين بدأت الجهات التنظيمية والاجتماعية والإدارية والسياسية، تقوم بعملها.

المرحلة الرابعة: استمرت حتى دخول السلطة الوطنية في 1994.

في خلال العامين الأولين من الانتفاضة، تولت القيادة الموحدة توظيف آليات شبه سلمية، مثل إنشاء أشكال موازية للمؤسسات الإسرائيلية، في الإدارة والشؤون الحياتية والاجتماعية والاقتصادية. ولم يغب عن الانتفاضة بعض أعمال العنف، لكنها كانت محدودة في البداية، ثم زادت منذ عام 1990م، حيث برزت تسللات الفدائيين عبر الحدود، لتنفيذ عمليات فدائية.

ولم يكن الغرض من كل ذلك القضاء على دولة إسرائيل، كما ادعت بعض القيادات في إسرائيل وقتذاك، بل كانت أهم الأهداف الفلسطينية، من تلك الحركات هو محاولة بناء الدولة الفلسطينية، وممارسة حق تقرير المصير، من جانب، وتهديد الحكم العسكري الإسرائيلي للأراضي المحتلة، وإظهار ثقل تبعة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة، بحيث تصير إسرائيل غير قادرة على تحمل أعبائه النفسية والاقتصادية والسياسية، وصولاً في النهاية إلى الهدف الاسمي وهو إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة، وهو أمر ورد في كل البيانات التي صدرت عن الانتفاضة.

ثانياً: أحداث الانتفاضة

1. الشرارة

في مساء الثلاثاء 8 ديسمبر 1987، وأثناء عودة العمال الفلسطينيين من أعمالهم، في داخل الخط الأخضر "الأرض المحتلة "1948" في السيارات، انحرف سائق يهودي يقود شاحنة متطورة، خارجة من مستوطنة مجاورة لنقطة العبور "إيرز"، بصورة مفاجئة نحو اليسار، باتجاه السيارات، التي تقل هؤلاء العمال، وحطم سيارتين. فسقط ركابها قتلى وجرحى "قتل أربعة وجرح تسعة آخرون". وكان جوار الحادث سيارة ذات لوحة صفراء، شبيهة بسيارات المخابرات، فركبها سائق المقطورة وانطلقت به". وهذا يدل على أن الحادث متعمد ومخطط له. ويزيد هذا الرأي تأكيداً، أن مؤلفي كتاب "انتفاضة" الإسرائيليين قالا: "راجت إشاعات مفادها أن هذا الحادث لم يكن حادث طرق طارئاً، بل هو عمل انتقامي مدبر، وأن السائق هو قريب الإسرائيلي، الذي طعن قبل يومين، فأُردي قتيلاً في السوق المركزية لمدينة غزة. وقد صدر منشور، يبدو أنه طبع على آلة كاتبة بأيدي طلبة الكلية الإسلامية في غزة، يستنكر حادث قتل الفلسطينيين الأربعة". وكان يهودياً من مستعمرة بيت يام قد طعن فعلاً في ساحة التاكسيات "ميدان فلسطين" في غزة، قبيل العصر من يوم الأحد 6 ديسمبر 1987. واحتجزت قوة من الجيش الإسرائيلي حوالي خمسمائة شخص، أُطلق سراحهم بعد قليل، وطوقت المنطقة، ثم أُنهي الطوق يوم الثلاثاء السادسة مساء، قبل وقوع حادث الصدّم".

ومما يدل على تواطؤ المخابرات مع السائق، ما يقوله زئيف شيف: "وبالمناسبة، فإن محاكمة السائق لم تبدأ إلا بعد عشرين شهراً!! من وقوع الحادث، ولكن لم يبق لهذه المحاكمة أهمية عند الرأي العام".

وفي مخيم جباليا القريب من مكان الحادث، وكان ثلاثة من القتلى من أهالي المخيم، اشتعلت نيران الغضب، أثناء تشييع الشهداء في جنازة ضخمة بهتافات: "لا إله إلا الله.." وبعد الدّفن، اشتبك المشيعون مع قوات الاحتلال بالحجارة والعصي والقنابل الحارقة. فمنع العدو التجول، واستمر هذا الهجوم حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً.

وفي اليوم التالي، الأربعاء 9 ديسمبر 1987، ولدت الانتفاضة. وبدأت المدن والمخيمات في القطاع تغلي، وتشتعل بالثورة. ولأهمية هذه الأيام الأولى من الانتفاضة، فقد سّجل كتاب "الانتفاضة" لنسان دوغر، أحداث الشهر الأول يوماً فيوماً، وساعة فساعة، وقد جاء فيما سجله، ما يلي:

أ. الأربعاء 9 ديسمبر 1987

بدأت التظاهرات العارمة بعد صلاة الفجر، من مسجد مخيم جباليا. واتجه المصلّون إلى مقر الحاكم العسكري وانضم إليهم آخرون. فسارعت القوات الإسرائيلية إلى محاصرة المتظاهرين، الذي واجهوا الرصاص والقنابل المسيلة للدموع، بالحجارة وقنابل البنزين الحارقة. وسقط الشهيد حاتم أبو سيس وأصيب سبعة وعشرون بجراح. واشتعلت النيران بسيارة جيب إسرائيلية. ثم خرجت الجنازة من بيت الشهيد. وسيطر الطلاب في الجامعة الإسلامية على بدالة الهاتف في الجامعة، وأخذوا يتصلون بكل جهة في القطاع؛ لتنادي عبر مكبرات الصوت في المساجد بصوت "الله أكبر"، لتكون إشارة البدء في الانتفاضة. واحتل الطلاب "مستشفى الشفاء"، ودارت معارك بين الطلاب. وقوات العدو حتى ساعات بعد الظهر. وجرت اعتقالات للعشرات من الطلاب وقد استشهد أحد الطلاب "رائد شحادة"، كما حطمت سيارة عسكرية، وأحرقت أخرى.

أما في الشجاعية، فقد أغلق الشباب الإسلامي الطرق، ومنعوا سيارات العمال من التوجه إلى المستعمرات الإسرائيلية، فرجع 90% من العمال.

وفي رفح ظهرت المتاريس في كثير من الشوارع، كما أغلقت المحلات التجارية أبوابها، وامتنع بعض العمال عن الذهاب إلى أعمالهم، وتحركت مظاهرة باتجاه السّلك الحدودي مع مصر.

ب. الخميس 10 ديسمبر 1987

استمرت المظاهرات في مخيم جباليا. وفي حي الزيتون بغزة، انطلقت الأحداث من المساجد، ورشُقت قوات العدو بالحجارة والزجاجات الحارقة. وشهدت ساحة فانديوتس اشتباكاً عنيفاً، فسقط خمسة جرحى، وجرح جندي إسرائيلي واشتعلت النيران في أربع سيارات إسرائيلية.

وانتقلت في هذا اليوم الأعمال الجهادية إلى الضفة الغربية، وكانت مدينة نابلس هي السباقة في تلبية النداء، فخرجت مظاهرة حاشدة من البلدة القديمة، التقت مع مظاهرات طلابية أخرى، ووقعت اشتباكات مع القوات الإسرائيلية، مما أدى إلى استشهاد الشاب إبراهيم العكيك، وإصابة آخرين بجراح. كما أصيب ضابط إسرائيلي. وخطفت قوة إسرائيلية جثة الشهيد من منزله، ودفنته بحضور عدد قليل.

أما في مخيم بلادة، فقد خرج المواطنون إلى الشوارع، واشتبكوا مع القوات الإسرائيلية، وخلال مطاردة جندي إسرائيلي لأحد الشباب، اعترضته المجاهدة وعلا مصطفى سلامة، وحاولت طعنه بسكين، إلا أن جنوداً آخرين أطلقوا عليها الرصاص، فأصيبت ونقلت مع ثلاثة جرحى آخرين إلى المستشفى، وكانت بذلك أول جريحة في الانتفاضة.

وفي مخيم فلنديا تظاهر طلبة مركز التدريب المهني، وتحصنوا داخل أسوار المركز، وأخذوا يقذفون الحجارة على السيارات العسكرية الإسرائيلية، فأصابوا ستة جنود. فتدفقت قوات الشرطة وحرس الحدود واقتحموا المركز، مما أدى إلى إصابة خمسة وعشرين طالباً.

ج. الجمعة 11 ديسمبر 1987

كان هذا اليوم متميزاً في تاريخ الانتفاضة. فقد خرجت بعد صلاة الجمعة مظاهرة من مسجد الخلفاء، يقودها الشباب المسلم، بشعارات الإخوان المسلمين المعروفة. والتقت مع مظاهرة أخرى قادمة من مسجد القطاوطة. والتحمت التظاهرتان بالجيش الإسرائيلي. ووصلت مسيرة ثالثة من مسجد القسّام. واستمرت الاشتباكات بين كر وفر حتى المساء. واعتقلت السلطة الإسرائيلية الرجال ما بين 16ـ65 سنة، مستترة بالظلام.

وفي غزة، استمرت المظاهرات العنيفة في حي الشجاعة، وأصيب ثلاثة جرحى، وأحرقت سيارة عند حاجز إيرز، وسيارة تابعة للشرطة في بيت لاهية.

أما في رفح ومخيم البريج، فقد تجمّع المتظاهرون بعد صلاة العصر وأغلقوا الشارع الرئيسي في المخيم، ورشقوا السيارات في رفح، وأضرموا النار في حي إسرائيلي، وألقوا زجاجات حارقة على شاحنة عسكرية، وعلى سيارتين للشرطة.

وفي خان يونس، اشتبك المتظاهرون مع القوات الإسرائيلية، واستشهد الصبي المجاهد وحيد إبراهيم أبو سالم (11 سنة)، ومنعت القوات الإسرائيلية تشييعه ودفنته تحت حراسة مشددة. أما مخيم بلادة، فقد تعرض لمجزرة رهيبة، عندما اقتحمت قوات إسرائيلية، كبيرة العدد، مسجد المخيم واعتقلت الشباب وانهالت عليهم بالضرب المبرح. فخرج الأهالي في تظاهرة لتخليص الشباب، ووقعت صدامات، مما أدى إلى استشهاد أربعة من المجاهدين والمجاهدات، وإصابة أحد عشر بجراح.

وفي نابلس، خرج المصلون، بعد أن انطلقت مع الآذان آيات القرآن، في تظاهرات صاخبة، أوقفت حركة السّير ورفعت الأعلام السوداء. وعندما وصل المصابون من مخيم بلاطة، إلى المستشفى في نابلس، تدفق الرِّجال للتبرع بالدم والاطمئنان على المصابين. فاقتحمت القوات الإسرائيلية المستشفى، وجرى اشتباك تحطمت خلاله ثلاث سيارات عسكرية، وأُصيب ثلاثة جنود، وست وثلاثين مجاهداً، وتمكن المجاهدون من استعادة جثث الشهداء الأربعة، بعد أن احتجزتها القوات الإسرائيلية، وأعيدت الجثث إلى مخيم بلاطة.

وامتدت المواجهات إلى مخيمات عسكر، الجديد والقديم، وعين بيت الما، وقرية بيت قوريك، ومخيم نور شمس، حيث أحرق المتظاهرون سيارة جيب، وحافلة في بيت حنينا.

وفي القدس، خرجت مظاهرات عقب صلاة الجمعة من المسجد الأقصى المبارك، احتجاجاً على المجزر في غزة ونابلس، ودُمرت سيارة عسكرية في حي النبي يعقوب.

د. السبت 12 ديسمبر 1987

بلغت الانتفاضة في هذا اليوم أوجها. فقد شملت جميع المدن والقرى والمخيمات، استجابة لنداء حركة المقاومة الإسلامية، الذي وزّع في القطاع صباح ذلك اليوم. كما تحدى الشّباب نظام منع التجول في مخيم جباليا، وخرجوا يهتفون ضد اليهود. ومن بيت لاهيا، خرجت مظاهرة نسائية توجهت إلى مخيم جباليا المحاصر، متحدية الطوق، والنساء يحملن المؤن والغذاء، وقمن بتوزيع المؤن، على سكان المخيم.

واعترف الناطق العسكري الإسرائيلي، أنّ أعنف المواجهات وقعت في خان يونس ورفح والمعسكرات الوسطى، وحول مستشفى الشفاء. فقد تجمّع الشباب في مساجد خان يونس، وكانت مكبرات مسجد بلال تُذيع الأناشيد الإسلامية، والشباب ملثمون في الشوارع. ولجأت القوات إلى محاصرة المسجد واقتحامه، وتعالت الهتافات من مكبرات المسجد، فخرجت كل خان يونس، رجالاً ونساء وأطفال، وتجمهرت عند المسجد، واشتبكت مع الجنود، مما اضطرهم إلى الانسحاب. وطافت المسيرة الحاشدة شوارع المدينة، تردد الشّعارات الإسلامية والوطنية، واستمرت حتى الواحدة ظهراً،. واكتشف بعض المتظاهرين عميلاً إسرائيلياً، وآخر في المستشفى، فأشبعوهما ضرباً، وكسّروا زجاج عدة سيارات المستوطنين وحرقوا سيارة عسكرية، وأصابوا اثنين من جنودها.

وفي رفح أغلق المتظاهرون الشوارع، واشتبكوا مع قوات الاحتلال، مما أدى إلى حدوث إصابات. ثم اعتقل تسعون شاباً، ومع ذلك استمرت حالة الغليان.

وفي غزة، حاولت القوات الإسرائيلية اقتحام مستشفى الشفاء، ولم تفلح. فوضعت الحواجز حول المستشفى، لمنع الجرحى من الوصول إليه. وفي حي الدرج، تحرك الشّباب واصطدموا بالجيش الإسرائيلي. وعلت النداءات من مكبرات الصوت في مساجد المنطقة، تدعو إلى التبرع بالدم؛ لأن المستشفى الأهلي العربي غُصّ بالجرحى من مختلف المناطق. وعلقت الدراسة، وأغلقت المحلات التجارية أبوابها في حي النّصر، والشيخ رضوان، وشارع عمر المختار. وتركزت المواجهات حول المساجد الرئيسة الثلاثة، وتظاهر طلاب المدارس في الشجاعية، وأغلقوا الشوارع ورفعوا الأعلام الفلسطينية. وأغلقت طالبات مدرسة الزهراء الثانوية الشارع، ورشقن السيارات العسكرية الإسرائيلية بالحجارة.

وفي مخيم البريج، هاجم القوات ومنعوها من دخول المخيم. وأُغلقت المحلات التجارية والمدارس. وفي مخيمي الشعيرات والمغازي، تظاهر الطلاب وأغلقوا الشوارع، ورشقوا حافلة إسرائيلية. وكذلك تظاهر الناس في دير البلح ومخيم الشاطئ.

ولم تكن المواجهات في الضفة الغربية، أقل عنفاً من معارك القطاع. فقد شهدت نابلس ورام الله والخليل والقدس، إضراباً تجارياً شاملاً، على الرغم من تهديد الجيش الإسرائيلي باستخدام لحام الأوكسجين، لإغلاق المحلات المضربة. ولكن لم يستجب أحدٌ لهذه التهديدات.

وتحولت أزمة المخيمات "بلاطة والفارعة وعسكر وعين بيت إلما"، إلى مظاهرات صاخبة، واشتباكات عنيفة مع الجيش. وفرض الجيش منع التجول على نابلس القديمة، بعد هجوم شنه أحد المجاهدين مستخدماً بلطة، فأصاب ثلاث جنود بجراح، لكنه جُرح برصاص الجيش في بطنه وصدره وساقه. وتظاهر طلاب المدرسة الصناعية، وأهالي بيت قوريك. وفي مدينة الخليل، وقعت اشتباكات عنيفة في الجامعة الإسلامية، بين الطلبة والجنود، ثم أضربت المدينة، وانطلقت مظاهرة في حارة الشيخ. وأصدرت السلطات الإسرائيلية أمراً بإغلاق مدرسة "رابطة الجامعيين الثانوية" لمدة شهر، في أعقاب مظاهرة طلاب المدرسة.أما مدينة القدس، فشهدت إضراباً تجارياً شاملاً، وتظاهر طلبة الكلية الإبراهيمية، وأقاموا حواجز في الطريق الرئيسي ورشقوا اليهود بالحجارة.

وفي رام الله، أُغلقت المحلات التجارية، وأغلق المجاهدون الطُرق، وجابت تظاهرات طلاب وطالبات معاهد المعلمين، وكلية التمريض، الشوارع، ورشقت القوات بالحجارة والزجاجات.

وهكذا استمرت التظاهرات والاشتباكات والإضرابات، في المدن والمخيمات والقرى، تخبوا هنا وتشتد هناك، ويسقط قتلى وجرحى أسبوعاً بعد أسبوع، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، حتى توقفت الانتفاضة عند دخول السلطة الوطنية في مايو 1994.

2. مفاجأة إسرائيل بالانتفاضة

كانت الانتفاضة، بهذا العمق والاتساع المكاني والاستمرار الزماني، مفاجأة لإسرائيل، لا في المجال التكتيكي، أو المجالات الهامشية، بل "إن الفلسطينيين فاجأوا إسرائيل بفتحهم جبهة جديدة ضدها، جبهة ثالثة، بعد أن كانت إسرائيل تدرك أن عليها أن تواجه جبهتين: جبهة الحرب النظامية لجيوش مقاتلة، وجبهة الإرهاب "العمليات الفدائية"، وعن طريق الانتفاضة، فتح الفلسطينيون في المناطق المحتلة جبهة جديدة "عنف مدني شعبي"، ولم يكن الجيش الإسرائيلي على استعداد لذلك، لا بالنسبة إلى تنظيمه وانتشاره وأساليب عمله فحسب، بل لم تكن لديه التجهيزات الملائمة لمواجهة هذه الجبهة أيضاً، وقد انكشفت إسرائيل بضعفها، بغتة، في الخارج، ولسكانها على حد سواء".

وصحيح أن الحكم العسكري الإسرائيلي خبر، من قِبل، موجات من "الإخلال بالنظام"، يقوم بها التلاميذ والشباب، ولكن المفاجأة كانت في شمول جميع الفئات من السكان: شباباً وشيباً نساء وأولاداً وشيوخاً، قرويين ومدنيين، متدينين وعلمانيين، فالفئات الإسلامية.. أصبحت الآن الرائدة والموجهة للانتفاضة في قطاع غزة.. ".

ويرى بعض الإسرائيليين، أن "المفاجأة التي أصيبت بها إسرائيل من اندلاع الانتفاضة، كانت أعنف من مفاجأتها بحرب أكتوبر.. فإسرائيل لم تستطع عام 1987 ملاحظة ما يجري "داخل بيتها" وفي غرفة نومها، وفشلت زعامتها واستخباراتها في فهم التطور المستمر، الذي كان يجري في المجتمع الفلسطيني". ويناقش زئيف شيف، مؤلف كتاب "انتفاضة"، وزير الدفاع في ذلك الحين، إسحاق رابين، الذي كان يمتعض من مقارنة أحداث الانتفاضة بمفاجأة حرب أكتوبر، التي قُتل فيها ثلاثة آلاف إسرائيلي، فيقول في الرد عليه: "ليس كل فشل يقاس بعدد القتلى"، فقد انكسرت هيبة الجيش الإسرائيلي، وأصبح آلاف الشباب والأطفال يتحدونه، ويوجهون إليه الإهانات.

وسواء فوجئت إسرائيل أو لم تفاجأ، فإن الحقيقة الناصعة أن الجماهير الفلسطينية التي هبت في وجه الحكم الإسرائيلي قد ضاقت ذرعاً بالاحتلال، وأرادت أن تختط طريقاً جديداً واسعاً للاشتباك معه في الداخل، بعد أن لحق الضمور العمليات الخارجية، أو عبر الحدود. وانطلقت الانتفاضة وامتدت عبر المكان، من المخيمات إلى المدن والقرى، ومن القطاع إلى الضفة، وعمّت كل فئات المجتمع الفلسطيني، وكل تنظيماته. فلم تبق قرية ولا مخيم ولا حي، في طول البلاد وعرضها، لم تشارك في الانتفاضة، أو لم تقدم الشهداء والجرحى والمعتقلين. وامتدت عبر الزمان، فلم تتوقف بعد أسبوع أو شهر، أو سنة. وكان بعض الشباب المشاركين في الانتفاضة، يأملون ـ في أيامها الأولى ـ أن تستمر أكثر من ستة أشهر، لتكون أطول من الإضراب المشهور، الذي شهدته فلسطين عام 1936، وامتد ستة أشهر. وحسب رأي زئيف شيف، في كتابه "انتفاضة"، فقد قدر زعماء منظمة التحرير في نهاية شهر يناير 1988، أن اندفاع الانتفاضة آخذ في التراجع. محمود عباس "أبو مازن"، المسؤول عن الشؤون الإسرائيلية، تنبأ علانية بأن الانتفاضة ستستمر ما بين شهرين وثلاثة أشهر، وتتوقف، ثم تعود مرة ثانية للاندلاع من جديد، بعد مضي سنة أو سنتين. ولم يكن أبو مازن يعرف أن معظم الخبراء الإسرائيليين، كانوا يعتقدون مثله".

ولكن خاب ظن هؤلاء الخبراء وتقديراتهم، وتجاوزت الانتفاضة توقعات أبي مازن. فقد استمرت، من غير توقف سنتين. وما وصلت إلى نهاية شهرها الرابع، حتى كان عدد الشهداء قد تجاوز 227 شهيداً وحُرق وحُطم حوالي 370 سيارة وآلية إسرائيلية. (اُنظر جدول المنازل التي هدمتها القوات الإسرائيلية، حتى تاريخ 7/4/1988) و (جدول السيارات التي حطمها المتظاهرون، منذ 2/12/1987 حتى 7/4/1988) و (جدول السيارات الإسرائيلية، التي أحرقت خلال الأربعة الأشهر الأولى) و (جدول الشهداء حسب الفئات العمرية) و (جدول الشهداء حسب ظروف الاستشهاد) و (جدول الشهداء حسب البلد)

وتواصلت الانتفاضة بعد ذلك، تخف حيناً لتشتد آخر، وقد تهدأ في مكان لتنشط في آخر. وقد يلتقط المجاهدون أنفاسهم، ليأخذوا فترة راحة يطورون فيها أساليبهم ووسائلهم. لذلك مرت الانتفاضة في ثلاث مراحل متداخلة، ولكن يغلب على كل مرحلة فيها اتجاه معين، أو أسلوب محدد، وقد تطول كل مرحلة أو تقصر، من غير تقيد بزمن محدد، وهو أمر ما لا يمكن تخطيطه وتنفيذه، حسب دراسة وتخطيط، لإحداث ثورة شعبية، تتوزع على عشرات المدن والمخيمات ومئات القرى، مع تعدد المنظمات، التي تشارك فيها. وهذه المراحل هي:

أ. المرحلة الأولى

هي مرحلة المواجهة الجماهيرية الشّاملة، حيث الإضرابات العامة، والتظاهرات العارمة المنظمة، والاشتباك مع جنود الاحتلال، برجمهم بالحجارة، وقذفهم بالزّجاجات الحارقة، وزرع المسامير في طريق سياراتهم، وخرق منع التِّجول. وفيها أيضاً تمت تعبئة المجتمع الفلسطيني كله، للقيام بهذا المجهود. وقد تميزت هذه المرحلة ببعض التدابير، الهادفة إلى إلحاق الخسائر الاقتصادية بالاحتلال الإسرائيلي. فقد أعلن الشّعب الفلسطيني مقاطعة انتقائية للسلع الإسرائيلية، التي يوجد لها بدائل محلية، اعتباراً من مايو 1988. كما حض قادة الانتفاضة المواطنين على عدم دفع الضرائب للاحتلال، ودعوا التجار إلى خفض مشترياتهم من السوق الإسرائيلية. ثم امتدت المقاطعة إلى جهاز الحكم والإدارة المدنية والبلديات والمجالس، التي يديرها إسرائيليون.

ب. المرحلة الثانية

كانت هذه المرحلة مرحلة المواجهة الجماهيرية، مع تنامي التكتيكات الموازية، هي من جانب الكوادر التنظيمية للفصائل الفلسطينية العاملة في الانتفاضة. وركزت على ضرورة الاعتماد على الذات، وبناء المؤسسات الوطنية، حيث تزامنت الدعوة إلى مقاطعة الإدارة المدنية، واستقالة الموظفين الفلسطينيين في دوائر الاحتلال، مع مضاعفة المساعي لتطوير أساليب جديدة لملء الفراغ المؤسساتي، الذي سينتج عن ذلك، في إدارة الشؤون المدنية للشعب الفلسطيني.

ج. المرحلة الثالثة

اتسمت هذه المرحلة بتراجع النشاطات الجماهيرية، وتنامي العمليات المسلحة من قبل التنظيمات الفلسطينية، حيث بدأ هذا النوع من المواجهة بالتصاعد المنظم، منذ أوائل عام 1992، في ظل التراجع الجماهيري مع فعاليات الانتفاضة، بعد انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، بحضور ممثلين فلسطينيين، وموافقة منظمة التحرير، ودول المواجهة العربية.

وقد بدأ هذا التراجع منذ أوائل عام 1991، بسبب انشغال العرب بحرب الكويت وكثرة الأعمال الوحشية في قمع الانتفاضة، واعتقال الآلاف من العناصر النشيطة في الانتفاضة. ولكن العمليات النوعية التي كانت تنفذ بين حين وآخر، ظلت تحرك الجماهير، وتبقى جذوة الانتفاضة متوهجة. فقد شهدت هذه المرحلة عمليات متطورة، هزّت الكيان الإسرائيلي هزاً عنيفاً، وشغلت النظام الدولي. وعاشت الضّفة والقطاع، أجواء حرب حقيقية في أعقاب سلسة العمليات، التي نفذتها حماس في الذكرى الخامسة لانطلاق الانتفاضة. واتخذت إسرائيل قرارات بإبعاد جماعي للمسؤولين في حركة حماس. فغادرت الأراضي المحتلة في 17 ديسمبر 1992 ثماني حافلات، تقل 415 معتقلاً من حماس والجهاد الإسلامي، متجهة إلى لبنان. وألقت بهم عبر الحدود، في مكن نال شهرة بعد ذلك، هو "مرج الزهور"، حيث أصر المبعدون على البقاء فيه، قريباً من الحدود. ودخلت قضية إبعادهم المحافل الدولية، وناقشها مجلس الأمن الدولي، واستعملت أمريكا حق النقض "الفيتو"، بعد أن أعلنت إسرائيل أنها توافق على إعادتهم بعد سنة.

وقد أثر هذا الإبعاد على الأحداث، خلافاً لما توقعت إسرائيل وخططت له. فقد كان إبعادهم مدعاة إلى تصاعد العمليات الاستشهادية، والمواجهات المسلحة، التي نفّذها المجاهدون من كتائب القسّام والجهاد الإسلامي.

وكانت التضحيات، التي قدمتها الجماهير المنتفضة، كبيرة. وظلت الانتفاضة في الاستمرار، وتقديم الشهداء والجرحى والمعتقلين. حتى وصل عدد الشهداء نهاية يونيه 1994 نحواً من 1392 شهيداً، منهم 353 طفلاً. وإذا كان عدد الشهداء قد قل في النصف الثاني من عمر الانتفاضة، فقد بقى شلال الدم متدفقاً.(اُنظر جدول الشهداء الفلسطينيون حسب أسباب القتل، والطرف المتسبب فيها، ونسبة الأطفال منهم (9 ديسمبر 1987 ـ 31 يونيه 1994)) و(جدول ملخص انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة (ديسمبر 1987 ـ مايو 1994))