إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / حرب الاستنزاف




لقاء سياسي معنوي
الرئيس يتابع أحد المشروعات
الرئيس يتفقد قواته بالجبهة
جمال عبدالناصر والفريق محمد فوزي
جمال عبدالناصر مع الجنود
جمال عبدالناصر مع الفريق محمد فوزي
جثمان الرئيس عبدالناصر
عبدالناصر وسط قواته
عبدالناصر يتابع إحدى المناورات
عبدالناصر يصافح جندي
عبدالناصر في إحدى القواعد الجوية
عبدالناصر في لقاء معنوي
عبدالناصر في الجبهة

أماكن عمل الغواصات المصرية
إغارات وكمائن العدو
إغراق المدمرة إيلات
إغراق سفينة الأبحاث الإسرائيلية
معركة الكرامة 21/3/1968
الأعمال الفدائية الفلسطينية
الإغارات المصرية في عمق العدو
الإغارات التي شنتها إسرائيل
الإغارة على إيلات
القتال الناجح للقوات المصرية
رحلة الحفار إلى أفريقيا
عمليات الضفادع البشرية
قتال الدوريات والكمائن لقواتنا
قتال القوات البحرية المصرية
قصف منطقتي رمانة/بالوظة




المبحث الثاني

سادساً: حرب الاستنزاف من وجهة النظر الإسرائيلية "الاستنزاف المضاد"

في أعقاب حرب يونيه 1967، تحالفت وسائل الإعلام الغربية مع الدعاية الإسرائيلية في الإعلان أن هذه الحرب هي آخر الحروب، وأن العرب لن تقوم لهم قائمة قبل عدة عقود زمنية، وأن إسرائيل حصلت على الحدود الآمنة التي كانت تهدف إليها. وعاشت إسرائيل، حكاماً وشعباً وجيشاً، في نشوة نصر عظيم، وتصرف قادتها في حرية كاملة، بتأييد من القوة العظمى الأولى في العالم، وانبهار في دول الغرب وترقب من كل الدول الأخـرى.

وطبقاً للحسابات المادية، فإن إسرائيل كانت مطمئنة إلى استحالة اشتعال موقف عسكري قريب في المنطقة، وقد انعكس ذلك الافتراض على قواتها العسكرية، الذين كانت تصرفاتهم تدل على منتهى الاستهتار والاستهانة بالموقف القتالي على الضـفة الشرقية للقناة. وكانت القيادة الإسرائيلية شديدة الحرص على أن يسود أكبر قدر من الهدوء على الجبهة استثماراً لنصرها وتحقيقاً لأهدافها في فرض الأمر الواقع على الأراضي المحتلة، وتغيير معالمها الديموجرافية طـبقاً لخطة محكمة تهدف في النهاية إلى ضمها لرقعة الدولة اليهودية، وتؤكد من خلالها على استمرار تدمير معنويات العرب وتنمية آثار الصدمة النفسية لديهم وعدم إعطائهم فرصة تنشيط القتال على الجبـهة مرة أخرى. في الوقت نفسه، تعمل إسرائيل على استتباب الأمن الداخلي في الأراضي المحتلة، واحتواء السكان العرب ومنعهم من إظهار أي مقاومة لسلطات الاحتلال.

وفي أعقاب معركة رأس العش، وافقت مصر وإسرائيل على وضع نقاط مراقبة تابعة للأمم المتحدة على جانبي قناة السويس، ووصلت القوات فعلا يوم 11 يوليه 67. وعند تحديد النقاط أصرت إسرائيل على أن يكون خط وقف إطلاق النيران في منتصف المجرى المائي لقناة السويس بينما رفضت مصر ذلك تماما. وفي محاولة لتنفيذ وجهة نظرها بالقوة، أنزلت قوات إسرائيلية بقوارب مطاطـية، إلى القناة في منطقة جنوب القنطرة، وفي مناطق متفرقة من القناة، يوم 14 يوليه 1967، لاختبار رد الفعل المصـري، ومدى قبول المصريين للتصور الإسرائيلي، عند تحديد خط وقف إطلاق النيران. ولكن القوات المسلحة المصرية أعلنت رفضها هذا المنطق، وفتحت النيران على هذه القوات. ونشبت، يومي 14،15 يوليه 1967، معارك عنيفة بالطيران والمدفعية، وبعدها لم تتكرر أي محاولات إسرائيلية من هذا القبيل في قناة السويس. وساد الجبهة، بعدها، فترة هدوء متقطعة (استمرت قرابة الخمسين يوما)، استغلها الجانبان في تجهيز المسرح على كلا الضفتين، بينما تصاعد خلالها النشاط السياسي، إلى أن كانت المحاولة الثانية لإسرائيل في إعطاء نفسها حق المرور في خليج السويس، حيث ردت القوات المصرية بعنف على الزوارق الإسرائيلية في شمال خليج السويس، في 4 سبتمبر وكبدتها خسائر كبيرة واشتعل الموقف وقتها مرة ثانية.

ومع تصاعد النشاط القتالي المصري على الجبهة، طورت إسرائيل أهدافها في إطار، سياسي عسكري، جديد يتحدد في ثلاث نقاط رئيسية هي:

·   التشبث بالأرض المحتلة، ومنع المصريين من استعادة أي أجزاء من سيناء.

·   محاولة إحباط العمليات العسكرية المصرية، بتوجيه أعمال قتال أشد.

·   التأثير على الشعب المصري في الداخل، ليثور على قيادته السياسية ويسقط النظام من الداخل، أو أن تقوم هذه القيادة بإيقاف حرب الاستنزاف وتهدئة الموقف، الذي يؤدي إلى تحقيق أهداف إسرائيل.

وفي جميع الأحوال فإن إسرائيل حاولت السيطرة على الموقف العسكري على الجبهة حتى لا يحدث صدام يصل إلى الحرب الكاملة، وتتغير معه المواقف في المنطقة والعالم.

والاستنزاف المضاد ـ طبقا للأسلوب العلمي ـ يُعَدّ حالة خاصة من الحروب المحلية المحدودة التي تقتصر على تخطيط وإدارة ردود الأفعال المناسبة لما يوجه إليها من أنشطة قتالية من الخصم بغرض استنزافها، على أن تنحصر تلك الردود داخل سلم تصعيد لا يترك القتال ينطلق إلى آفاق الحرب الكاملة، بل يقصرها داخل هدف، ووسائل صراع، ومدى جغرافي وعدد من الأطراف، ومدة زمنية لا تضر بالوضع القائم، أو تدخل عليه من التغييرات ما يفسده كحق مكتسب يقبله القانون مع تقادم الزمن.

ويطلق المحللون الإسرائيليون، مسمى "حرب الاستنزاف" على مجموع الأعمال القتالية التي دارت في أعقاب حرب 1967، وحتى إيقاف إطلاق النيران في 8 أغسطس 1970. كما تُسمى بحرب "الألف يوم". وقد وضعت هذه الحرب في إطار دفاعي بوجه عام، وإن اعتمدت على بعض الأعمال التعرضية التي شابتها التجاوزات في أكثر من موقف، ولم تهدف إسرائيل في إدارتها لهذه الحرب إلى احتلال مزيدا من الأراضي بل هدفت إلى ترسيخ الوضع القائم بكل مكاسبه ومزاياه التي حققتها في حرب 1967.

وينقسم الاستنزاف المضاد من وجه النظر الإسرائيلية، "وطبقا لما ذكره المحللون الإسرائيليون" إلي ثلاثة مراحل رئيسيه، احتوت كل منها على مرحلة زمنية لها خصائصها على المستوى السياسي والعسكري، وأطلقوا على كل مرحلة منها، اسما يتمشى مع الصلف الإسرائيلي، الذي كان سائداً خلال هذه الفترة الزمنية. وسوف توضح هذه المراحل بأسمائها الإسرائيلية، ثم تقييمها طبقاً للحقائق العلمية المجردة، وهذه المراحل هي:

·   مرحلة الردع، "فيما بين يونيه 1967 ـ وحتى سبتمبر 1968".

·   مرحلة الترويع، "فيما بين أكتوبر 1968 ـ وحتى ديسمبر 1969".

·   مرحلة السحق، "فيما بين يناير ـ وحتى أغسطس 1970".

1. المرحلة الأولى: مرحلة الردع

والاسم العلمي الحقيقي لهذه المرحلة هو "ردود الفعل"، إذ كانت القيادة الإسرائيلية تحاول قدر الإمكان تهدئهَ الموقف، لتحقيق الأهداف السياسية بفرض الأمر الواقع وإقناع دول الغرب بأن الموقف في الشرق الأوسط مستقر، ولا داعي لأي جهود سلمية. وكان تقديرها أن مصر أصبحت جثة هامدة، وخسرت خسائر فادحة بسبب حرب 1967، تقنعها بعدم تكرار المواجهة مع إسرائيل التي تمتلك من الإمكانيات ما يمكنها من ردع أي عمل مصري محدود.

وقد واكبت هذه المرحلة، مرحلة "الصمود" على الجانب المصري. لذلك، فإن محصلة التصعيد، والتهدئة مرت خلال فترات زمنية متباعدة نوعا ما.

وانقسمت هذه المرحلة من وجهة نظر الاستعداد القتالي، وردود الفعل إلي مرحلتين فرعيتَيْن:

أ. المرحلة الفرعية الأولي

من يونيه 1967، وحتى 14 مارس 1968. وكانت القوات الإسرائيلية خلالها مكشوفة تماماً، وتعتمد على حشد أسلحتها من دون إنشاء تجهيزات هندسية ملائمة لمسرح العمليات. كما كانت الظـاهرة الرئيسية التي تسود القوات على الضفة الشرقية للقناة، هي الغرور، والصلف، وعدم إتباع أي قواعد أخلاقية تتمشى مع التقاليد المصرية. لذلك، كانت القوات الإسرائيلية هدفاً سهلاً لأي اشتباك مفاجئ. وقد اقتصرت هذه المرحلة على اشتباكات متباعدة، ولكنها عنيفة، استخدمت فيها المدفعية كسلاح رئيسي، فضلاً عن المعارك البحرية والجوية. وكانت مصر توجه نيرانها إلى أهداف عسكرية بغرض تأكيد السيادة، بينما وجهت إسرائيل جميع نيرانها ضد المدنين في التجمعات السكانية، وضد أهداف صناعية في منطقة القناة.

ب. المرحلة الفرعية الثانية

من 15 مارس 1968 ـ وحتى نهاية المرحلة، وهي التي ركزت إسرائيل خلالها على إنشاء خط بارليف الأول، مستغلة الإمكانيات المحلية المتاحة بقدر الإمكان. وبدأت، بعدها، القوات الإسرائيلية في التحصن داخل دفاعات ثابتة على طول الضفة الشرقية للقناة، بهدف تأمين هذه القوات ضد الاشتباكات المصرية المتصاعدة.

وقد حشدت إسرائيل في هذه المراحل عدداً من صواريخ الميدان (راجمات الصواريخ) من عيار 240 مم، 216 مم، كذلك المدفعية الثقيلة من عيار 175 مم، بهدف إحداث التأثير المناسب على مدن القناة، والأهداف الاقتصادية المصرية، لإجبار القيادة المصرية على الحد من توجيه نيرانها ضد القوات الإسرائيلية. وتكبدت إسرائيل في هذه الاشتباكات خسائر كبيرة، لم تكن تعلنها في وقتها ولكن البيان العسكري كان دائـما يذيل "بإصابة أحد الجنود"، وذلك إمعانا في خفض الروح المعنوية للقوات المصرية. في الوقت نفسه، كانت عملية تهجير سكان مدن القناة إلى داخل الوادي ونقل المنشآت الصناعية الرئيسية إلى مناطق أكثر أمنا، هي الوسيلة الرئيسية التي أفقدت العدو ميزة ضرب السكان المدنيين، وجعلهم رهينة للتأثير في القياديتين، السياسية والعسكرية، في سبيل تهدئة الموقف على خط القناة. وأصبحت القوات المصرية بدءاً من يناير 1968، لا تعطي أهمية كبرى لضرب مدن القناة "الخالية من السكان". لذلك، كان على إسرائيل البحث عن وسيلة أخرى للتأثير في القيادة السياسية المصرية.

ومن المحتمل أن "الردع" الذي كان يقصده المحللون الإسرائيليون في تسميتهم لهذه المرحلة، هو ضرب سكان مدن القناة المدنيين، الذي تمنعه كل القوانين والأعراف الدولية.

2. المرحلة الثانية: "الترويع" "أكتوبر 1968 ـ ديسمبر 1969"

والاسم الحقيقي لهذه المرحلة يجب أن يكون "محاولة احتواء الرد المصري الإيجابي". وقد واكبت هذه المرحلة، على الجبهة المصرية، مرحلة الدفاع النشط، وجزءاً من مرحلة الاستنزاف. وتلقت إسرائيل خلالها عدة ضربات مؤلمة أجبرتها على إدخال قواتها الجوية في المعركة اعتباراً من 20 يوليه 1969 في محاولة للحد من الأعمال القتالية الإيجابية المصرية التي أحدثت خسائر هائلة في قواتها.

وقد بدأت هذه المرحلة بتلقي إسرائيل قصفات مدفعية عنيفة يومي 8 سبتمبر، 26 أكتوبر 1968 استهدفت جميع مواقع الصواريخ الميدانية (راجمات الصواريخ) 216مم، 240 مم، التي كانت تؤثر في مدن القناة، فضلاً عن جميع المناطق الإدارية ومراكز القيادة على الضفة الشرقية للقناة. ومن واقع الخسائر الكبيرة التي حدثت في صفوف الإسرائيليون، ونظراً لخلو مدن القناة من السـكان، كان لا بدّ من البحث عن هدف آخر؛ فاتجه الفكر الإسرائيلي مباشرة إلى صعيد مصر حيث الكثافة السكانية العالية، والأهداف الكثيرة التي يمكن التعامل معها، نظراً لضعف الحراسات عليها، وعدم وجود قوات مسلحة ذات تأثير في هذه المنطقة. وكذلك، لإثبات أن لإسرائيل يد طويلة، يمكنها الوصول إلى أي مكان في مسرح العمليات، للرد على الأعمال القتالية المصرية.

وببدء مرحلة الاستنزاف يوم 8 مارس 1969، تلقت القوات الإسرائيلية على الجبهة ضربات شديدة، وأصبح التفوق المدفعي المصري مطلقاً من حشد يناهز الألف مدفع وهاون، أمطر القوات الإسرائيلية بوابل من القذائف. كما فوجئ الجنود الإسرائيليون المتحصنون في دشم خط بارليف بقذائف الدبابات، من الأعيرة الثقيلة، تخترق هذه الحصون من خلال المزاغل (فتحات المراقبة)، وتنفجر داخلها لتحول هذه الدشم إلى قبور لكل من وُجد فيها. وكان التحول الجدي في الإستراتيجية الإسرائيلية للاستنزاف المضاد يتمثل في استخدامها قواتها الجوية، لتوسيع مسارح العمليات، بدءاً من 20 يوليه 1969.

3. المرحلة الثالثة: مرحلة السحق (اُنظر شكل إغارات وكمائن العدو) و(شكل الإغارات التي شنتها إسرائيل)

وهي التي يطلق عليها الحرب القذرة، والتي بدأت من أول يناير عام 1970، إذ استهدف الطيران الإسرائيلي أهدافاً مدنيه، قتل معها أطفال بحر البقر وعمال مصنع حديد أبو زعبل. ولكن لم ينل شيئا من الإرادة المصرية ولم يحقق أهدافه في إيقاف الاستنزاف أو إحراج القيادة المصرية، وكان هذا سبباً رئيسياً في مبادرة روجرز، وتصاعد الخلافات الحادة بين القادة الإسرائيلية أنفسهم.

سابعاً: خط بارليف بين الحقيقة والوهم

كانت إسرائيل، على المستويين، السياسي والعسكري، مطمئنة، نتيجة لأنها حققت أملها بالاستيلاء على مناطق شاسعة من الأراضي. وبناء على ذلك، رسمت إستراتيجيتها التالية لتحقيق ما يلي:

1. التمسك بالأراضي، التي احتلتها، على أساس أنها أراضي "توراتية"، تحقق نبوءات أنبياء بنى إسرائيل، التي بشروا بها منذ عشرات القرون.

2. فرض الأمر الواقع على الأراضي الجديدة، وتغيير معالمها الديموجرافية تمهيداً لضمها لإسرائيل.

3. إقناع المجتمع الدولي بأن العرب "جثه هامدة" وأن إسرائيل هي التي تحمي المصالح الغربية في المنطقة، وأن الوضع الحالي يمثل ميزة للغرب، وليس لإسرائيل فقط، إذ سيمكنها من التحرك بصورة أفضل لحماية مصالحه.

4. التأثير النفسي العنيف على العرب، وتذكيرهم بالهزيمة، وردع أي محاولات قتالية لمنعهم من تكرارها.

ومن هذه الإستراتيجية، ونتيجة لعوامل أخرى كثيرة، نبعت من مسرح العمليات عينه، بدأ التحول الكبير في أسلوب الحياة العسكرية الإسرائيلية على الضفة الشرقية للقناة من اللهو والعبث إلى الحياة العسكرية. وكانت البداية معركة رأس العش، في الأول من يوليه 1967. وكانت أول هزيمة تتكبدها القوات الإسرائيلية أثناء وبعد حرب يونيه 1967، ثم اشتباكات يومي 14، 15 يوليه 1967. وفي هذه الاشتباكات تكبدت إسرائيل خسائر كبيرة. أمرت، في أعقابها، القيـادة الإسرائيلية أن تقوم القوات بإنشاء مواقع ميدانية محصنة على طول المواجهة تسلسلت عبر المراحل الزمنية القصيرة كالآتي:

1. بدأت بإنشاء حُفر يوضع حولها شكاير رمل، بغرض الوقاية الفردية أثناء الاشتباكات.

2. ثم تم إنشاء ملاجئ ميدانيه لوقاية نقط الملاحظة، التي انتشرت على المواجهة.

3. ثم قامت القوات الإسرائيلية بتعلية السواتر الترابية على طول القناة لعدم كشف أعمال وتحركات قواتها على الضفة الأخرى.

ومع بداية الشتاء، نهاية عام 1967، قرر الجنرال حاييم بارليف رئيس الأركان الإسرائيلي، وقتئذ، إقامة تجهيزات حصينة لوقاية القوات الإسرائيلية على طـول القناة[3]، وكلف الجنرال أبراهام آدان، الذي كان يعمل في رئاسة الأركان، بالتنسيق مع الجنرال يشعياهو جافيتش قائد المنطقة الجنوبية، بالاستعانة بالعديد من الخبراء الألمان والبلجيكيين والأمريكيين للتخطيط لإقامة الخط الذي أطلق عليه، بعد ذلك، خط بارليف، نسبة إلى رئيس الأركان الإسرائيلي. وحدد الجنرال بارليف إستراتيجية بناء الخط لتحقق عدداً من الأهداف، التي تتمشى مع إستراتيجية "البقاء المستديم" في سيناء. وكانت أهم هذه الأهداف هي:

1. إنشاء خط حصين للدفاع عن سيناء، ومنع القوات المصرية من العبور شرقاً، وتدميرها في المياه، قبل أن تصل إلى الشاطئ الشرقي.

2. تأمين القوات الإسرائيلية، على خط الجبهة في سيناء، وتقليل تأثير النيران المصرية عليهم.

3. عَدّ هذا الخط، هو الذي تستند عليه الضربات الرئيسية الإسرائيلية، بعد مرحلة التعبئة، لتدمير القوات المصرية التي تكون قد نجحت في العبور.

4. تجهيز الخط، بأسلوب علمي متقدم، ليكون خط ملاحظة أمامي لمراقبه أوضاع القوات المصرية.

وقد أثار التفكير في بناء الخط جدلاً شديداً بين القادة الإسرائيليين، وتزعّم جبهة المعارضة، وقتذاك، الجنرال إيريل شارون، رئيس التدريب، والجنرال يسرائيل تال، برئاسة الأركان، وكانت وجهة نظرهما تتحدد في الآتي:

1. إن عقيدة القتال الرئيسـية للقوات الإسرائيلية هي المرونة والحركة، بينما خط بارليف دفاع ثابت ومن ثم، يتعارض مع الفكر الإسرائيلي العسكري.

2. إن الدفاعات الثابتة ستكون أهدافا سهلة للنيران المصرية، وبالتالي تزيد خسائر إسرائيل.

3. إن الدفاعات الثابتة تحتاج لمن يحتلها ويدافع عنها، بينما عقيدة إسرائيل تعتمد على قوات قليلة في الأوقات العادية، والتعبئة الشاملة أثناء الحرب.

وتمت مناظرات ومباحثات، وكل يتمسك برأيه، إلى أن تغلب رأى رئيس الأركان "بارليف" معتمدا على قوة الحجة، والأقدمية والسلطة.

وبدأ إنشاء خط بارليف، بدءاً من 15 مارس 1968، ولمدة عام كامل ينتهي في 15 مارس 1969، بتكلفة 248 مليون دولار واستخدم كل الإمكانيات المحلية في إنشائه، إذ اقُتلعت قضبان خط السكة الحديد (القنطرة/ العريش) والفلنكات (العوارض) الخشبية الضخمة لتكون أسقفاً لحصون الخط، وقام بالإنشاء شركات مدنية إسرائيلية. ويتكون الخط من 22 موقعاً حصيناً يحوى 31 نقطه قوية. وكل نقطه تمثل قلعة منفصلة، تتعاون مع القلاع الأخرى بالنيران، وحُصِّنت بكتل حجريه ورمال تقيها من قنابل تزن حوالي 1000 رطل، إذ أسقطت عليها مباشرة. ولكن كان الخطأ الوحيد في هذه القلاع أن لها فتحات "مزاغل" نيران في المواجهة، وهي التي استغلتها القوات المصرية في تدميرها بالضرب المباشر لتدخل القذائف من هذه الفتحات، وتنفجر داخل الدشم لتقتل كل من فيها.

ولزيادة صلابة هذه النقط الحصينة، فقد أنشأت النقط الأمامية على حافة القناة مباشرة، وتم دفع الساتر الترابى على طول الضفة الشرقية للقناة إلى حافة القناة مباشرة، وتم تعليته إلى ارتفاعات تتراوح ما بين 16 ـ 22 مترا ليشكل في مجمله (قناة مائية + ساتر ترابي + قلاع حصينة) مانعاً يحبط أمل أي قوات مصرية في مجرد التفكير في عبورها إلى الضفة الشرقية.

كان هذا هو خط بارليف الأول، الذي تمكنت القوات المصرية من تدمير 60 % منه أثناء حرب الاستنزاف من خلال الأعمال القتالية التي سترد فيما بعد.

خط بارليف الثاني

بعد إيقاف النيران في 8 أغسطس 1970 استغلت إسرائيل خبرات القتال، وتلافت نقاط الضعف في خط بارليف الأول. وقررت البقاء على فكرته وتطويره، ليصبح نظاماً دفاعياً متكاملاً تكلف حوالي 500 مليون دولار (إضافة إلى 248 مليون الأولى). وأعيد بناء النقط الحصينة بأسلوب متقدم، وباستخدام كميات هائلة من الخرسانة المسـلحة، فضلاً عن قضبان السكك الحديدية و "شباك الحجر" التي تمتص الصدمات الانفجارية، وألغيت فتحات المراقبة والتسديد (المزاغل) وتحولت إلى خنادق نيران مخفاة تماماً، وجُهِّز الساتر الترابي بنظام دفاعي متكامل، بإنشاء حفر دبابات على طول الساتر (160 كم)، وتبعد كل حفرة عن الأخرى حوالي 100 م.

أمّا الخطوط الدفاعية الأخرى، فقد تم إنشاء خط دفاعي ثاني على مسافة من 500 متراً إلى 3 كيلومترات، لانتشار الاحتياطيات المحلية والقريبة، ثم "خط المدفعية" على مسافة 5-8 كيلومترات. وتنتشر عليه القيادات بمستوياتها المختلفة، وبعض الاحتياطيات، ثم خط الاحتياطيات التكتيكية على مسافة 20 ـ 30  كمً، ثم معسكرات تخزين أسلحة قوات الاحتياطيات في عمق سيناء وداخل إسرائيل نفسها. وتم إنشاء مطارين جديدين، إضافة إلى إصلاح وتطوير المطارات المصرية في سيناء لاستخدامها. كذلك، جُهِّزت نقاط تمركز بحرية على طول الشواطئ.

واطمأنت إسرائيل لهذه التجهيزات، إلى الدرجة التي جعلت الجنرالين "موشي ديان وديفيد أليعازر" وهما قمة السلطة العسكرية، في إسرائيل، في 5 أكتوبر 1973. بأن يردا على سؤال السيدة/ جولدا مائير عن إمكانية عبور قوات مصرية لقناة السويس بـ "أن محاولة عبور مصريين للقناة مستحيلة، ولو حاول المصريون النزول إلى قناة السويس، فربما يتغير لونها من اللون الأزرق إلى اللون الأحمر لكثرة خسائرهم".


 



[1] بلغت 50 % من قواتها البرية، 100 % من قواتها الجوية وتم تعبئة 48 ألف عامل مدني لصالح المجهود الحربي

[2] انخفض معدل النمو الاقتصادي من 11 % عام 1969 إلى 8.5 % عام 1970، وزاد العبء الذي سيتحمله المواطن الإسرائيلي من 138 دولار عام 68 إلى 417 دولار عام 1970 بزيادة تصل 300 %

[3] يزيد الارتفاع الكنتوري للضفة الشرقية للقناة عن الضفة الغربية بمسافة 5 مترا بالإضافة إلى السواتر الترابية التي كانت هيئة قناة السويس قد أنشأتها لحجز نواتج الحفر عند التطهير الدوري للقناة، وبذلك كانت الضفة الشرقية ترتفع عن مثيلتها الغربية بحوالي 6-8 مترا) ثم تأتي إسرائيل لتجد ساترا جاهزا تقوم بتدعيمه ورفعه، وإنشاء حصون في قلبه ليكون هو خط بارليف الشهير