إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / العدوان الثلاثي، حرب عام 1956





مسرح الشرق الأوسط
مسرح عمليات حرب العدوان
معركة أم قطف
معركة ممر متلا
معركة رفح
خطة موسكتير المعدلة
خطة موسكتير المعدلة النهائية
خطة الآلاي الثاني

مراحل الهجوم الإسرائيلي
الهجوم على شرم الشيخ
توزيع القوات المصرية



المبحث الثالث

المبحث الثالث

تأميم قناة السويس

أولاً: مقدمات العدوان

مع بداية عام 1956 وقعت عدة أحداث، كانت تنبئ أن عدواناً ثلاثياً قد يحدث في شهر مارس، أي قبل تأميم قناة السويس بأربعة أشهر، ولقد زادت درجة التوتر لدى المسؤولين في بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ووصل ذروته نتيجة عدة أحداث كان لكل منها أثره على إحدى أو كل هذه الدول، وأهم تلك الأحداث:

طرد "جلوب" من الأردن: نظراً لتطور الأحداث في الأردن تولى الجنرال "جون باجوت جلوب" مسؤولية قمع الفتنة في الأردن، ولكن الملك حسين وجد نفسه أمام ضغط شديد من الضباط الأحرار في الجيش الأردني، ومن جانب المعارضة فأصدر مرسوماً بإقالة "جلوب" في 2 مارس 1956، الذي خدم في الأردن لمدة 17عاماً، من منصبه كرئيس هيئة أركان حرب الفيلق العربي الأردني والذي خاض به حرب 1948. ولقد أصيب الإنجليز بالدهشة لتطور الأحداث وطرد "جلوب" ولقد أرسل "إيدن" برسالة إلى الملك "حسين" لكي يعيد النظر في قراره ولكنه لم يكن باستطاعته أن يتراجع إزاء موقف الضباط ورغبة الشعب الأردني في طرده حيث إنهم لم ينسوا ما قيل عن تواطؤه مع اليهود في حرب 1948. وظنت بريطانيا أن "عبدالناصر" هو المحرك لكل هذه الأحداث، وقال "إيدن" إن "عبدالناصر" هو عدونا الأول في الشرق الأوسط ولن يستريح حتى يقضي على كل أصدقائنا وعلى كل نفوذنا في المنطقة.

جاء "كريسيان بينو ـ Christian Pineeau " وزير خارجية فرنسا إلى القاهرة في منتصف شهر مارس ليقنع"عبدالناصر" بالتوقف عن تأييد الثورة الجزائرية مقابل تأييد فرنسا للعرب في سياستهم، وكان رد "عبدالناصر" عليه هو "أن تتخلى مصر عن الوطنيين والجزائريين يعني أن أتخلى عن قوميتي العربية". وغادر "بينو" القاهرة وهو يكن حقداً دفيناً، ويريد في قرارة نفسه أن يتخلص من عبدالناصر.

وفي خلال شهر مارس أيضاً وبعد فشل سياسة إسرائيل في تحقيق أمنها القومي بالغارات الانتقامية تحولت إسرائيل إلى إستراتيجية الحرب الوقائية ضد مصر وطورت إسرائيل خططها العدوانية إلى أن تحين الظروف المناسبة.

المشكلة بالنسبة لإسرائيل هي كيف تثير هذه الحرب وأن تبرر في الوقت نفسه موقفها في نظر الرأي العام العالمي. هل ترسل جيشها لانتزاع الطرف الجنوبي لشبه جزيرة سيناء؟ أم هل تهاجم منطقة قناة السويس؟ ولكن هذا يعني الهجوم على بريطانيا التي ترابط قواتها في هذه المنطقة، أم هل تهاجم الأردن؟ وفي هذه الحالة قد تتدخل سورية ومصر ثم ترد إسرائيل وتهاجم مصر حتى يسقط "عبدالناصر".

والواقع أن شهر مارس قد مر، ولم يحدث شئ لأن القوات البريطانية كانت لا تزال ترابط في منطقة القناة ولن تغادرها إلا في شهر يونيه، ووجودها يمثل الحامي أو الحكم وتريد أن تبين لمصر أن التواجد البريطاني في منطقة القناة ضروري لحمايتها من الذئب الإسرائيلي.

ثانياً: تأميم قناة السويس (أُنظر ملحق قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 285 لسنة 1956 بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية)

لقد ظهر مبكراً اهتمام حكومة الثورة بقناة السويس، ففي أعقاب توقيع اتفاقية الجلاء،  كُلفت إدارة التعبئة العامة بالقوات المسلحة بالعمل للحصول على البيانات اللازمة والمعلومات الكافية عن نشاط الشركة وإيراداتها. وفي الخطبة التي ألقاها عبدالناصر 17 نوفمبر 1954 أشار إلى الفترة المتبقية من عمر الامتياز (أُنظر ملحق خطبة الرئيس جمال عبد الناصر الذي ألقاها في الأزهر يوم 2 نوفمبر سنة 1956). وكيف ستكون فترة تحضير حتى يكون المصريون على أتم استعداد لإدارة القناة بعد تسلمها من الشركة، وقد أشار الرئيس اليوغسلافي "تيتو" أنه في اجتماعه مع "عبدالناصر" في هذا التوقيت، وبينما كانا على يخت في القناة، حدث "عبدالناصر" ضيفه مصرحاً بأنه مادامت مصر قد أصبحت مستقلة، فلن يسمح بإدارة أجنبية على أرض وطنه وانه سيؤمم شركة القناة، وفي خطبة له 12 أغسطس 1956 أعلن أنه فكر في تمصير القناة من قبل عامين ونصف.

أثناء لقاء عبدالناصر مع وزير الخارجية البريطاني "سلوين لويد" في أول مارس 1956، تطرق الحديث إلى أهمية قناة السويس، وذكر" لويد" أن بريطانيا تعدها جزءاً من مجمع بترول الشرق الأوسط، فبين "عبدالناصر" أن الدول العربية تتقاضى 50 % من أرباح البترول، في حين لا تتقاضى مصر سوى 5 % من أرباح القناة، وأن المفروض أن تعامل مصر معاملة الدول المنتجة للبترول.

مثلت القناة أهمية كبرى على الساحة الدولية، وقد ذكر رئيس مجلس إدارة شركة قناة السويس تعبيراً تردد كثيراً في خطابات "إيدن" إذ قال "القناة هي وريد الدورة الدموية للبترول في العالم". وتعد بريطانيا من أكثر الدول انتفاعاً بالقناة، فثلث السفن المارة بها هي سفنها، وبلغ البترول الذي ينقل إليها 20 مليون طن عام 1955، بالإضافة إلى تجارتها مع الشرق الأوسط التي مثلت 25% من حجم تجارتها، كل ذلك يتم عبر القناة. وبجوار الأهمية الاقتصادية، هناك الأهمية الإستراتيجية للقناة، فهي طريق بريطانيا لدول الكومنولث ويمر بالقناة ستون ألف جندي بريطاني. أيضا كانت بريطانيا صاحبة أكبر حصة في القناة بما تملكه من أسهم إذ بلغت 44% من إجمالي الأسهم. من أجل ذلك كانت لندن تخشى على القناة من عبدالناصر.

يذكر "ناتنج" أنه أثناء مفاوضات السد العالي، ولما وجد عبدالناصر المماطلة في الرد على اقتراحاته بشأن شروط البنك الدولي، أفضى إلى سفير مصر في واشنطن الدكتور" أحمد حسين" بأنه إذا عدل الأمريكيون عن تعهداتهم في عرض التمويل، فإنه سوف يحصل على النقد الأجنبي اللازم لبناء السد العالي بتأميم شركة قناة السويس وتحويل عائدها الضخم إلى الخزينة المصرية.

وهكذا يتبين أن "عبدالناصر" قد عقد العزم على اتخاذ خطوة التأميم كجزء متمم لإسدال الستار على النفوذ الأجنبي الذي عانت مصر منه طويلاً.

ثالثاً: تقدير عبدالناصر للآثار والعواقب

يقول "هيكل" في كتابه ملفات السويس "أجرى عبدالناصر حساباته وبنى تقديراته للآثار والعواقب بدقة وبصيرة. وقد استعاد دوره كضابط أركان حرب وكتب كل شيء على الورق كما يلي:الهدف : تأميم شركة قناة السويس، وهذا يحقق إمكانية تمويل السد العالي كما أن التأميم يلبي حقاً مصرياً يراود أحلام المصريين وهو أيضاً يؤكد الاستقلال المصري الكامل بما فيه استقلال الإرادة السياسية كما يضيف أهمية القناة إلى أرصدة مصر الإستراتيجية.

تقدير الموقف : قرار التأميم سوف يؤدي إلى تعبئة جماهير الشعب المصري وجماهير الأمة العربية حوله ويلهم الجميع بمعنى الاعتماد على النفس. وتأميم شركة القناة أيضاً سوف يكون رداً كاملاً على سياسة الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وسوف يبين لهم أننا قادرون على الحركة متحملون لمسئولياتها وأنهم لا يستطيعون بعد الآن أن يقرروا مصائرنا فضلاً عن قيامهم بتوجيه الإهانات لنا. لكن الغرب لن يسكت وسوف يواجهنا بالتهديدات وبحملة سياسية ونفسية ضارية، وفي الغالب فإننا سنواجه بتهديدات عسكرية يمكن أن تتحول إلى حرب بالفعل ما لم نستعمل كل إمكانياتنا بحذر وحرص...".

وكان رأي عبدالناصر أن احتمال التدخل العسكري هو ما يجب أن نحوط له ونتفاداه بكل وسيلة إلا التراجع عن تأميم القناة إذا أُتخذ القرار نهائياً وأعلن. وقد استعرض موقف كل الأطراف المعادية لمصر وأيهم يمكن أن يصل به رد الفعل إلى حد الحرب المسلحة. وقدر أن الجميع نظرياً سوف يفكرون في التدخل العسكري كرد فعل أولي لكن أطرافاً عديدة بينهم سوف تعيد التفكير وتترد:

1. الولايات المتحدة الأمريكية، سوف تترد في الغالب لأن تدخلها العسكري ضد دولة صغيرة مثل مصر يعتبر إفلاساً سياسياً كما أنه سيؤدي إلى إحراجها بشدة أمام أطراف عربية صديقة لها في المنطقة وبالذات السعودية.

2. فرنسا، لا تستطيع أن تتدخل بمفردها فهي مشغولة بحرب الجزائر ووضعها العالمي كله خصوصاً بعد هزيمتها في الهند الصينية لا يمكنها من عمل مسلح حاسم ضد مصر.

3. إسرائيل، قد تفكر في التدخل عسكرياً ولكنها لا تستطيع أن تتخذ من تأميم شركة ذريعة لشن الحرب. ثم أن تدخل إسرائيل عملياً ضد مصر سوف يجعلها حرباً ضد الأمة العربية كلها وهذا يفرض على أمريكا محاولة "فرملة" إسرائيل. ثم أن إسرائيل من مصلحتها أن تنتظر لكي ترى صراع مصر مع الغرب كله يشتد ويعنف.

4. وأخيراً، فإن بريطانيا، هي الطرف الذي يخشى من تدخله فعلاً ومن هنا فإن الموقف البريطاني هو مفتاح الموضوع كله. إذن كيف يمكن أن تتصرف بريطانيا وكيف يمكن أن يتصرف "إيدن" ؟.

كان تقدير عبدالناصر أن إيدن في موقف ضعيف، والضعف هو الذي سيغريه بالعنف، ثم أن منطقة الشرق الأوسط كانت هي المنطقة التي يعتبر إيدن نفسه خبيراً بشئونها وكان طموحه أن يقوم هو بترتيبها. كان "إيدن" يعتبر أن عدوه الرئيسي في المنطقة هو عبدالناصر، فهو في حالة تعبئة نفسية ضد مصر وضده شخصياً حتى الذروة. وخطوة مثل تأميم قناة السويس سوف تكون القشة التي تقصم ظهر البعير وسوف يكون إيدن تحت ضغوط نفسية من الداخل وضغوط سياسية من حزبه ومن الرأي العام البريطاني تدفعه كلها للعمل المسلح ضد مصر خصوصاً وأن الجو الدولي العام الذي يمكن أن تصنعه دعاياته حول تأميم قناة السويس سوف يعطيه الأرضية الصالحة للتدخل المسلح.

وكان تقديره أيضاً أن هذا الجو الدولي العام نفسه هو الذي يتحتم على مصر أن تستغله وتستفيد منه لتفويت فرصة التدخل العسكري على الذين يفكرون فيه. وكان رأيه " إذا رآنا العالم نؤدي خدمة القناة بكفاءة فلن يصغي إلى أصوات التدخل الحمقاء خصوصاً إذا استطعنا كسب الوقت". وكان ظنه أن مصر تملك كفاءة إدارة الحركة في قناة السويس.

وكان تقديره أن إيدن لابد أن "يتصرف بسرعة وأن يضرب الحديد وهو ساخن وإلا فإن المناخ العام للأزمة سوف يهدأ وسوف يبرد" وأن "احتمال التدخل العسكري ضد مصر سوف يكون محققاً بنسبة 80% خلال الأسبوع التالي للتأميم. فإذا انقضت هذه الفترة الحرجة تناقصت احتمالات التدخل". فكان لابد من معرفة حجم القوات الجاهزة في منطقة الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط (أُنظر شكل مسرح الشرق الأوسط) مما يستطيع "إيدن" استعماله في عملية عسكرية فورية ضد مصر.

ثم حاول عبدالناصر في تقديره العام للموقف أن يستعرض أشكال التدخل العسكري المحتمل. فبحث احتمالات الهجوم على القناة أو ضرب الإسكندرية أو التوجه مباشرة إلى القاهرة بعملية إنزال جوية. ثم استعرض قواعد العمل العسكري: البحر مباشرة من مالطة أو جبل طارق، أو القواعد العسكرية البريطانية في ليبيا، أو قبرص. ثم ركز في النهاية على قبرص مستبعداً القواعد البريطانية في ليبيا لأنها بعيدة ولأن الزحف منها يرغمها على التقدم مساحات شاسعة في الصحراء المكشوفة إلى جانب أنه سوف يؤدي إلى ثورة شعبية فيها[1]

وهكذا اقتصر بحثه الأساسي في النهاية على قبرص، وتصرف على الفور فقد بعث برسول إلى الأسقف "مكاريوس ـ Makarios" الزعيم الوطني القبرصي وإلى الجنرال "جورجيوس" القائد العسكري للمقاومة الوطنية في قبرص يطلب منهما كل معلومات متاحة عن حجم القوات البريطانية ودرجة استعدادها في قبرص. كما استطاع المكتب الثاني في الجيش السـوري (الاستخبارات العسكرية) بقيادة العقيد عبدالحميد السراج أن يحصل على كمية لا بأس بها من المعلومات عن القوات البريطانية في قبرص وبعث بها في ذلك الوقت إلى القاهرة.

كان عبدالناصر يستعد بخطابه التقليدي في عيد الثورة يوم 23 يوليه 1956. وخطر له أنه قد يستطيع إعلان قرار التأميم في هذا الخطاب. وحان موعد الخطاب ولم تكن ردود "مكاريوس" و"جورجيوس" قد وصلت بعد وهكذا ألقى عبدالناصر خطاباً عادياً في هذه المناسبة أثناء حضوره حفل افتتاح خط جديد لأنابيب البترول بين السويس ومسطرد. لكنه حقق شئ آخر أثناء إلقاء هذا الخطاب فقد وقع بصره على المهندس "محمود يونس" وهو مسؤول هيئة البترول المصرية والرجل الذي أشرف على بناء الخط. واستقر رأيه وهو يلقي خطابه على اختياره لإدارة قناة السويس. وأخذه معه إلى بيته بعد انتهاء الاحتفال وأفضى إليه بالسر الكبير وكلفه بمسؤولية التنفيذ.

وصلت تقارير "مكاريوس" و"جورجيوس" من قبرص: هناك حاملة طائرات بريطانية واحدة في البحر الأبيض وهي راسية الآن في مالطة، وهناك مدمرة واحدة تقوم بأعمال الدورية في مثلث يمتد بين قبرص والإسكندرية وحيفا، وهناك في قبرص قوات برية تقدر بثلاث ألوية (لواء الحرس من الفرقة الثالثة مشاة ـ لواء الكوماندوز الثالث ـ لواء مظلات).

كان تقدير الجنرال "جورجيوس" أن القوات البريطانية لا تستطيع في أوضاعها الراهنة القيام بعمليات عسكرية واسعة خارج الجزيرة لانشغال معظمها بمواجهة الثورة القبرصية.

كان معنى هذا كله أن بريطانيا وحدها لا تستطيع التحرك بسرعة. والثغرة التي تتبقى هي ما إذا كانت بريطانيا على استعداد للتحالف مع أطراف أخرى ودفعها للاشتراك معها: فرنسا أو إسرائيل. واستبعد "عبدالناصر" إمكانية تحقق ذلك وكان هذا هو الخطأ الظاهر الذي شاب تقديره للموقف.

استقر رأي عبدالناصر على إعلان قراره التاريخي في خطابه التقليدي الثاني في أعياد الثورة وهو خطابه في الإسكندرية يوم 26 يوليه 1956. وصباح ذلك اليوم دعا إلى اجتماع مشترك بين أعضاء مجلس الثورة ومجلس الوزراء بكامل هيئته.

وفي الاجتماع طرح "عبدالناصر" لأول مرة وعلى نطاق أوسع قرار تأميم قناة السويس. وحين سمع حضور الاجتماع عرض عبدالناصر للموضوع كان رد فعلهم الأول هو التصفيق وكانت هذه هي أول مرة يسمع فيها تصفيق في اجتماع مجلس الوزراء. كانت قناة السويس جرحاً في ضمير كل مصري وكان استعادتها لمصر حلماً من أكبر الأحلام وإن بدا أكثرها استحالة ولذلك ترك الوزراء أنفسهم لشعورهم الوطني الطبيعي. ثم جاء رد فعلهم الثاني الذي يحسب ويقدر ويتخوف ويحذر أمام احتمالات الخطر وتعدد مصادره وطرحت أسئلة واقتراحات مختلفة:

سأل أحد الوزراء ما إذا كان من الأفضل الفصل بين سحب أمريكا لعرض تمويل السد العالي وبين قرار تأميم شركة قناة السويس لأن الربط بينهما قد يكون استفزازاً للولايات المتحدة الأمريكية يدفعها إلى حماقة أخطر؟ وكان رد عبدالناصر: "إن الربط بين الأمرين ضروري لأن هناك اعتبار كرامة يقضي الرد على الإهانة الأمريكية. ومن ناحية أخرى فإن الربط سوف يقوم به الآخرون حتى وإن حاولنا نحن أن نفصل. وكذلك فإن ضرورات تمويل السد العالي سوف تكون هي سندنا في حتمية التأميم".

وسأل أحد الوزراء عما إذا كان من الأفضل توجيه إنذار بالتأميم إذا لم ترجع الولايات المتحدة الأمريكية في قرارها بالانسحاب من المساهمة في تمويل السد العالي؟ وكان رد "عبدالناصر"على ذلك بأننا " بهذا سوف نعطيهم فرصة لاستكمال استعدادهم ثم إن توجيه إنذار من هذا النوع سوف يكون فيه نوع من التسول أو الابتزاز على أحسن الأحوال وهو موقف لا ضرورة له".

وسأل أحد الوزراء ما إذا كان ممكنا أن يكتفي بتأميم نصف أسهم الشركة بدلا من تأميمها بالكامل حتى لا يجن جنون الغرب؟ وكان رد "عبدالناصر" هو أن "المخاطر الناجمة عن تأميم 50 % هي نفسها المخاطر التي يمكن أن تنجم عن تأميم 100% من الأسهم. فما سوف يثير غضب الآخرين هو قدرة مصر على ممارسة إرادتها الحرة. ولهذا فلا فائدة من الوصول إلى منتصف الطريق.

شرح عبدالناصر تقديره للموقف ثم وصلت المناقشات إلى أوضاع الاستعداد العملي للمرحلة المقبلة وكان تقرير وزير التموين هو أهم ما أراد أن يسمعه لأن مخزون السلع المتوافرة للاستهلاك داخل السوق المصرية كان بين النقط الحساسة في القرار.

وكانت النقطة الحساسة الثانية هي تقرير الدكتور "عبدالمنعم القيسوني" وزير الاقتصاد عن أرصدة مصر المالية في العالم الخارجي. وسأله "عبدالناصر" ما إذا كان يستطيع تحريك بعضها بسرعة. وقال الدكتور القيسوني إنه سيبذل كل جهده.

وانتهى الاجتماع بأن قال عبدالناصر للمجتمعين:

"إنني أريد أن أكون منصفاً لكم جميعاً فأسجل هنا أنني أتحمل مسؤولية قرار تأميم شركة قناة السويس، وللشعب المصري وللتاريخ أن يحاسبوني عليه فلست أريد لأحد منكم أن يتحمل بمسؤولية قرار خطير لم يعرف به إلا قبل إعلانه بوقت قصير"!.

ولم يكن أحد خارج هذه الدائرة المحدودة يعرف حتى هذه الساعة ما هو رد عبدالناصر على الإهانة التي تضمنها البيان الأمريكي بسحب عرض المساهمة في تمويل السد العالي ولا كيف يمكن لمصر أن تمول هذا المشروع وتنفذه معتمدة على نفسها كما أعلن عبدالناصر في خطابه يوم 23 يوليه حيث قال "إننا سنبني السد العالي بأيدينا ولو بالمقاطف"!.

كانت هذه الأسئلة هي موضوع تكهنات كل الدبلوماسيين الأجانب في القاهرة وكل المراقبين السياسيين والصحفيين فيها ولم يخطر ببال أحدهم أن الرد سوف يكون بتأميم قناة السويس. لكن سفيراً واحداً في القاهرة أحس بالاتجاه الصحيح للضربة وكان هو السفير الفرنسي الكونت "أرمان دو شايلا" ومع ذلك فالراجح أنه لم يكن متأكداً من صدق حِسه لذلك لم يُخطر شركة قناة السويس سواء في مقرها الرسمي في الإسماعيلية أو في مركزها في القاهرة. وقد اكتفى السفير الفرنسي بأن بعث بتصوره لما يمكن أن يفعله عبدالناصر في برقية إلى وزارة الخارجية الفرنسية في باريس ووصلت برقيته وجرى حل شفرتها بعد أن كان عبدالناصر قد أعلن فعلاً تأميم شركة قناة السويس. وأشر" كريستيان بينو" وزير الخارجية على التقرير بكلمتين كتب فيهما "متأخر جداً".

كانت تعليمات عبدالناصر إلى محمود يونس أن يكون مستعداً للتحرك والاستيلاء على كل مكاتب ومرافق شركة قناة السويس في القاهرة وبور سعيد والسويس والإسماعيلية في اللحظة التي يسمعه فيها يذكر أثناء خطابه في الإسكندرية اسم "فرديناند ديليسبس".

وقف عبدالناصر في ميدان المنشية في الإسكندرية أمام مؤتمر شعبي حاشد ليلقي خطابه التاريخي. فتعرض لمفاوضات مصر مع البنك الدولي والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا حول تمويل السد العالي ثم شبه "يوجين بلاك" رئيس مجلس إدارة البنك الدولي بـ "فرديناند ديليسبس" الذي انتزع جزءاً من السيادة المصرية بالضغط والإغراء، ثم حرص على أن يكرر اسم "ديليسبس" في خطابه 13 مرة حتى يتأكد أن "محمود يونس" تلقى الإشارة المتفق عليها وتحرك والحقيقة أن "محمود يونس" بدأ تحركه من اللحظة التي سمع فيها اسم "ديليسبس" لأول مرة. وعندما تلي "عبدالناصر" أثناء خطابه "قرار رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس" كان "محمود يونس" قد احتل مبنى الشركة الرئيسي في الإسماعيلية كما كانت المجموعات التي شكلها قد أمسكت بالمرفق الحساس كله وسط صدمة أصابت مديريها وموظفيها جميعاً !".

كان لإعلان تأميم شركة قناة السويس فرحة كبرى عمت مصر كلها وفاضت على العالم العربي وامتدت تأثيراتها إلى بعيد في آسيا وأمريكا اللاتينية. وقد تحقق تقدير عبدالناصر في أن قرار التأميم سوف يعبئ الشعب المصري والأمة العربية على نحو غير مسبوق من قبل.

كان عبدالناصر ينتظر باهتمام رد فعل الاتحاد السوفيتي. الذي تأخر ثمانية وأربعين ساعة. واجتمعت القيادة السوفيتية عدة مرات قبل أن تصدر بياناً هادئاً يقول: "إن القناة ملك لمصر وإن تأميمها إجراء قانوني عادي لصالح اقتصاد مصر".

ولم يكن ذلك رد الفعل في لندن وباريس وواشنطن وتل أبيب

رابعاً: رد فعل الغرب على التأميم

في إنجلترا : تلقى "إيدن" خبر التأميم أثناء حفل عشاء أقامه تكريماً لـ "فيصل" ملك العراق ورئيس وزرائه "نوري السعيد"، فنزل عليه كالصاعقة، فهو لم يتصور أن يكون رد فعل عبدالناصر بتلك السرعة وبهذه الجرأة، وقال لضيوفه: "إن الطاغية أعلن الآن أنه أمم شركة قناة السويس ليبنى بدخلها سده العالي".

انتقل "إيدن" على الفور إلى قاعة مجلس الوزراء، واستبقى من كان معه من وزراءه وطلب استدعاء بعض الوزراء الآخرين بالإضافة إلى رؤساء أركان حرب القوات البريطانية والسفير الفرنسي "شوفيل" والقائم بالأعمال الأمريكي "فوستر".

وقد ذكر "فوستر" في تقرير أرسله إلى وزارة الخارجية "أنه حضر بناء على دعوة "إيدن" لمناقشة ما قام به "عبدالناصر" من تأميم لقناة السويس. وإن المجلس كان يسوده شعور بخطورة الموقف كما كانت تتملكه مشاعر قوية خصوصاً لدى "إيدن" الذي قال صراحة "إنه لا يمكن لنا أن نسمح ل "ناصر" أن يهرب بغنيمته". وعندما نوقش الجانب القانوني فإن الرأي السائد إن "عبدالناصر" وإن كان قد أخل بعقد الالتزام الممنوح لشركة القناة فإن قرار التأميم لا يشكل خرقاً لمعاهدة القسطنطينية عام 1888م". ولكن المشكلة سوف تقع في الغالب إذا اختلت حركة الملاحة والصيانة وغيرها من العمليات في القناة. وقد وافق المجلس على أن اللجوء إلى مجلس الأمن مخاطرة قد تؤدي إلى تعطيل الموقف وتجميده. وكان إجماع المجلس على إنه مهما كانت حجج القانون الدولي فإن حكومات الغرب لابد أن تبحث الإجراءات الاقتصادية والسياسية والعسكرية ضد مصر لكي تضمن سلامة قناة السويس وحرية المرور فيها برسوم معقولة، وقرر المجلس المنعقد رفع درجات استعداد القوات البريطانية في البحر المتوسط، وأمر رئيس الوزراء رؤساء الأركان بإعداد خطة للاستيلاء على القناة، ثم طلب تنسيق الخطوات بين حكومات الدول الثلاث البريطانية والفرنسية والأمريكية. وقرر المجلس إصدار البيان الرسمي التالي:

" إن القرار التعسفي الذي أصدرته الحكومة المصرية بتأميم شركة قناة السويس بدون إخطار سابق وخلافاً لعقد الامتياز، يمس المصالح الحيوية لأمم كثيرة. إن حكومة صاحبة الجلالة الملكة في تشاور عاجل مع بعض الحكومات المهتمة بالأمر في صدد الموقف الخطير الناشئ عن تأميم شركة قناة السويس وما يمكن أن يكون له من أثر على عملياتها من جراء هذا القرار التعسفي".

وبعد الموافقة على هذا البيان قال"أيدن": لي وللسفير الفرنسي " شوفيل " "إنه يأمل أن تصدر حكوماتنا بيانات مشابهة".

وتعطي شهادة الأميرال اللورد "مونتباتن ـ Mountbatten, Lord, Louis" قائد البحرية البريطانية صورة الجانب الآخر وهو الجانب العسكري فيقول: "إن رئيس الوزراء سألني ما هو العمل العسكري الذي نستطيع القيام به فوراً ضد "عبدالناصر"؟ فقلت له "إذا كانت الحكومة تفكر في الاستيلاء على قناة السويس بعمل مفاجئ فإن لدينا 1200 جندي بحرية مظلات جاهزون في مطار مالطة ولا أظن انه سيكون من الصعب عليهم أن يهبطوا على المنطقة ويستولوا على المرافق الهامة في الممر المائي ويحافظوا على مواقعهم لمدة 24 ساعة. وأما أكثر من ذلك فأنا لا أعتقد انهم يستطيعون الصمود أمام المقاومة المصرية". طلب منا رئيس الوزراء أن نعود إليه في الساعة التاسعة والربع من صباح اليوم التالي ومعنا خطة عسكرية كاملة للعمل ضد مصر. وقدمنا له مقترحاتنا في الموعد المقرر ولكن تنفيذها كان يقتضي إعداداً يستغرق ما بين ستة إلى ثمانية أسابيع على الأقل".

في فرنسا: كان رد الفعل الفرنسي أكثر عنفاً حتى من الموقف البريطاني. فالحكومة والصحافة والشعب الفرنسي كله يناصب مصر العداء. لذا أعلن "جي موليه ـ Guy Molleet" رئيس الوزراء أن فرنسا قررت أن تقاوم هذا العمل بشكل فوري وأنه سيدعو الجمعية العامة للأمم المتحدة لإصدار قرار لإدانة مصر لتهديدها السلام القائم في الشرق الأوسط. وقد استدعى وزير الخارجية "كريستيان بينو" السفير المصري إلى مكتبه وسلمه مذكرة احتجاج اتهم فيها "عبدالناصر" بأنه قام "بعمل من أعمال النهب". وقد رفض السفير المصري استلام مذكرة الاحتجاج الفرنسية ووصفها بأنها "غير مقبولة ومرفوضة تماما"

لم يكن التأميم السبب الرئيسي للرغبة في الانتقام من مصر، حقيقة أن تلك الخطوة هي قضاء على ما تبقى من النفوذ الفرنسي في مصر متمثلاً في شركة قناة السويس وما يترتب على ذلك من نتائج، ولكن هناك حقيقة أخرى تمثلت فيما تقدمه مصر للثورة الجزائرية ليس فقط الأسلحة والتدريب، وإنما أيضاً التشجيع المعنوي وصيحات التحرير وتيار القومية، وهذا جميعه لم يعد مقصوراً على الجزائر وإنما شمال أفريقيا كله. وبناء على هذا الوضع الذي هدد وتوعد الوجود الفرنسي، جعل باريس تتكاتف مع لندن من أجل العمل ضد مصر.

اقترح "كريستيان بينو" وزير الخارجية أن يطير على الفور إلى لندن ليجتمع مع الزعماء الإنجليز. كما اقترح علي "سلوين لويد" وزير خارجية بريطانيا عندما التقى به في لندن أن يطلبا من "دالاس" وزير خارجية أمريكا أن ينضم إليهما في لندن فالأزمة خطيرة إلى حد أنه لا يمكن التعامل معها على مستوى السفراء أو البرقيات.

في أمريكا: على الرغم من أن هناك اهتماماً أمريكياً بالشرق الأوسط، نظراً للمصالح الاقتصادية المرتبطة بالنفط، والأهمية الإستراتيجية المرتبطة بوقف أي تدخل سوفيتي في المنطقة، إلا أن واشنطن لم تكن تؤيد المنهج البريطاني والفرنسي لاعتبارات كثيرة، أهمها: عدم التورط في حرب تنعكس عليها بالسلبيات، أيضاً فإن قناة السويس لا تؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الأمريكي كما هو الحال بالنسبة لأوروبا، وكانت نسبة سفن الولايات المتحدة الأمريكية تمثل 2.7% من إجمالي السفن التي تعبر القناة، كما لم يكن لها حصص في أسهم شركة قناة السويس، بالإضافة إلى انشغال واشنطن بالانتخابات التي كانت على الأبواب.

وفي حقيقة الأمر فإن الرئيس الأمريكي "أيزنهاور" لم يكن راضياً سواء عن التأميم أو عن تهور "إيدن"، وأختار "ميرفي ـ Murphy, Robert" مساعد وزير الخارجية حيث كان "دالاس" وزير الخارجية خارج دولته، للسفر إلى لندن، بعد أن أصدر إليه تعليماته بالآتي:

1. عليك أن تعطل الوصول إلى أية قرارات قبل أن يحضر إليكم في لندن وزير الخارجية "دالاس".

2. عليك أن تبلغ "إيدن" أنني لا أرى داعياً لكل هذه الهستيريا التي تبدو في التصرفات البريطانية  فالصحف ووكالات الأنباء والإذاعات مليئة بأخبار صادرة من لندن عن استعدادات عسكرية وعن خطط وعن نوايا ومثل هذا المناخ سوف يؤثر سلبياً ومسبقاً على أية قرارات قد نتوصل إليها.

3. لا ينبغي أن يبدو أي عمل نقرر القيام به وكأنه تجمع عدواني من "نادي الثلاثة الكبار" ضد "ناصر". وبمعنى أصح فإنه لا يصح أن نتصرف وحدنا في الأمر نحن الثلاثة.

4. عليك أن تحذر الفرنسيين من محاولة الخلط بين استيلاء "ناصر"على القناة وبين الصراع العربي الإسرائيلي.

5. لكي تتمكن من كسب الوقت بسهولة فلك أن تنقل لهم عني اقتراحاً بدعوة كل الدول البحرية التي يهمها أمر القناة إلى مؤتمر موسع لدراسة مستقبل القناة.

خامساً: رد الفعل دول الكومنولث على التأميم[2]

لقد لعب بعضها دوراً إيجابياً لخدمة المصالح الغربية، وكان من الواضح أن الخلاف بينها قائم، وأن الهيمنة البريطانية عليها قد خفت درجتها. وبناء على سياسة رئيس الوزراء البريطاني في تعبئة القوى العالمية المضادة لقرار التأميم، فقد بعث برسائل إلى دول الكومنولث ليشعل الحماس، مسجلاً أن ما فعله "عبدالناصر" إجراء له أثره السيئ على إمدادات بترول الشرق الأوسط.

سادساً: رد فعل الاتحاد السوفيتي على التأميم

كان مؤيداً ومرحباً لقرار مصر تأميم شركة قناة السويس، مادام هذا الإجراء يِقَوضْ نفوذ الغرب، وصرح "خروتشوف ـ Nikita Sergeyevich Khrushchev" السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفيتي بأن مصر تصرفت في نطاق حقوقها ولم تخرق القانون الدولي، وأن التأميم لا يمس مصالح الغرب. وأعلنت موسكو أنه إذا كان الغرب يطالب بإدارة دولية للقناة بحكم أن دولاً عديدة تستخدمها، فإن هذا المبدأ لا بد أن ينطبق على قناة "بنما" وقناة "كييل" ومضيق "الدردنيل"

سابعاً: رد فعل الدول العربية على التأميم

وضح تأييدها لمصر خاصة السعودية وسورية والأردن، كما قامت المظاهرات المساندة لقرار التأميم في لبنان، وأصدر اتحاد العمال العرب قراره بالإضراب احتجاجاً على التهديدات الموجهة لمصر. ويسجل "إيدن" في مذكراته "أن الأصوات بدأت تردد في العالم العربي أن قناة السويس هي قناة العرب"، وأن كافة التأييد تدفق على مصر من ملوك العرب وقادتهم.

وتشمل بريطانيا وكندا واستراليا ونيوزلندا وجنوب أفريقيا والهند وباكستان وسيلان وروديسيا ونياسلان وبهذا يظهر جلياً ردود أفعال قرار تأميم مصر لشركة قناة السويس، وكيف تفتحت الأبواب على مصراعيها، ليبدأ صراع على الساحة الدولية له خصائصه البارزة.



[1] لقد جانب التوفيق جمال عبدالناصر أثناء تقدير الموقف الاستراتيجي السياسي العسكري كرد فعل لتأميم قناة السويس بعدم توقعه التدخل العسكري المشترك بين إسرائيل وبريطانيا وفرنسا مما أدى نجاحهم في تحقيق المفاجأة وإرباك القيادة السياسية العسكرية.

[2] وتشمل بريطانيا وكندا واستراليا ونيوزلندا وجنوب أفريقيا والهند وباكستان وسيلان وروديسيا ونياسلان