إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / القدس (سياسياً... وتاريخياً... ودينياً)




وثيقة الأمان العمري
باب ستنا مريم
قبة الصخرة

مملكتي اليهودية وإسرائيل
إنشاء الوحدات السكنية في المستعمرات
مجسم لقبة الصخرة
مجسماً لمدينة إيليا كابيتولينا
الأطواق الاستيطانية حول القدس
الاستيطان اليهودي
الحفريات حول الحرم الشريف
القدس والنفق ـ الأزمة
القدس والانتداب البريطاني
القدس تحت الاحتلال البريطاني
القدس في الثمانينيات
القدس في التسعينيات
القدس في الخمسينيات
القدس في الستينيات
القدس في السبعينيات
خطة الأمم المتحدة للقدس
فلسطين في عهد سليمان وداود

الأوضاع النهائية في فلسطين
الأراضي المصادرة في القدس
القدس منذ عام 1967
القدس بين عامي 1949-1967
قرار تقسيم فلسطين



بسم الله الرحمن الرحيم

المبحث الثالث

القدس وبداية الانتداب البريطاني

أولاً: العصر العثماني

    استقرت القدس في أيدي سلاطين المماليك، حتى دخلها العثمانيون، سنة 1516. وظلت في إطار الدولة العثمانية الإسلامية لمدة أربعة قرون، حتى دخلها البريطانيون، إبّان الحرب العالمية الأولى، بقواتهم العسكرية، تحت قيادة إدموند اللنبي Edmund Allenby، عام 1918.

    وبوجه عام، فإن نهاية دولة المماليك، ودخول الشام تحت سيطرة العثمانيين (1516م)، لم يترتب عليهما تغيير يُذكر، بالنسبة إلى مدينة بيت المقدس، سواء في وضعها الإداري، أو وضع الأقليات الدينية فيها، على الرغم مما شهده العصر العثماني من تدفق ملحوظ من جانب الأوروبيين، وخصوصاً إلى بلاد الشام التي شهدت قُدوم الأجانب، وتنازل الدولة العثمانية عن كثير من حقوقها، في شكل امتيازات، مُنحت لهؤلاء الأجانب.

    بعد حرب القرم (28 مارس 1854 ـ 1 فبراير 1856)، حدثت منافسات وصراعات حول ملكية الأماكن المقدسة وحقوق الطوائف المسيحية فيها. ما دعا السلطان العثماني إلى إصدار "فرمان" خاص، بتنظيم وتوزيع وترتيب الأماكن المقدسة بين تلك الطوائف (اُنظر ملحق الكنائس والآثار المسيحية في القدس). وقد ثُبت نظام التوزيع والترتيب هذا في معاهدتَي باريس (30 مارس 1856) وبرلين (1878)، وعرف باسم "الستاتوكو Statuquo". وقد وضع هذا الترتيب بين البطريركية الأرثوذكسية للروم، وحراس الأراضي المقدسة الفرنسيسكان، وبطريركية الأرمن، والأرثوذكس، وطائفة اللاتين الفاتيكانية، وحقوق الطوائف المسيحية في القدس، كالأحباش والأقباط والسريان، مما يدل، بوضوح، على أن تلك الصراعات، نشأت عن النزاع بين الكاثوليك والأرثوذكس أساساً، أو بين فرنسا وروسيا. والمعروف أن الحروب بين الدولة العثمانية والغرب، قد أدت إلى نشوء نظام الامتيازات والحمايات الأجنبية. ووقع ميثاق مع فرنسا، عام 1535م، ثم عام 1604م، ضمن لفرنسا رعاية مصالح المسيحيين والأماكن المقدسة في فلسطين (حرية الزيارات والإقامة والتنقل والممارسة الدينية)، ما أدى، تدريجياً، إلى تحوُّل فرنسا إلى الحامي الرسمي للأماكن المقدسة المسيحية في الدولة العثمانية.

    وتلا ذلك توقيع معاهدة كارلوفيتز Karlowitz مع النمسا (26 يناير 1699)، ومعاهدة كوتشوك قينارجي Kaainardji-Kuchuk مع روسيا (16 يوليه 1774) ومع أسبانيا (1762) وإنجلترا (1845)، وصولاً إلى باريس وبرلين. وقد نظمت كل هذه المعاهدات والمواثيق ورعت الحماية الأجنبية للأماكن المقدسة، ما أدى إلى نزاعات مستمرة، انتهت بفرمان "الستاتوكو".

    وإذا كانت معاهدة باريس (30 مارس 1856)، قد أثبتت امتيازات فرنسا في حماية الأماكن المسيحية المقدسة، دون غيرها من الدول، وأعطتها الطابع الحقوقي الدولي، في حين أنها كانت، قبل ذلك، نابعة من التعاقد الثنائي بين الدولة العثمانية، ذات السيادة على هذه الأماكن، والدول الأوروبية منفردة، فإن معاهدة برلين (1878)، وسّعت صلاحيات بقية الدول العظمى فيما يخص الحماية الدولية للأشخاص الأجانب ولمؤسساتهم الدينية (اُنظر ملحق المعابد اليهودية في القدس)، وأثبتت الحقوق الراهنة (الستاتوكو) لكل الدول، موقعة المعاهدة. وبقي هذا الوضع هو القاعدة الأساسية للتعامل الدولي حتى الحرب العالمية الأولى، واحتلال الإنجليز للقدس. وفي هذا التاريخ، أعلن الجنرال اللنبي تعهد الحكومات المنتصرة بالمحافظة على الوضع الراهن للأماكن المقدسة.

    لم تكن هذه الامتيازات خطراً على الدولة، وهي في عنفوان قوّتها، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. ولكن هذه الامتيازات، بعد ذلك، تحولت إلى حقوق، اكتسبت شرعيتها بفعل ديمومتها مع الزمن، من جانب، وضعف الدولة العثمانية من جانب آخر. وشملت هذه الامتيازات إعفاءات كثيرة، لعل أخطرها السماح للأوروبيين بممارسة نشاطاتهم الدينية، خصوصاً في بلاد الشام. وأصبح التسابق على أشده بين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت، وتمادي الأمر إلى السماح ببناء العديد من المؤسسات التعليمية والتثقيفية المسيحية. وحينما أدركت الدولة العثمانية خطر الموقف، كان الزمن قد مضى، وكان الرجل المريض (الدولة العثمانية)، قد تدهورت حالته، وتكالبت عليه المطامع الأوروبية، التي أودت بحياته.

    وفي ظل الامتيازات، التي قدّمها العثمانيون إلى الأجانب عموماً، كان لليهود دور متزايد، لا يتناسب مع قِلة عددهم. فعددهم لم يزد، في فلسطين عموماً، خلال القرون الثلاثة الأولى من الحكم العثماني، على عشرة آلاف نسمة. وكانوا ثلاثة أمثال هذا العدد في بلاد الشام كلها.

    أوجدت هذه الكثرة العددية لليهود (في بلاد الشام) العديد من المسارب اليهودية إلى القدس، حيث نمت مؤسساتهم التعليمية بشكل ملحوظ. وعندما أدركت الدولة العثمانية خطر الامتيازات، التي فتحت الباب على مصراعيه، لم تستطع أن تحُول دون نمو هذه الامتيازات، التي أصبحت مواثيق مذلة للعثمانيين، آلت إلى سقوط دولتهم، عقب الحرب العالمية الأولى.

ثانياً: الانتداب البريطاني في فلسطين

    تبرز في القرن التاسع عشر، قضيتان مهمتان، أولاهما: المسألة الشرقية، التي تمثلت في عملية التربص بإرث الخلافة العثمانية، التي كانت إمبراطورية شاسعة، ولكن الوهن أصابها، فتهيأت كل ممتلكاتها، الأوروبية والآسيوية والأفريقية، لتكون ميراثاً للمنتصرين، ومن ثم، راح كل طرف منهم يطالب بنصيبه من الإرث.

وأما القضية الثانية، التي بدأت تظهر، تدريجياً، منذ بداية القرن، فتمثلت في المسألة اليهودية. وهي قضية ديانة، توزع أتباعها في أنحاء الأرض، ويتعرضون، بين الحين والآخر، لغارات دموية، تولدها احتكاكات دينية واجتماعية وفكرية. وكان يهود العالم، منذ مأساة الخروج مع المسلمين من الأندلس، في عام 1492، موزعين بين أوروبا وشمالي أفريقيا. وقد لجأ الكثيرون منهم إلى العالم الإسلامي، في نهاية العهد المملوكي، وبداية التوسع العثماني التاريخي في العالم العربي. ومنذ تلك الأيام، كان الحديث عن العودة إلى فلسطين نداء، يردده الحاخامات بين حقبة وأخرى، ولم يكن هناك من يأخذ هذا النداء مأخذ الجدّ.

    وقد حاول نابليون بونابرت Napoleon Bonaparte، في نهاية القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر، أن يعزف على الوتر الديني اليهودي لتكون فلسطين، وهي حينذاك من أملاك الخلافة العثمانية، التي يتسابق الكل إلى إرثها، الوطن الموعود والمختار لليهود، برعاية فرنسا، فتكون فلسطين نقطة انطلاقة للإمبراطورية البونابرتية في قلب الخلافة العثمانية، في وقت كان التنافس الدولي بين فرنسا وإنجلترا على أشده، علاوة على القوى الاستعمارية الأخرى. ومن المحقق، أن بعض علماء الحملة الفرنسية، بدأوا، مبكراً، في الاتصال ببعض حاخامات اليهود في فلسطين، مثل "موسى موردخاي" و"جاكوب الجازي". وكانت ورقة نابليون، التي أظهرها لليهود أمام أسوار القدس، في عام 1799، نداء إلى يهود العالم، لم يوزع في فلسطين وحدها، وإنما جرى توزيعه، آنذاك، في فرنسا وإيطاليا والإمارات الألمانية، وحتى أسبانيا، الأمر الذي يشير إلى أن القضية، كانت أكبر وأوسع من ظرف محلي، واجهه نابليون حينما استعصت عليه أسوار القدس.

وجاء نداء نابليون إلى يهود العالم على النحو التالي:

    "من نابليون بونابرت، القائد الأعلى للقوات المسلحة للجمهورية الفرنسية في أفريقيا وآسيا، إلى ورثة فلسطين الشرعيين. أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد، الذي لم تستطع قوى الفتح والطغيان، أن تسلبه نسبه ووجوده القومي، وإن كانت قد سلبته أرض الأجداد فقط. إن مراقبي مصائر الشعوب الواعين المحايدين، وإن لم تكن لهم مقدرة الأنبياء، مثل إشعياء ويؤئيل، قد أدركوا ما تنبأ به هؤلاء بإيمانهم الرفيع، أن عباد الله، سيعودون إلى صهيون، وهم ينشدون، وسوف تعمّهم السعادة، حين يستعيدون مملكتهم دون خوف. انهضوا، بقوة، أيها المشردون في التيه. إن أمامكم حرباً مهولة، يخوضها شعبكم، بعد أن اعتبر أعداؤه أن أرضه، التي ورثها عن الأجداد، غنيمة تقسم بينهم حسب أهوائهم. لا بد من نسيان العار، الذي أوقعكم تحت نِير العبودية، وذلك الخزي، الذي شل إرادتكم لألفَي سنة. إن الظروف لم تكن تسمح بإعلان مطالبكم، أو التعبير عنها، بل إن هذه الظروف أرغمتكم، قسراً، على التخلي عن حقكم. ولهذا، فإن فرنسا تقدّم إليكم يدها الآن، حاملة إرث إسرائيل، وهي تفعل ذلك، في هذا الوقت بالذات، وعلى الرغم من شواهد اليأس والعجز … إن الجيش، الذي أرسلتني العناية الإلهية به، ويمشي بالنصر أمامه وبالعدل وراءه، قد اختار القدس مقراً لقيادته، وخلال بضعة أيام، سينتقل إلى دمشق المجاورة، التي استهانت طويلاً بمدينة داود وأذلتها … يا ورثة فلسطين الشرعيين … إن الأمة الفرنسية، التي لا تتّجر بالرجال والأوطان، كما فعل غيرها، تدعوكم إلى إرثكم، بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء … انهضوا، وأظهروا أن قوة الطغاة القاهرة، لم تخمد شجاعة أحفاد هؤلاء الأبطال، الذين كان تحالفهم الأخوي شرفاً لإسبرطة وروما، وأن معاملة العبيد، التي طالت لألفَي سنة، لم تفلِح في قتل هذه الشجاعة … سارعوا ! إن هذه هي اللحظة المناسبة ـ التي ربما لا تتكرر لآلاف السنين ـ للمطالبة باستعادة حقوقكم ومكانتكم بين شعوب العالم، تلك الحقوق التي سلبت منكم لآلاف السنين، وهي وجودكم السياسي، كأمة بين الأمم، وحقكم الطبيعي المطلق في عبادة إلهكم يهوه، طبقاً لعقيدتكم. وافعلوا ذلك في العلن، وافعلوه إلى الأبد " … بونابرت.

    إن ورقة نابليون اليهودية هذه، هي الوثيقة التي تستحق الاهتمام في السياق التاريخي، لأنها الأثر الإستراتيجي الباقي في المنطقة من تلك الأيام.

    لم يكن نابليون بونابرت يهودياً، ولا موالياً لليهود. ولكن ورقته اليهودية، المتمثلة في ندائه يهود العالم، من خارج أسوار القدس، هي التي تعبّر عن دوره، ودور فرنسا، في مساندة التحرك اليهودي. لم يكن في مقدور اليهود، مهْما فعلوا، أن ينصروه، أو يخذلوه. ولكن كانت تلك رؤية القائد الفرنسي، الذي كان يملك حساً إستراتيجياً نابهاً وبعيداً، حتى إنه من الثابت أن نابليون، بعد عودته من حملة مصر، وإعلان نفسه إمبراطوراً لفرنسا، حضر اجتماع المحفل اليهودي الأكبر، في سنة 1807، في باريس، ورُسمت لوحة لهذا المحفل، وظهرت ضمن مجموعة رأسمالي يهودي هو إسرائيل سولومون، في عام 1860. وقد سمح ابنه بنشرها، وظهرت مطبوعة، للمرة الأولى، في سنة 1871. ولا شك أن حضور نابليون اجتماع المحفل اليهودي المذكور، يوضح مدى اهتمامه باستقطاب يهود العالم لمصلحة فرنسا.

    وعلى الرغم من أفول نجم نابليون في أوروبا، عام 1815، فإن الرؤى الإستراتيجية الواسعة للفاتحين الكبار، لا تموت بموتهم، وإنما تبقى في ذاكرة التاريخ بعدهم، تنتظر غيرهم، ممن يجدون الجرأة والجسارة على استعادتها من جديد، جزئياً أو كلياً.

    ويأتي الحديث عن الدور البريطاني، إذ كان "بالمرستون Viscount Palmerston"، شأنه شأن ساسَة جيله، يعرف ما فيه الكفاية عن المسألة اليهودية. وبالطبع، فإنه، من موقعه وزيراً لخارجية بريطانيا، ثم رئيساً لوزرائها، كان مشغولاً بالمسألة الشرقية. والوثائق البريطانية حافلة بالشواهد على تطور فكر رئيس وزراء بريطانيا، حتى وصل إلى تحديد ثلاثة أهداف للسياسة البريطانية في الشرق الأدنى، خاصة بمواجهة محمد علي باشا، على ثلاث مراحل: أولها، إخراج محمد علي من سورية، لفك ضِلْعي الزاوية المصرية ـ السورية. وثانيها، حصر محمد علي داخل الحدود المصرية، وراء سيناء، وتحويل هذه الصحراء إلى منطقة عازلة. وثالثها، قبول وجهة النظر القائلة بفتح أبواب فلسطين لهجرة اليهود إليها، وتشجيعهم على إنشاء شبكة من المستعمرات الاستيطانية فيها، ليكون منها، ذات يوم، عازلاً، يحجز مصر عن سورية، ويمنع لقاءهما في الزاوية الإستراتيجية الحاكمة. وكانت أهداف بالمرستون تلقى تأييداً ومساندة من اللورد "ويلّنجتون Wellington"، قائد الجيوش البريطانية. ومن الملاحظ، أن كثيراً من التقارير في الوثائق البريطانية، تشير إلى أن ويلّنجتون، هو صاحب نظرية مواجهة محمد علي، على ثلاث مراحل.

    وقد كتب بالمرستون مذكرة، في 11 أغسطس 1840، إلى سفيره في عاصمة الدولة العثمانية، بشأن توطين اليهود في فلسطين (اُنظر ملحق مذكرة بالمرستون إلى سفير بريطانيا في تركيا). كما كتب، مرة أخرى، رسالة، في فبراير 1841، إلى سفيره لإقناع السلطان بإباحة هجرة اليهود إلى فلسطين (اُنظر ملحق رسالة بالمرستون إلى سفيره في تركيا). ومن المثير للتأمل، أن عدد اليهود في فلسطين، آنذاك، في نهاية عام 1840، كان 3200 نسمة فقط.

    على أن الحوادث الكبرى، التي وقعت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، في مصر وحولها، وبالذات في فلسطين، لم تكن مصادفة، وإنما حدثت نتيجة لأفكار وخطط وصراعات ومصالح وقوي. ومن هنا، نفهم سرّ مساعدة بنيامين دزرائيلي Benjamin Disraeli، رئيس الوزراء الإنجليزي، إدموند روتشيلد Rothschild، على شراء الحصة المصرية في شركة قناة السويس، بأسرع ما يمكن، قبل أن يغير خديوي مصر رأيه أو قبل أن يعرف أحد الصفقة. وفي عام 1877، كانت أسرة روتشيلد تموّل إنشاء أول مستعمرة استيطانية لليهود في فلسطين، على مساحة 2275 فداناً، وهي مستعمرة "بتاح تكفاه".

    وفي عام 1882، وهي السنة نفسها التي احتلت بريطانيا فيها مصر، نظّم البارون إدموند روتشيلد أول هجرة جماعية يهودية إلى فلسطين. وفي الوقت نفسه، كانت أسرة روتشيلد، قد بدأت في جمع تبرعات ومساهمات طائلة لشراء أراضٍ في فلسطين، وكانت الواجهة الظاهرة لهذه العملية، مؤسسة للاستثمار في مجال الأراضي الزراعية في المشرق العربي. وخلال عشر سنوات، اكتمل إنشاء عشرين مستعمرة كبيرة، ومستعمرات أخرى صغيرة.

    وعلى هذا المسرح، ظهر دور "تيودور هيرتزل"، المولود في فيينا، والذي كان يعمل في مجال الصحافة، واتصل بالمسألة اليهودية، من طريق جمعيات ومنظمات فكرية وثقافية، تُعنى بهذه المسألة. ولم يكن هيرتزل وحيداً في ميدانه، فقد سبقه، وأحاط به جمع لا يستهان به من المفكرين والدعاة اليهود، الذين رأوا الفكرة، التي كان يراها، وإن لم يقدروا على تحديدها والتبشير بها صراحة وعلناً. وكانت ميزة هيرتزل على قرنائه الآخرين في زمانه، أنه استطاع استيعاب مجمل الظروف الإستراتيجية. فكان مؤتمر "بازل Basel"، في 29 أغسطس 1897، مؤسساً للحركة الصهيونية العالمية.

وفي سنة 1904، دعت إنجلترا إلى عقد مؤتمر، على شكل حلقات دراسية، يُمِّثل فيه الدول الاستعمارية، في ذلك الوقت، بعض خبرائها وأساتذتها الجامعيين، لدراسة الأسباب التي يمكن أن تَكْفل للاستعمار أطول فترة ممكنة من البقاء. وعلى هذا النحو جاء تقرير "هنري كامبل بانرمان Henry Campbell Bannerman"، رئيس وزراء بريطانيا، يدعو إلى تجزئة سورية، لأن: "الخطر الذي يهدد الاستعمار الغربي، يَكْمُن في البحر المتوسط، الذي يضم على سواحله، الشرقية والجنوبية، شعباً واحداً، يتميز بكل مقومات الوحدة والترابط، ناهيك بما في أراضيه من كنوز وثروات، تتيح لأهلها مجال التقدم والرقي في طريق الحضارة والثقافة. وكذلك، ينبغي العمل، كوسيلة عاجلة، بالتوصية الآتية: وهي فصل الجزءين، الأفريقي والآسيوي، في هذه المنطقة، أحدهما عن الآخر، وإقامة حاجز بشري قوي وغريب في نقطة التقاء الجزءين يمكن للاستعمار أن يستخدمه أداة لتحقيق أغراضه".

    وما أن نشبت الحرب العالمية الأولى، ووقفت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا والنمسا، حتى جهزت بريطانيا حملة، اتخذت من مصر قاعدة انطلاق لها، عبْر سيناء، بقيادة الجنرال "أرشيبالد مري". بدأت الحملة تحركها للسيطرة على فلسطين والشام عموماً، عام 1916، وخلف الجنرال "أرشيبالد"، عليها الجنرال "إدموند اللنبي"، الذي استطاع الوصول إلى غزة، حين صدر وعد بلفور في الثاني من نوفمبر 1917، ثم تمكن من دخول القدس، فكان ذلك بداية النهاية للدولة العثمانية، وانتقلت الإدارة في القدس، آنذاك، من السلطة العثمانية إلى السلطة البريطانية.

    انضمت إلى قوات الجنرال اللنبي قوة، تشكلت من متطوعي اليهود، تراوح بين 5000 و5500 مقاتل، عرفت باسم "فيلق اليهود". وكان هدفها، كما رسم زعماء الحركة الصهيونية، مساعدة القوات البريطانية على تخليص فلسطين من أيدي الأتراك. غير أن الحقيقة الباطنة، هي استخدام هذه القوة اليهودية في المساومة السياسية مع بريطانيا، من أجل إنشاء الوطن القومي، ولتكون نواة الجيش، الذي سيتولى حماية الكيان الصهيوني في فلسطين، بعد تمرسه بخبرة هذه الحرب. وقد وصل هذا التشكيل العسكري اليهودي إلى فلسطين، لينضم بعدها إلى الجيش البريطاني، تحت اسم "فرقة المشاة الملكية".

    ولما كان اللنبي قائداً أعلى للعمليات العسكرية، التي لم تكن قد انتهت بعد، فقد عَدّ فلسطين، بما فيها القدس، جزءاً من أراضي العدو المحتلة في سورية. ومن ثم، فقد عُرفت باسم "أرض العدو المحتلة الجنوبية". وقد خضعت مباشرة لإدارة عسكرية بريطانية، على رأسها اللنبي، كقائد عام، وممثل لوزارة الحربية البريطانية، التي تتلقى أوامرها وتعليماتها من وزارة الخارجية، لأنها المسيِّرة، آنذاك، لشؤون المستعمرات البريطانية الخارجية.

    وقد حرص اللنبي، عقب دخوله القدس، على القضاء على كل محاولة عربية، تسعى إلى تثبيت نفسها في فلسطين، مهْما كانت ضئيلة. فعندما همَّ العرب في القدس برفع الأعلام العربية على أبنية الحكومة، أمر بإنزال هذه الأعلام، مشيراً إلى أن فلسطين جزء من الدولة العربية المستقلة، والحرب لم تنته بعد. (اُنظر شكل القدس تحت الاحتلال البريطاني)

    وهكذا، وُضع الحجر الأساسي للإدارة العسكرية في فلسطين. فقد كان الضابط السياسي العام مرتبطاً بالإدارة السياسية في القاهرة، من طريق المكتب العربي، وذلك لضمان تنفيذ المخططات والأطماع البريطانية في هذه المنطقة. وفي عام 1918، استقلّت الإدارة العسكرية البريطانية في فلسطين، وأصبحت غير مرتبطة بالإدارة السياسية في مصر.

وتجدر الإشارة إلى أن الإدارة البريطانية في فلسطين بوجه عام، وفي القدس بوجه خاص، استمرت في العمل على تقوية قبضة اليهود على البلاد. فمنحتهم، وحدهم، درجة في المحاكم، مع حق تعقب أو مراجعة الجناة. ثم أتبعت هذه الخطوة بتعيين مستشار يهودي لمحاكمها، للنظر في أمور اليهود الخاصة. كما بدأت تكوّن من اليهود فرقة، ألحقتها بقوات الشرطة، وسلحتها تسليحاً كاملاً، ووضعتها داخل فلسطين للحفاظ على الأمن العام بها. غير أن تعديات أفراد الفرقة على السكان، تفاقمت، فكانوا محل سخط واحتجاج لدى الحاكم العسكري، من قبل الجمعية الإسلامية ـ المسيحية، التي طالبت بأن يكون للعرب مثل هذا الحق ، ولكن دون أي استجابة.

    وعلى كل حال، فما أن أعلن مؤتمر سان ريمو San Remo، في أبريل 1920، وكان من بينها بند يقضي بوجوب الانتداب البريطاني في فلسطين، حتى كان ذلك مؤشراً إلى انتهاء الحكم العسكري البريطاني، لتحل محله حكومة مدنية، وضع على رأسها هربرت صموئيل Sir Herbert Samuel، كمندوب سام بريطاني، لتنفيذ وعد بلفور. وبوجه عام، لا يمكن القول بأن الحكم العسكري، الذي امتد بين عامَي 1918 ـ 1920، اهتم بتنظيم البلاد، والعمل على دفعها نحو التقدم، وإنما جاءت هذه الإدارة بتدابير مؤقتة، هدفها مساعدة العناصر اليهودية، والتمهيد لإقامة إدارة مدنية.

    وثمة أمر أخير، فقد كانت القدس فريسة سهلة لحملة اللنبي، نتيجة للدور الذي قامت به حركة الشريف حسين، التي عُرفت بالثورة العربية، في دعم تلك الحملة، التي بدت، في رؤوس مخططيها ومنفذيها، وعلى أعلى المستويات، العربية والبريطانية، حملة صليبية للاستيلاء على فلسطين في الدرجة الأولى، وتدمير الروابط العربية والإسلامية، وتصفية الدولة العثمانية، معقل الخلافة، آنذاك، الرابطة للعالم الإسلامي. فكانت القدس، على حدّ طلب لويد جورج Lloyd George من اللنبي، "هدية عيد الميلاد للشعب البريطاني". كما أحدث احتلالها صدى بعيداً في العالمين، المسيحي والإسلامي، فضلاً عن أنه بعث الأمل في الإمبراطورية البريطانية، التي أرهقتها، حينذاك، معارك الحرب العالمية الأولى. وقد مهدت بريطانيا كل السبُل لتقديم القدس إلى اليهود (طوال فترة الانتداب) متجاهلة بذلك حق الشعب الفلسطيني والأمة العربية.

    ويمثل الانتداب البريطاني في فلسطين (1920 ـ 1948)، أول مرحلة من مراحل المؤامرات الاستعمارية الصهيونية، لاقتلاع جذور فلسطين العربية ـ الإسلامية، والتمهيد لاستيلاء اليهود عليها، وتهويدها تدريجياً. وتضمن صك الانتداب، الذي أقره مجلس عصبة الأمم في 24 يوليه 1922، اعترافاً " بالصِّلة التاريخية، التي تربط اليهود بفلسطين، وبالأسباب التي تبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومي في تلك البلاد". كما تضمن الصك تصريح بلفور، والاعتراف بكل ما ورد فيه، وألزم الدولة المنتَدَبة (بريطانيا) بالعمل على إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين، وذلك بتسهيل هجرة اليهود إلى هذا البلد وشرائهم الأرضي فيه. وكان أهم ما جاء في صك الانتداب ما يلي:

1.  ورد في ديباجته: إن الدول الكبرى توافق على أن تكون الدولة المُنْتدَبة (بريطانيا) مسؤولة عن تنفيذ وعد بلفور، لمصلحة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.

2.  وجاء في مادته الثانية: تكون الدولة المنتدَبة مسؤولة عن وضع البلاد، في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية، تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي، وفقاً لما جاء بيانه في ديباجة هذا الصك، وتطوير مؤسسات الحكم الذاتي.

3.  كما جاء في المادة الثالثة: تعترف سلطات الانتداب بوكالة يهودية، صالحة كهيئة حكومية، لإسداء المعونة والمشورة إلى إدارة فلسطين. (اُنظر شكل القدس والانتداب البريطاني)

    كان المُخطط لإفراغ فلسطين من مضمونها، وتغيير هويتها، يسير بدعم ومعاونة من دول عظمى، لا قِبل لأحد بها. وعلى الرغم من ذلك، لم يستكن الفلسطينيون، وبذلوا في مقاومة ذلك المخطط الكثير. ففي البداية، أظهروا تخوفهم من الغزو الاستيطاني المنظم، بادئين بمناشدة المندوب السامي البريطاني، في 20 ديسمبر1921، ثم بمناهضة السياسة البريطانية نفسها، في عام 1922، والامتناع عن دفع الضرائب، ومتابعة حركة النضال والمقاومة. ثم عمدوا إلى سلاح الإضراب. ثم انتهوا إلى القيام بثورات متتالية، منذ عام 1922. وعلى إِثر ذلك، عين وزير المستعمرات البريطانية، في يوم 13 سبتمبر من العام نفسه، لجنة للتحقيق في الأسباب، التي أدت إلى وقوع الحوادث، واتخاذ التدابير اللازمة لمنع تكرارها.

    ونظراً إلى الأهمية الخاصة المستمدة من بقاء الأحوال الراهنة، في الأماكن المسيحية المقدسة، خشية امتداد الأطماع اليهودية إليها، زارت اللجنة هذه الأماكن، ومنها كنيسة القبر المقدس، وكنيسة المهد في بيت لحم، لتأكيد بقاء هذه الأماكن على ما هي عليه في أيدي المسيحيين بفلسطين. وعلى الرغم من استماتة اليهود في الدفاع عن حائط المبكى، أثبتت اللجنة الدولية أنه أثر إسلامي. وقد أقرت حكومة الانتداب البريطاني ما ورد في تقرير اللجنة، وألزمت اليهود به.

    وقد جاء في تقرير اللجنة الدولية، "لجنة شو"، برئاسة Sir Walter Shaw، التي بحثت الأمر من جميع جوانبه، أن أفضل حلّ لفضّ هذا النزاع، هو منع اليهود من الاقتراب من الحائط. وكانت مهمة لجنة شو، التحقيق في النزاع، الذي نشأ بين العرب واليهود فيما يتعلق بممارسة دينية يهودية، هي ذهاب اليهود إلى الحائط الغربي أو البراق، وهو ما يطلق عليه اليهود حائط المبكى، للتضرع وذرف الدموع.

    وكانت الحكومة البريطانية، في كتابها الأبيض، الصادر في شهر أكتوبر 1928، ذكرت أن الحائط الغربي، أو المبكى، يشكل قسماً من الحائط الخارجي لهيكل اليهود القديم، وهو مقدس لديهم. كما يشكل الحائط، أيضاً، قسماً من الحرم الشريف، وهو بهذه الصفة، مقدس لدى المسلمين وملك لهم، كما أن الرصيف المقابل له وقف عليهم. ورأت الحكومة البريطانية، تطبيقاً لأحكام المادة (13) من صك الانتداب في فلسطين، أن المسألة توجب المحافظة على الحالة الراهنة، والسماح لليهود بالمرور لإقامة صلواتهم، على الرغم من ملكية المسلمين للحائط، مع عدم السماح بإجراء أي محدثات أو تغييرات في الحائط نفسه أو بالقرب منه، ما يلحق باليهود إزعاجاً أثناء إقامة صلواتهم.

    فإن كان لا بدّ من المحافظة على الحائط الغربي، والرصيف الكائن أمامه، لمصلحة اليهود الدينية، فإن على اليهود، أيضاً، أن يراعوا حرمة المسلمين، الذين أكرموا مثواهم، والذين ضمنت لهم أحكام صك الانتداب مقاماتهم المقدسة.

وفضلاً عن ذلك، فقد تلقّى المسلمون ما ورد في الكتاب الأبيض في هذا الشأن، بمزيد من الارتياح، على حد ما ذكرته لجنة شو في تقريرها. وفي 27  ديسمبر 1928، أرسل مفتي القدس، بصفته رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، كتاباً إلى حاكم مقاطعة القدس، يقول فيه:

    اطّلع المجلس الإسلامي الأعلى على الكتاب الأبيض، الذي أصدره وزير المستعمرات في شهر أكتوبر 1928، ونشرته الجريدة الرسمية، في شأن قضية البراق (حائط المسجد الأقصى الغربي)، فوجد أن ما فيه، من الدقة وبُعْد النظر ومراعاة العدل من غير محاباة، قد بدد، بوضوح وصراحة، تلك الغيوم، التي حاولت الدعاية الواسعة والضجة المصطنعة، أن تخفيا تحتها الحالة الراهنة. ويصف الخطاب موقف الحكومة البريطانية في هذا الشأن بالنزاهة، ويرى ضرورة إسراعها بالمحافظة على الحالة الراهنة، التي استمرت منذ عهد الأتراك، وظلت مرعية قبل الحرب العالمية الأولى، ومنع اليهود من وضع أي حاجز أو ستار، سواء لفصل الرجال عن النساء، أو لأي غاية أخرى، أو وضع أي سجادة أو حصيرة، أو النفخ في البوق (شوفار).

    وفي شهر ديسمبر 1929، بعثت لجنة التحقيق بتوصياتها إلى وزير المستعمرات، ومن بينها تعيين لجنة مؤقتة، في أقرب وقت، طبقاً للمادة (14) من صك الانتداب في فلسطين، لتحديد الحقوق والادعاءات في شأن حائط المبكى في القدس.

    وفي الاجتماع الذي عقده مجلس عصبة الأمم، عرض المندوب البريطاني في المجلس بعض الاقتراحات، التي تتفق وما أوصت به اللجنة. وقد قرر المجلس، بناءً على ذلك، أن يعهد إلى لجنة دائمة تسوية هذه الحقوق والمطالب. وتتألف اللجنة من ثلاثة أعضاء من غير الإنجليز، على أن يكون أحدهم، على الأقل، من فقهاء القانون.

    وقد أُلقيت التبعة على بريطانيا، صاحبة الانتداب في فلسطين، لأنها لم تتولَّ إدارة الأماكن الإسلامية المقدسة، التي يضمن صك الانتداب ضماناً تاماً، عدم تعرضها لامتيازات جديدة إضافية لمصلحة اليهود، بخلاف السماح الآمن لهم بالمرور لإقامة صلواتهم. وقد احتج رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، في كتاب بعث به إلى الجمعية العامة لعصبة الأمم، في 17 مارس 1930، لتعيين لجنة دولية لبت حقوق اليهود ومطالبهم، في شأن الحائط الغربي، نظراً إلى أن أيّ تلميح أو إشارة إلى حقوق ومطالب اليهود في هذا المكان، تعَدُّ تعدياً خطيراً على حقوق المسلمين ومقدساتهم.

    وأقرت اللجنة، أن تعود إلى المسلمين، وحدهم، ملكية الحائط الغربي، ولهم، وحدهم، الحق العيني فيه، لأنه يشكل جزءاً لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف، التي هي من أملاك الوقف. كما تعود ملكية الرصيف، الكائن أمام الحائط، وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط إلى المسلمين أيضاً، لكونه موقوفاً، حسب أحكام الشرع الإسلامي، لجهات البِر والخير.

    وقد توصلت اللجنة المكونة من: إلياس لوفجرين، وشارلي بيرد، وفان كمبن، وستيج ساهلين، إلى آرائها وقراراتها، في ديسمبر 1930، وقراراتها كانت في مصلحة العرب.

    وهكذا، استمرت الاضطرابات بين الجانبين، الفلسطيني واليهودي، حتى قام الفلسطينيون بما سُمّي بـ "الثورة العربية"، عام 1936، والتي بدأت بإضراب، غير مسبوق في التاريخ، لمدة ستة أشهر. واستمرت الصدامات بين عرب فلسطين وسلطة الانتداب، التي أعلنت قانون الطوارئ.

    ونتيجة لذلك، توجه عرب فلسطين إلى ملوك الدول العربية ورؤسائها، آملين أن يعملوا على إنقاذهم، وتحرير مقدساتهم. وفي أكتوبر 1936، ناشد بعض الملوك والأمراء العرب الفلسطينيين الهدوء، حتى يمكنهم التوسط لدى بريطانيا. واستجاب الفلسطينيون حتى وصلت "لجنة بيل"، البريطانية، في نوفمبر 1936، برئاسة روبرت بيل Lord Robert Peel، التي أوصت بتقسيم فلسطين، مما أدى إلى اندلاع الثورة من جديد، بدءاً من عام 1937 حتى عام 1939. وظل الحال على هذا الوضع المتأزم بين الفلسطينيين وبريطانيا، من جهة، واليهود، من جهة أخرى، حتى لاحت بوادر الحرب العالمية الثانية. فاضطرت بريطانيا لإصدار الكتاب الأبيض الثالث، في 17 مايو 1939، في محاولة لترضية العرب، وكسب تأييدهم، وضمان وقوفهم خلفها، ما أدى إلى تهدئة الموقف. ولمّا كان هذا الكتاب، في مجمله، لمصلحة العرب، فقد أدى إلى استكانة الصراع العربي ـ البريطاني. وما كادت الحرب العالمية الثانية تنتهي، في 7 مايو 1945، باستسلام ألمانيا للحلفاء وانتهاء النازية، حتى عاد الصراع للاشتعال، مرة أخرى، بين اليهود، من جهة، وكل من العرب وسلطة الانتداب، من الجهة الأخرى.

    ونتيجة لتزايد الاضطرابات العربية ـ اليهودية، والتي وُجِّه شيء منها إلى البريطانيين، من كلا الطرفين، خاصة اليهود، اتخذت الحكومة البريطانية الخطوة، التي كانت الوكالة اليهودية تأملها. فحولت عبء تسوية مشكلة فلسطين، بعد أن غذتها إلى أن استفحلت، إلى الأمم المتحدة، وأعلنت بريطانيا، عام 1946، أن عام 1948 سيكون موعداً لانسحابها من فلسطين، بعد أن تأكد نمو الوليد اليهودي.

    وقد تطور تعداد قاطني فلسطين إلى أن وصل، عام 1946، إلى حوالي 000 947 1 نسمة:

·   العرب المسلمون            000 952             بما يمثل 48.9%

·   العرب المسيحيون           000 317         بما يمثل   16%

·   عرب فلسطين                65.2%

·   اليهود                       000 678             بما يمثل  34.8%

    وكان من نتيجة الضغط البريطاني للانسحاب من فلسطين، عام 1948، أن أصدرت الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947، مشروع القرار الرقم (181) الخاص بتقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين، الأولى عربية، والثانية إسرائيلية. وكان هذا القرار هو التطور الرئيسي الثالث، الذي حاق بفلسطين على مدى حوالي ربع قرن.




[1] بوابة الدموع: أطلقت إسرائيل هذا الاسم على بوابة "مندليوم"، نظراً إلى أن أحد ضباطها قتل هناك.

[2] لم تتمكن القوات الأردنية من احتلال الجامعة العبرية وهداسا، في حرب عام 1948. ومن ثَم، فقد بقيتا في المنطقة الحرام، تشرف عليهما الأمم المتحدة، ولكن تحت حراسة إسرائيلية.