إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء


 



كلمة صاحب السمو الملكي، الأمير عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني، رئيس وفد المملكة العربية السعودية،
إلى مؤتمر القمة الثاني والعشرين لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية
المنعقد في مسقط في 15ـ16 شوال 1422هـ، الموافق 30ـ31 ديسمبر 2001

          بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله القائل في محكم كتابه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (البقرة: 185)، والصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أصحاب الجلالة والسمو: قادة مجلس التعاون.
أيها الأخوة الكرام.
          السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
          أحييكم جميعاً باسم أخي خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز، وأشكر أخي صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد، وأعضاء حكومته، وشعب عمان الشقيق، على حفاوة الاستقبال، سائلاً الله ـ جلت قدرته ـ في أن يكلل لقاءنا هذا بالنجاح، وأن يوفقنا إلى ما فيه خير أمتينا العربية والإسلامية، والعالم أجمع.

أيها الاخوة الكرام
          
كم كان بودنا أن نجتمع اليوم في ظروف أفضل، من تلك التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية، وهي ظروف اقتضت ارادة الخالق ـ عز وجل ـ أن يُمتحن فيها معدن الصابرين المؤمنين، مَنْ أشار لهم في كتابه العزيز، فقال:
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (آل عمران: 186).

          فالمحن والكوارث، في حقيقة أمرها، فرص وتحديات تتطلب منا جميعا محاسبة النفس، ومراجعة المواقف، وإصلاح الخلل، لنخرج منها ـ بإذن الله ـ أقوى مما كنا عليه يوم دخلنا فيها. فالازمة القاتلة هي الوقوف أمام الازمات مكتوفي الايدي، سليبي العزيمة، مُلقين باللوم على الآخرين، دون أن نتصدى لدورنا الكامل مع المسؤولية.

          إنّ تغيير الواقع الأليم، لا يتسنى إِلاّ بتغيير أنفسنا أولاً، انصياعاً وإيماناً لقول الحق ـ جل جلاله ـ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (الرعد: 11)، ومن هذه الرؤية الإلاهية سوف يكون محور حديثي معكم اليوم.

أيها الأخوة الكرام
          
إنّ أمتنا العربية والإسلامية تضررت أبلغ الضرر، بسبب تصرفات رعناء لقتلة رفعوا شعارات الاسلام، والاسلام منهم براء. وادّعوا نصرة الأمة العربية والإسلامية، والأمة هي الضحية الاولى لإِجرامهم وعبثهم، لذلك، فواجب المسلمين جميعاً في هذه الظروف، إِدانة الأعمال الإِرهابية كافة، دون لبس أو غموض، وإِدانة من يؤازرها بقول او فعل. وأنْ يبينوا الفرق الشاسع والواضح، بينها وبين النضال الوطني المشروع، في سبيل تقرير المصير.

          إنّ الاسلام هو دين التسامح والمحبة، ويعتبر قتل النفس البريئة، كقتل الناس جميعا؛ فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاس جميعاً(المائدة: 32). والإسلام يدعو إلى أن يكون التعامل مع الآخر بالمجادلة الحسنى، لقوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ( النحل: 135)، بل إِن الله ـ جلت قدرته ـ خاطب موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ حينما بعثهما إلى فرعون، فقال: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (طه: 44).

          لذلك، علينا أن نتعامل مع الآخرين بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، لنعكس من خلال تصرفاتنا سلوك المسلم الحقيقي، الذي قال عنه نبي الرحمة: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.

أيها الأخوة الكرام
          
إذا ما حولنا أنظارنا صوب أمتنا العربية والإسلامية، راعنا ما يحدث لأشقائنا في فلسطين الشقيقة، من تدمير ومذابح دامية، تتم تحت سمع العالم وبصره.

          إنّ هذه المشاهد الأليمة، تحتم على الامة العربية والإسلامية، في مشارق الارض ومغاربها، أن تواجه مسؤوليتها التاريخية، التي تتطلب محاسبة النفس، قبل محاسبة الغير، ولا يكون ذلك الاّ بمواجهة أسئلة ملحة وخطيرة، طالما تهربنا من مواجهتها في الماضي.

          ماذا فعلنا نحو تحقيق المبادئ السامية، التي قامت عليها جامعة الدول العربية؟

          ماذا فعلنا لتنفيذ معاهدة الدفاع المشترك؟

          ماذا فعلنا لتحقيق الوحدة الاقتصادية؟

          والسؤال الأهم: هل ما يدور الآن في فلسطين، من قمع دموي كان سيحدث لو أن إسرائيل وجدت أمامها أمة عربية وإسلامية متضامنة؟ أمة موحدة الكلمة، والصف، والهدف؟ أمة تتحرك عبر مؤسسات فاعلة وقوية مؤثرة؟

          أحسب أننا بطرح هذه الاسئلة، نتلمس طريقنا إلى الأجوبة، ومع الأجوبة الصحيحة نستطيع ـ بحول الله وقوته ـ الوصول إلى أهدافنا الصحيحة.

          إن وقتنا أثمن من أن نضيعه في استجداء الدول والمنظمات الدولية واستعطافها، وقد فعلنا هذا، عبر عقود طويلة الزمن، بلا جدوى! وجُهدنا أثمن من أن نهدره في شجب واستنكار، وقد قمنا بهذا، عبر عقود طويلة بلا فائدة. إنّ وقتنا كله يجب أن يُكرّس لمحاسبة النفس العربية والإسلامية، على التقصير، وحثها على عدم تكرار الخطأ. وإنّ جهدنا كله يجب أن ينصب على إصلاح البيت العربي والإسلامي، وجعله قادراً على مواجهة التحديات. وأحسبنا لا نتجاوز الحقيقة، إذا اعترفنا أننا جميعاً، ولا استثني أحداً، بأننا أخطأنا في حق أمتنا الكبرى، حين سمحنا لعلاقتنا العربية والإسلامية أن تكون قائمة على الشك وسوء الظن، بدلاً من المفاتحة والمصارحة؛ وحين نشدنا العون من الغريب، ونسينا القريب، وحين فتحنا بيوتنا وأسواقنا لمنتجات الآخرين، وسددناها أمام المنتجات العربية والإسلامية، وحين أجزنا لأنفسنا أن نعزو كل نكسة من نكساتنا، إلى مؤامرة تجيء من وراء الحدود، وإلى استعمار لا يزال يسكن العقول والأرواح.

أيها الأخوة الأعزاء
          
إننا لسنا في حاجة إلى قمم طارئة، تصدر عنها قرارات انفعالية ارتجالية، تموت قبل أن يجف الحبر الذي كتبت به؛ فحاجتنا الحقيقية هي إلى قمم للتأمل والتحليل، تصدر عنها قرارات منطقية وواقعية، تنفّذ وفق جداول زمنية معقولة.

          إن الفرصة لم تفلت من أيدينا بعد، ولا يزال بوسعنا أن نشخص الداء، ونتلمس الدواء. والداء الذي لا أظننا نختلف على طبيعته، هو الفرقة القاتلة، التي أبعدت الجار عن جاره، ونفرّت الشقيق من شقيقه. والدواء، الذي أعتقد أننا نجمع على فعاليته هو الوحدة، التي تعيد الجار إلى حمى جاره، والشقيق إلى حضن شقيقه.

          لقد كنا دوماً، نسعى إلى الوحدة، ولكننا ضللنا الطريق، حين عقدنا آمالنا على ترتيبات دستورية شكلية، توضع في فراغ، وتنتهي في ضياع؛ فمسيرتنا الوحدوية يجب أن تتعلم من أخطاء الماضي، كما يجب أن تستفيد من كل التجارب الوحدوية الناجحة.

          إن الوحدة الحقيقية لا تنصب على الشكليات، ولكنها تقوم على مشاريع اقتصادية مشتركة، تنتظم من أقصاها إلى أقصاها، وعلى مناهج دراسية واحدة، تنتج جيلاً شاباً مؤهلاً للتعامل مع المتغيرات، وعلى قنوات عربية وإِسلامية، نستطيع عبرها معالجة مشاكلنا بأنفسنا، ومن دون تدخل الغرباء.

          إن المشاكل أمر طبيعي، حتى داخل الاسرة الواحدة، والتحدي الحقيقي لا يكمن في طلب المستحيل وتوقع اختفائها، ولكن يكمن في قدرتنا على إِيجاد المؤسسات القادرة على التعامل مع الخلافات، قبل أن تستفحل، وعلى حلها قبل أن تتفجر.

أيها الاخوة الأعزاء
          
إن مهمة التوحيد والتقريب، التي تواجهنا في خليجنا العربي، لا تختلف عن المهمة، التي تواجهنا على مستوى الأمة العربية والإِسلامية، فنحن في هذا الخليج جزء لا يتجزأ من الأمة العربية والإِسلامية، لا يصلح إلاّ بصلاحها، ولا يتقدم إلاّ بتقدمها. فعوامل الجوار والتشابه الثقافي والتاريخي والسياسي، تسهّل مهمتنا في التوحيد والتقريب، على مستوى الأمة الكبرى، وكل نجاح نحققه في مجلس التعاون، أو يحققه أي تنظيم عربي أو إسلامي إقليمي آخر، هو في البداية والنهاية، نجاح يصب في مصلحة الأمة العربية والإِسلامية، ويخدم أهدافها.

          إننا لا نخجل من القول إننا لم نستطع بعد، أن نحقق الأهداف، التي توخيناها حين إنشاء المجلس، ولا زلنا بعد أكثر من عشرين سنة من عمل المجلس، نسير ببطء لا يتناسب مع وتيرة العصر. والانصاف يقتضي أن نقرر أن دول المجلس استطاعت تحقيق انجازات طيبة، يجيئ في مقدمتها حل الأغلبية الساحقة من القضايا الحدودية المعلقة. إِلاّ أن الموضوعية والصراحة تتطلب منا أن نعلن، أن كل ما تحقق، حتى الآن، جزء يسير، يذكرنا بالجزء الكبير، الذي لم يتحقق؛ فلم نصل، بعد، إلى إنشاء قوة عسكرية واحدة، تردع العدو وتدعم الصديق، ولم نصل، بعد، إلى السوق الواحدة، ولم نتمكن، بعد، من صياغة موقف سياسي واحد، نجابه به كل الأزمات السياسية، وهنا أرجو أن تسمحوا لي أن اذكركم ونفسي، أن تمسكنا المبالغ فيه بمفهوم السيادة التقليدي، هو الذي يقف حجر عثرة أمام مساعي التوحيد.

          إن إعطاء مجلسنا هذا قدراً أكبر من الصلاحيات، لا يعني التنازل عن استقلالنا، بقدر ما يعني دعم هذا الاستقلال وترسيخه، وصولاً إلى وحدة عربية وإسلامية، في المواقف والتوجهات والأهداف، ولنا في الاتحاد الاوروبي نموذج نحسن صنعاً لو استأنسنا، ببعض ما جاء فيه.

أيها الاخوة الأعزاء
          
إن مهمة التوحيد والتقريب هي واجبنا الاساسي، على المدى القريب والبعيد، إلاّ أن الظروف الاستثنائية، التي نشهدها، هذه الايام، تتطلب تحركا استثنائيا للتعامل معها؛ فمن الناحية الاقتصادية، شهدت أسعار البترول، في الآونة الاخيرة، انخفاضاً خطيراً يهدد رخاء شعوبنا، ورفاه مجتمعاتنا. وهذا الوضع يتطلب منا أن نوحد المواقف والجهود، كما فعلنا عندما انخفضت أسعار البترول قبل بضع سنوات، حينما تمكنا وقتها، بفضل الله، ثم المواقف الصلبة الواحدة، من تجاوز تلك الأزمة، ونحن ـ بحول الله وقوته ـ قادرون على مواجهة الأزمة الراهنة، بالمواقف الصلبة ذاتها.

          ومن الناحية السياسية، يشهد العالم تطورات خطيرة رأينا كيف بدأت، ولا نعرف كيف ستنتهي. ومن الغني عن الذكر أننا لن نستطيع التأثير في هذه التطورات ما لم نحللها بعقلية واحدة، ونتخاطب معها بصوت واحد. ومن الناحية الثقافية، تتعرض أصالتنا الإسلامية العربية لكثير من الضغوط والتأثيرات، وما لم يكن لنا منها موقف واحد، فإنّ هويتنا المتميزة يمكن أن تتعرض، لا سمح الله، للتشويه.

          لذلك، يفرض علينا الواجب أن نتبنى الخطاب الحضاري المعتدل، الذي يستطيع التعامل مع المتغيرات، دون أن يفرط في الثوابت؛ فمشروعنا الحضاري القائم على الامتزاج الرائع بين الإسلام والعروبة، هو مشروع يمكن أن يخدم الانسانية جمعاء، إذا استطعنا أنْ نحسن التمسك به، وأحسنا عرضه، على بقية الحضارات.

أيها الاخوة الأعزاء
          
بتوكلنا على الله ـ عز وجل ـ ثم بمؤازرة من شعوبنا العربية والإسلامية، يستطيع القادة أن يمضوا قدماً نحو مسيرة التوحيد والتقريب، إذا ما وضعوا نصب أعينهم مخافة الله، ثم مصالح أمتهم العربية والإسلامية،
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج: 40).

          والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،