إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع في جنوبي السودان





موقع منطقة إبيي
المناطق الحدودية المختلف حولها

مناطق النفط جنوب السودان
أماكن معسكرات الفصائل
الموقع الجغرافي للسودان
التوزيع القبلي
التقسيم الإداري للسودان
التقسيم الإداري لجنوب السودان
تضاريس السودان
قناة جونجلي



المبحث الثالث

المبحث السابع

مشكلة جنوب السودان وأثرها على الأمن القومي

أولاً: نظام الحكم في السودان ودوره في تصعيد مشكلات الجنوب

تؤكد الأحداث قوة الارتباط بين مشكلة جنوب السودان، وتوجهات نظام الحكم في السودان على نحوٍ أكثر وضوحاً من ذي قبل. فضلاً عن أن توجهات السودان الإسلامية فيما عُرف بـ "التوجه الحضاري"، كان لها انعكاساتها السلبية على علاقات السودان الخارجية. إذ بدأت عدة دوائر إقليمية تتحدث عن مدّ قوي للحركات الأصولية انطلاقاً من السودان. وكما اتخذت دوائر دولية أخرى من مشكلة جنوب السودان، وسيلة للضغط على الحكومة السودانية لأحداث تغيرات تتعلق بحقوق الأقليات.

وقد تعمدت قوى المعارضة السودانية بشتى دعاتها في الخارج، توسيع نطاق المشكلة السودانية في المحيط الدولي، تمهيداً لإدخالها مجال التدويل، وإحراج النظام الحاكم من خلال إظهار تجاوزاته في مجال حقوق الإنسان. ومن هذه الزاوية اقتربت المعارضة السودانية من الجنوبيين، بيد أنهما اختلفا حول موضوع تقرير مصير الجنوب، واحتمالات الانفصال. فالحزب الاتحادي الديموقراطي، الذي وقع اتفاقاً مع الحركة الشعبية لتحرير السودان تضمن تنسيق العمل المشترك، رفض طرح فكرة تقرير المصير، لأنها ستؤدى حتماً إلى الانفصال، في ظل الأوضاع السودانية المتدهورة. في حين أعترف حزب الأمة بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، من خلال استفتاء يجرى بإشراف دولي. ومع ذلك أشارت بنود الاتفاق إلى وجود تباين في رؤى الطرفين في شأن جبال النوبة وإقليم أبيي وجبال الانقسنا، حيث رفض حزب الأمة حق تقرير المصير لهذه المناطق، التي يعتبرها جون قرنق مناطق تقع سياسياً في إطار الجنوب.

ازداد الوضع في السودان حرجاً على الصعيد الدولي، بعد ظهور عدد من التقارير ـ الرسمية وغير الرسمية ـ من شمال وجنوب السودان تندد بالانتهاكات في مجال حقوق الإنسان. وقد ساهم ذلك في زيادة حدة التوتر في العلاقات بين السودان وبعض الدول الغربية، التي وجدت في النظام السوداني تهديداً لمصالحها في القرن الأفريقي، وربما في وسط أفريقيا على وجه العموم. وساعدت شعارات السودان ذات الطابع الإسلامي، وسعيه الدؤوب في تأييد واستقطاب الحركات الإسلامية في المنطقة، وتعاونه مع إيران، خاصة في المجال العسكري، على تكتُل موقف دولي وإقليمي استهدفا تطويقه، والحد من محاولاته للتمدد ناحية الشرق الأفريقي.

1. محاولات الجبهة الإسلامية للسيطرة على السلطة

حاولت الجبهة الإسلامية دعم موقفها مبكراً، واختارت أسلوب التسلل إلى القوات المسلحة السودانية، ومحاولة توظيفها في دعم سلطة الجبهة. وكانت علاقة الجبهة بالقوات المسلحة قد بدأت منذ أوائل الخمسينات، حين بدأ تنظيم الأخوان المسلمين في إدخال بعض كوادره الكليات العسكرية، لتشكيل نواة للجناح العسكري للإخوان المسلمين. وشارك في محاولة الانقلاب الفاشلة التي حدثت عام 1959، الأمين العام للإخوان المسلمين، حينذاك، "الرشيد الطاهر بكر"، وأسهم في عملية التخطيط والتنفيذ، وحكم عليه بالسجن لمدة خمسة أعوام. وبعد المصالحة الوطنية عام 1977 انتهجت الجبهة الإسلامية تكتيكاً جديداً لاختراق القوات المسلحة، وأسهمت في الضربة التي وجهها نظام حكم الرئيس "جعفر نميري" إلى الأحزاب، لتنفرد الجبهة بالساحة، وأمكنها إدخال العديد من عناصرها في المؤسسات النظامية.

تزايد نشاط الجبهة الإسلامية داخل القوات المسلحة بشكل ملحوظ بعد عام 1979، حين تم إقناع الرئيس "نميري" بمنح بعض الضباط دورات في المركز الإسلامي الأفريقي في الخرطوم. كما عُقدت دورات قصيرة للرتب العليا داخل القيادة العامة، وشارك في المحاضرات الدكتور حسن الترابي (الأب الروحي للحركة الإسلامية في السودان). وقد شارك ضباط من الذين تلقوا تدريبهم في المركز الإسلامي الأفريقي في التخطيط والتنفيذ لانقلاب يونيه من عام 1989.

ثم تلا ذلك تحرك الجبهة، مع ثورة يونيه 1989 لإحكام سيطرتها على الدولة والقوات المسلحة. ومع قيام انقلاب 1989، أوقف المجلس العسكري العمل بالدستور، وألغى المؤسسات الدستورية القائمة، وحلّ الأحزاب السياسية والنقابات المهنية، التي كانت قد أصبحت قوة فاعلة في الحياة السياسية، منذ قيامها بالدور الأكبر عام 1985، في الإطاحة بحكم الرئيس نميري.

وقد اتخذت هذه الإجراءات بموجب مرسومين متتاليين، ركز أولهما على وقف العمل بالدستور، وإلغاء الجمعية التأسيسية "السلطة التشريعية"، وإقالة مجلس الوزراء "السلطة التنفيذية". ووضعت جميع السلطات في يد مجلس قيادة الثورة، التي أُطلق عليها  "ثورة الإنقاذ". أما المرسوم الثاني فَحَلّ الأحزاب والتكتلات السياسية، وصادر ممتلكاتها، تحت شعار تحقيق الوحدة الوطنية والإصلاح الاقتصادي، ووضع حد لعزلة السودان.

ولوحظ منذ بداية الثورة، أن الجبهة الإسلامية القومية، التي يتزعمها الدكتور حسن الترابي، لم ترفض الانقلاب، خلافاً لباقي الأحزاب والقوي السياسية والنقابية، كما أنها لم تعلن تأييدها له. وأثار ذلك الموقف الشكوك حول علاقة الجبهة بالانقلاب ودورها فيه. وعلى الرغم من تطبيق قرار حل الأحزاب على الجبهة، وتحديد إقامة الدكتور حسن الترابي واعتقال عدد من قيادات الجبهة، ألا أن كوادرها قامت بدور أساسي في دعم نظام الحكم الجديد، مثل:

أ. التعبئة لتأييد الانقلاب في أوساط الطلاب.

ب. التصدي لأعمال الاحتجاج المناوأة للانقلاب.

ج وضع القاعدة التنظيمية التي يستند إليها نظام الحكم، في غياب جهاز شعبي مؤيد له.

لم يثبت بدليل قاطع مشاركة الجبهة الإسلامية في الإعداد للانقلاب وتنفيذه، على الرغم من وجود علاقة ثابتة بين بعض قادة الانقلاب والحركة الأصولية في السودان. ولكن الأرجح أن هذه العلاقة كانت مع تنظيم الأخوان المسلمين التقليدي، الذي تجاوزه الترابي فكرياً وتنظيمياً بتشكيل الجبهة الإسلامية القومية، بل وطمح إلى تأسيس تنظيم إقليمي، وربما عالمي، يوازي التنظيم العالمي للإخوان. والاعتقاد الغالب الآن أن الجبهة الإسلامية لم تشارك في الانقلاب، الذي لم يكن ضمن خططها، حيث كانت قد اتجهت عشيته إلى الاشتراك في الحكومة الائتلافية لأول مرة، كبداية للتغلغل في مؤسسات الدولة والمجتمع. ولكن نجاح الانقلاب دفع الترابي، على الأرجح إلى تعديل خططه بسرعة لاستثمار الطابع الأصولي لمعظم قيادات الانقلاب، واستغلال حاجتهم إلى قوة منظمة تساعد النظام الجديد على ترسيخ سلطته، ومواجهة أي مقاومة من القوى والأحزاب الدينية، التي تفككت بعد اعتقال بعض قياداتها، وهرب بعضهم الآخر إلى الخارج، لتشكيل معارضة خارجية تجمعت حول التجمع الوطني السوداني.

ثبت بالفعل مدى أهمية الدعم، الذي قدمته الجبهة للنظام الجديد، الذي تمكن من أحكام سيطرته على الأوضاع في السودان، مستفيداً من تبدد الحماس الشعبي للنظام الديموقراطي السابق، أو من العجز والتخبط، اللذين اتسم بهما سلوك الأحزاب والقوى السياسية التي تعرضت للحل.

وبدأ النظام في السعي إلى صيغة جديدة للحكم، تسُدُّ الفراغ الناجم عن غياب جهاز شعبي للنظام، حتى في صورة تنظيم سياسي واحد، كالذي استند إليه نظام نميري. فأُعلن في نوفمبر 1989 عن فترة انتقالية لمدة خمس سنوات، يُنفّذ خلالها ما أطلق عليه "برنامج إنقاذ وطني شامل".

وسعى النظام للإفادة من التجربة الليبية، لإيجاد جهاز سياسي يستند إليه من خلال تشكيل لجان شعبية مفتوحة، لمن يرغب في المشاركة في العمل العام. وقامت كوادر الجبهة الإسلامية القومية بالدور الرئيسي في الإشراف على تشكيل هذه اللجان، في يوليه عام 1989، إلى جانب الأجهزة الأمنية للنظام، التي أعيد تشكيلها وتصفية العناصر الموالية لحزب الأمة والحزب الاتحادي فيها، ضمن عملية تطهير شاملة امتدت إلى القوات المسلحة ومختلف مؤسسات الدولة.

شُكلت لجنة للإعداد لعقد مؤتمر، أُطلق عليه مؤتمر "الحوار الوطني". ووضع وثيقة تقوم على أساس الصيغة الفيدرالية، سعياً إلى حل مشكلة الجنوب في إطارها. وبدأ المؤتمر عمله في أغسطس 1990، بمشاركة 501 عضواً. وترتب على ذلك وضع نظام جديد لتقسيم السودان إلى تسع ولايات، بدلاً من نظام الأقاليم السابق كأساس لنظام فيدرالي، وإنشاء مجلس وطني انتقالي يُراعي التمثيل الفئوي، ويضم أعضاء مجلس قيادة الثورة، والوزراء، والولاة (حكام الولايات) ورؤساء لجان الإنقاذ في الولايات. وصدر مرسوم لنقل الصلاحيات التشريعية، من مجلس قيادة الثورة إلى هذا المجلس الوطني الانتقالي. وأصبح هذا المجلس بمثابة الجهاز التشريعي للسودان على الرغم من أنه لم يُشّكْل بالانتخاب، ويضم 302 عضواً، منهم عناصر كانت تنتمي للأحزاب، التي تم حلها، وانشقت عليها.

وفي هذا السياق اتسمت عملية بناء نظام الحكم الجديد بالارتباك والتجزئة، في غياب تصور شامل للشكل النهائي، الذي سيتطور إليه هذا النظام. ويرجع ذلك أساساً إلى العجز عن تحديد موقع الجنوب من هذا النظام. فقد اتجه قادة النظام للتركيز على طرح صيغة فيدرالية لهذه العلاقة، دون استبعاد احتمال انفصال الجنوب كخيار أخير، بدا ـ لبعض الوقت ـ أن الجبهة الإسلامية القومية تفضله، طالما أن استمرار الجنوب جزءا من الدولة السودانية، أيا كانت طبيعتها، يعرقل إقامة نظام إسلامي في السودان.

وقد اتجه النظام للتفاوض مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، منذ لقاء أديس أبابا، في أغسطس 1990. لكن تدهور أوضاع الحركة وانقسامها على نفسها، تحت وطأة الضربات التي وجهتها لها القوات المسلحة، أتاح للنظام التفاوض من موقع القوة، والإصرار، على الصيغة الفيدرالية، مع إمكان إعفاء المناطق الجنوبية غير المسلمة من أن تطبق عليها القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية. وقد رجح ميزان القوى بشكل واضح لصالح القوات الحكومية، نتيجة تغيرات إقليمية، منها انهيار نظام منجستو في إثيوبيا، الذي كان مصدراً مهماً لدعم المقاومة في الجنوب. لكن بشكل عام، ظلت مشكلة الجنوب هي العامل الرئيسي في عدم تبلور صيغة واضحة نهائية لنظام الحكم في السودان، على الرغم من تركيز سلطته، وبناء جهاز شعبي مساند له في صورة اللجان الشعبية للإنقاذ، وتشكيل المجلس الوطني الانتقالي. وعلى هذا النحو أصبح نظام الحكم يعتمد على سلطة الفرد الواحد، لكنه محكوم بإطار إسلامي يعكس النفوذ المتزايد للجبهة الإسلامية القومية، التي تقدم الغطاء الأيديولوجي للنظام. والملاحظ أن هذا الغطاء ليس إسلامياً فقط وإنما يتضمن مكونات عدة، منها ما يُطلق عليه "ديموقراطية المشاركة المباشرة"، و"المؤتمرات الشعبية". والمقصود بذلك المؤتمرات التي عقدتها اللجان الشعبية، وأُطلق عليها "المؤتمرات الأساسية" باعتبارها تمهيدا لعقد مؤتمر وطني عام.

ويُعلل النظام طابعة الإسلامي بدعوى أن أهم الأحزاب، التي عرفها السودان في تاريخه هي أحزاب إسلامية، بما في ذلك الأحزاب المعارضة له الآن، مثل حزب الأمة، والحزب الاتحادي بجناحيه. ولذلك يقول الفريق البشير: "إن الشارع السوداني في جوهره هو شارع إسلامي، وقد جئنا نحن وطرحنا الطرح نفسه، الذي تبنته أهم الأحزاب، لكن في إطار موحد، لتوحيد كل القوى السياسية في البلاد".

2. التوجه الحضاري للدولة

هو توجه إسلامي، ولتحقيقه اتُخذت الإجراءات الآتية:

أ. ركز الأصوليون على القوات المسلحة ليحكموا سيطرتهم عليها، ولخصوصية المؤسسة العسكرية عملت الدولة على تفكيكها ببطء وحذر كالإلغاء تماماً، وتفادى شرها نهائياً بالقضاء عليها وإنشاء الجيش الإسلامي مكانها، الذي تم التخطيط لإقامته منذ أمد بعيد.

ب. قوات الدفاع الشعبي، والتي يرجع ظهورها إلى حكم الصادق المهدي، حين أسسها بهدف مساندة القوات المسلحة في الحفاظ على استقرار البلاد، عندما كُثفت العمليات العسكرية في الجنوب والغرب، لمواجهة الهجمات العسكرية في دارفور وكردفان، تولدت الشكوك حول هوية تلك القوات وانتمائها. فأعلنت الحكومة "قانون الدفاع الشعبي" في الخامس من شهر نوفمبر عام 1989، ودعت المواطنين إلى الانضمام له "بنية الجهاد".

واعتمد النظام في السودان على منظمات الدفاع الشعبي لفرض مبادئه، وتوثيق حكمه. وهدف قانون الدفاع الشعبي إلى:

(1) إعادة تنظيم الميليشيات التي سبق إنشاؤها، خاصة في كردفان ودارفور، بعد ضعفها.

(2) الاستفادة من معسكرات التدريب الخاصة بتلك القوات، وتخصيص الجزء الأعظم من فترة الأسابيع الستة المقررة للتدريب، لإعداد كوادر من الطلاب والشباب على مستوى عال من الثقافة الإسلامية والمعرفة الدينية.

ج. الالتزام بالزي الإسلامي للنساء، في أماكن الدراسة والعمل والأسواق.

د. تعريب التعليم، حيث أصبح تدريس كل المواد في كل المراحل التعليمية باللغة العربية، اعتباراً من عام 1991، وتم طرد البعثات التبشيرية المسيحية الأجنبية. وترتب على ذلك ظهور العديد من المشاكل في مواجهة المدارس الخاصة، التي كان يغلب عليها الطابع العلمانيِ.

ونتيجة للتوجه الإسلامي، الذي تبنته الدولة في سياساتها الداخلية والخارجية، خاصة على المستوى الإقليمي، رأت دول الجوار الجغرافي الأفريقية على وجه التحديد، أن هذا التطور فيه ما يخل بأسس العلاقات الدولية القائمة على حسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتطبيق قواعد التعاون المتبادل. كما هدف النظام أن يكون السودان، في ظل تجربته الإسلامية، نقطة ارتكاز وانطلاق لمشروع "أسلمة" الحكم، ويكون لذلك تأثير إقليمي ودولي، على أن تكون الدول المحيطة بالسودان دولاً متشابهة معه، وبما يحمي التجربة السودانية ذاتها. ويُفسر هذا الالتزام سياسة السودان تجاه دول الجوار الجغرافي، وردود أفعال تلك الدول.

ثانياً: تهديدات الأمن القومي

أثارت مشكلة الجنوب عدداً من التهديدات على المستويين، الداخلي والإقليمي، من النواحي الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن السياسية والعسكرية.

1. التهديدات الداخلية

أ. التهديدات الاقتصادية

(1) يؤدي الخلل الاقتصادي إلى التبعية الاقتصادية، ثم التبعية السياسية، ويُهدد باستقطاب السودان، واستمرار الصراع العسكري في الجنوب وزيادة الإنفاق العسكري. إن حرمان السودان من بترول الجنوب والتنمية الاقتصادية فيه، زاد من الخلل الاقتصادي وفرص الاستقطاب.

(2) خلق التفاوت الاقتصادي بين الشمال والجنوب أحقاداً لدى الجنوبيين، انعكست على الصراع، نتيجة لإحساس الجنوبيين بأن المشروعات الاقتصادية، التي تقام في الجنوب لن يستفيد منها أهله. وقد  دفع ذلك الجنوبيين إلى تعطيل هذه المشروعات ليساوموا بها، كما حدث في مشروع قناة جونجلي.

(3) تعطيل استغلال بترول الجنوب يزيد القوة التفاوضية للمتمردين، ويدعم الميول الانفصالية، ويحرم السودان من عائدات النفط، ويمنعه من إمكانية تمويل المشروعات الاقتصادية. كما يؤدي إلى نقص الطاقة اللازمة للمشروعات، ويزيد من اعتماد السودان على المساعدات النفطية من ليبيا وإيران، ومن ثمّ زيادة نفوذهما في السودان.

ب. التهديدات الاجتماعية

(1) انتشار التيارات العلمانية والماركسية ـ التي يعتنقها قادة التمرد ـ في جنوب السودان وشماله. كما أن الشيوعية والمسيحية الغربية تحالفتا معاً في الجنوب ضد مصالح مصر منذ عام 1974، في أحداث جوبا ورومبيك، لتعطيل مشروع جونجلي، ورفض العمالة المصرية السودانية. وقد أثر ذلك على حماية الأهداف والمصالح المشتركة، والأمن المشترك.

(2) نجحت المسيحية والماركسية في الجنوب، بالتحالف مع مؤيديها في الشمال، في إيقاف العمل بالشريعة الإسلامية في جنوب السودان، وهي تعمل على تعديل الدستور ليكون علمانيا.

(3) نجاح تمرّد الجنوب يشجع الحركات العنصرية الأخرى ويدعمها، في شرق السودان وغربه. وهي تُعارض التعاون المصري ـ السوداني، مما يهدد، مستقبلاً، بتحالف حركات الشرق والغرب مع الجنوب، وتطويقهم شمال السودان ومصر، وعزلهما عن حوض النيل بعنصريات وأيديولوجيات معادية.

(4) تعمل التيارات الفكرية والأيديولوجية الأجنبية في الجنوب، لخدمة السياسة المناهضة، وتؤثر في حرية القرار السوداني. كما أن الأمية والفقر والتخلف الحضاري والتشرذم الديني، كلها عوامل لا تدعم فكراً ووجداناً مشتركاً للشعبين السوداني والمصري، لأن الفكر والوجدان لم يعودا متوفرين أساسا بين شمال السودان وجنوبه، مما يعرقل تقارب الدولتين اجتماعياً وتحقيق أهدافهما ومصالحهما المشتركة.

ج. التهديدات السياسية

(1) تعقد مشكلة الجنوب وتعدد أبعادها، مع عدم توافر الإمكانيات الذاتية للحل الشامل الدائم، لا يبشر بحل دائم في المستقبل القريب، مما يهدد باستمرار الإضرار بالمصالح النيلية المشتركة في الجنوب، بعدم زيادة حصة المياه. لأن من أول المطالب التي يثيرها الجنوبيون إعادة النظر في اتفاقية مياه النيل، التي تُعطي مصر أكثر من حقها في نظرهم. فالقضاء على التمرد العسكري وحده، من دون حل المشكلة الأصلية عميقة الجذور، لن يفرز إلاّ مزيداً من اتفاقيات هشة قابلة للسقوط في أول مواجهة.

(2) تُضعف مشكلة الجنوب وحركة التمرد، كيان السودان وتُهدد أمنه واستقراره. كما أنها لا تحقق الإجماع القومي على الأهداف، والمصالح القومية المشتركة.

(3) تهدد النزعة العنصرية في مشكلة الجنوب وحركة التمرد، بالانتشار إلى العنصريات الأخرى في شرق السودان وغربه. وهي أحد مظاهر عدم اكتمال التكوين القومي لشعب السودان، إذ لا تزال كل قبيلة محتفظة بنقائها، وتتحفظ في الاندماج في القومية السودانية التي تصهر كل القبائل والأعراق، بما يضعف سيطرة الحكومات، ويقلل قدرتها على وضع حل متكامل للمشكلة، وصعوبة اتخاذ سياسات قومية تحوز الإجماع الشعبي. ولا تستطيع الحكومات التمسك بالاتفاقيات مع مصر، كما حدث بعد الانتفاضة، من مطالبة بإعادة النظر في اتفاقية مياه النيل لسنة 1959.

(4) محاولات الوقيعة بين مصر والسودان، بتفسير أن اهتمام مصر بحل مشكلة الجنوب، يعني وجود علاقات سياسية مصرية مباشرة مع الجنوب، مما يدفع السودان لإبعاد الوساطة المصرية لحل المشكلة على الرغم من أهميتها، ويضاعف حساسية العلاقات المصرية السودانية، وينعكس على التعاون السياسي المشترك لتحقيق المصالح المشتركة. بينما تفسـر المعارضة الجنوبية وحركة الخوارج أي تكتل سياسي مصري سوداني، على أنه تحالف عربي إسلامي على حساب الجنوب. ولذلك يأتي رفض التكامل واتفاقية الدفاع المشـترك كشرط جنوبي للحوار مع الشمال، مما يعرقل تكتل الدولتين سياسياً.

(5) تصر المعارضة الجنوبية في الداخل، وحركة الخوارج، على تعديل الدستور ليكون علمانياً، ويُنص فيه على الاعتراف بوضع خاص للجنوب، ونظام حكم فيدرالي، وقد عطل ذلك إنجاز دستور دائم وفرض إدارة الأقلية على الأغلبية، مما يشجع أي مطالب مشابهة في مصر، ويهدد أمنها ووحدتها الوطنية.

د. التهديدات العسكرية

(1) إن أخطر ما يهدد السودان ومصر هو تهديد مصدر الحياة في كلا الدولتين، وهو منابع النيل. وتعد مشكلـة جنوب السودان مشكلـة داخلية، مدعومة من قوى خارجية عديدة، مما لا يبشر بالحل الشامل الدائم في المستقبل القريب، وهذا يؤخر تنفيذ تنمية الموارد النيلية ويهددها، كما يورط القوات السـودانية في الجنوب، ويعوقها عن مواجهة التهديدات الخارجية الرئيسية.

(2) أثرت مشكلة الجنوب وحركة التمرد في فعالية اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والسودان، فزيادة حجم القوات السودانية في الجنوب، وتنوع اتجاهات التهديد، وزيادة القوات الدفاعية في الجنوب أعاقت تخصيص ميزانية لتجهيز مسرح العمليات في الاتجاه الشرقي والغربي. فضلاً عن أن القتال في الجنوب أحدث خسائر بشرية ومادية، أضعفت القوات العسكرية الحكومية.

2. التهديدات الإقليمية وأثرها

أ. التهديدات الاقتصادية

(1) تهدد مشكلة الجنوب وحركة التمرد التعاون الإقليمي مع دول حوض النيل، وتشكك في هدف التكامل المصري ـ السوداني وتطالب بإلغائه، وترى أن التكامل مقدمة لوحدة على حساب الجنوب الأفريقي. ولمّا كان  نهر النيل يعدّ الركيزة الأساسية لبدء مسيرة التكامل بين مصر والسودان، فإن مشكلة الجنوب ظلت تؤثر على إمكانية تحقيق الأهداف المشتركة للدولتين، وتعوق تعاونهما، الفني والاقتصادي، لتطوير استغلال النهر.

(2) تتحقق تنمية موارد النيل في التغلب على فاقد المياه في جنوب السودان، وإقامة مشروعات للري مع دول حوض النيل. وتحتاج هذه العملية إلى استقرار الأوضاع في جنوب السودان أولاً، حتى يمكن إعادة العمل في قناة جونجلي وباقي المشروعات المطلوبة، مثل مشروعات التخزين في أعالي نهر السوباط داخل الجنوب، ومشروعات زيادة التخزين في البحيرات الاستوائية بتنفيذ مشروع جونجلي.

(3) زيادة النفقات الدفاعية، مع تدني الوضع الاقتصادي السوداني المتأثر بمشكلة الجنوب، الذي زاده سوءاً فقد مصادر بترول الجنوب وعائداتها، يُضعف التنمية والقدرة القومية للسودان. وتعجز موارده عن صيانة مصالحه القومية وأمنه القومي. وهناك رأي يقول إن ليبيا استغلت ضائقة السودان الاقتصادية، وحاجته النفطية والغذائية والعسكرية، فأمدته باحتياجاته، مما زاد النفوذ والوجود الليبيين في السودان. وبدأت ليبيا تعمل على تكامل إقليم دارفور مع منطقة الكفرة الليبية، ومعاونة السودان على تعلية خزان الروصيرص وطالبت السودان بإلغاء التكامل.

(4) محاولة التمرد فصل الجنوب عن الشمال، فضلاً عن تعاون ليبيا مع إثيوبيا من قَبْل لدعم حركة التمرد.

ب. التهديدات السياسية

(1) ما يدور في الجنوب يجد له صدى لدى دول الجوار، ذات القبائل الحدودية المشتركة، والتي تأوي المعارضة الجنوبية أو حركة التمرد. وتنعكس آثار ذلك في العلاقات مع السودان. كما تؤثر المشكلة في علاقات السودان مع الدول الأفريقية بما تبثه حركة التمرد من دعاية، على اعتبار أن هناك حـربا عنصرية يشنها العنصر العربي المسلم ضد زنوج أفريقيا، مما يؤثر مباشرة في دول حوض النيل ويعرقل تعاونها في مجال المصالح النيلية، ويعرضها للاستقطاب. وكل ذلك يسمح بتزايد نفوذ القوى الاستعمارية وإسرائيل في دول المنابع، ويهدد مصالح السودان.

(2) احتمال انفصال الجنوب وعزل السودان ومصر عن أفريقيا ومنابع النيل، يحّول موارد مياه النيل في الجنوب من تبعيتها المحلية للسودان، إلى تبعية دولة جديدة معادية لا يمكن التحكم في المياه المارة بها ويصعب تنميتها. وقد تلجأ الدولة الجديدة إلى الضغط باستخدام المياه وسيلة للمساومة.

(3) نجاح حركة التمرد يساعد إثيوبيا في موقفها التفاوضي المتشدد مع السودان في مجال النزاعات الحدودية، وذلك باستخدام الجنوب كورقة ضغط على السودان لتنفيذ مطالب إثيوبيا، خاصة في مشكلة الحدود بين الدولتين.

(4) تهدف إسرائيل إلى تهديد العمق الإستراتيجي لمصر والسودان وحرمانهما منه، من خلال الحصار الأفريقي المناهض لهما. وجنوب السودان أحد أهداف إسرائيل، باعتباره كياناً مؤهلاً ليكون عازلا بين أفريقيا ومصر والسودان، ويطوقهما ويتحكم في مصادر النيل، ويعرقل تعاونهما. فضلاً عن سعي إسرائيل لاستغلال علاقتها بالجنوب، في تعميق العلاقات مع دول حوض النيل المتعاطفة معه، للحصول على موافقتهم وضغطهم على مصر لإمداد إسرائيل بحصة من مياه النيل، وما يتبع ذلك على الزيادة الكبيرة في قدرة إسرائيل الاقتصادية واستيعاب الهجرة، ثم إلى مضاعفة قدراتها، وأثره المباشر على الأمن القومي العربي.