إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء

 



البيان الذي أدلى به السيد تابو مبيكي، ابن السيد غوفان مبيكي، الزعيم الأفريقي الذي كانت تجري محاكمته في بريتوريا، أمام وفد اللجنة الخاصة المعنية بسياسة الفصل العنصري التي تتبعها حكومة جمهورية جنوب أفريقيا في لندن، في 13 نيسان/ أبريل 1964

A/AC. 115/L.65، 23 نيسان/ أبريل 1964

          السيد الرئيس، حضرات الأعضاء: قبل كل شئ، اسمحوا لي أن أعرب عن امتناني المتواضع لكم لسماحكم لي ببعض وقتكم في محاولة كي أضيف صوتا آخر في معركة مناهضة سياسات الاضطهاد الشريرة والمجنونة التي تمارسها حكومة جنوب أفريقيا دون هوادة وبصفاقة. ولعلي أيضا، بعد إذنكم يا سيادة الرئيس، أغتنم هذه الفرصة كي أعرب عن تقديري العميق للإسهام الذي تسهمون به أنتم وزملاؤكم من أجل نجاح كفاح جنوب أفريقيا، باسم الإنسانية جمعاء. وأنا أشعر هنا بأن ثمة ما يبرر لي أن أدعي كذلك أني لا أبدي مشاعري أنا فقط ولكن أيضا مشاعر أبي، غوفان مبيكي، وزملائه المحتجزين الآن في سجن بريتوريا المحلي، في جنوب أفريقيا، وسيمثلون مرة أخرى أمام القاضي يوم الاثنين القادم، 20 نيسان/ أبريل، فيما يبدو أنه آخر مرحلة مما أصبح يعرف بمحاكمة ريفونيا. وستتذكر جنوب أفريقيا الحرة جهودكم باعتزاز؛ أما في الوقت الحاضر، فإنني أعرض القيام بكل ما في وسعي لكبح جماح وحش الفصل العنصري. ويعبر هذا عن امتنانى لجهودكم. شكرا يا سيدى وعن طريقكم أود أن أشكر الأعضاء الآخرين في لجنتكم الخاصة، الحاضرين منهم والغائبين على السواء.

          إنني أشعر أن من واجبي أن أقدم نفسي إليكم، يا سيادة الرئيس، بقدر ما قد يساعدكم هذا في مهمتكم. لقد ولدت في 18 حزيران/ يونيه 1942، وعمدت باسم تابو مبيكى. ومنذ بدء الدراسة في سن الخامسة، شغلت بقية حياتي بالحصول على التعليم بمختلف أنواعه. وأثناء ذلك انتظمت بمدارس في ترانسكاي وسيسكاي ومقاطعة الكيب. وقد فصلت من الدراسة في عام 1959. وأتممت دراستي الثانوية كتلميذ غير منتظم وأصبحت في نهاية العام مؤهلا للالتحاق بأى جامعة من جامعات جنوب أفريقيا. بيد أنه بعد الأخذ بنظام تعليم البانتو، وبعد التشاور مع والدي شعرت بأنني مضطر للالتحاق بالدراسة الجامعية خارج جنوب أفريقيا. ولهذا الغرض، اجتزت امتحانات شهادة التعليم العامة في جوهانسبرغ في عام 1961، وحصلت على المرتبة الأولى في الاقتصاد، وأصبحت مؤهلا للالتحاق بأى جامعة بريطانية.

          وبعد أن مكثت عاما آخر في جوهانسبرغ للدراسة كطالب منتسب بجامعة لندن، غادرت جنوب أفريقيا في شهر أيلول/ سبتمبر1962، مع سبعة وعشرين طالبا أفريقيا آخر توجهوا للدراسة في الخارج وكنت في مقدمتهم. ونظرا للتأخير الذي حدث بسبب اعتقالنا في روديسيا الجنوبية، وصلنا في نهاية المطاف إلى دار السلام في تشرين الثاني/ نوفمبر بفضل الجهود التي بذلها المؤتمر الوطني الأفريقي.

          وأثناء وجودي في جنوب أفريقيا، شاركت بصورة مكثفة في أنشطة الشباب المناوئة للفصل العنصري، وقد سنحت لي أثناء تلك الفترة الفرصة كى أحظى بالاتصال الدائم بأشخاص من بينهم نيلسون مانديلا وولتر سيسولو ودوما نوكويي، الذين سبق أن أتيحت لهم الفرصة للاجتماع وهذه اللجنة الموقرة في نيويورك. وعندما غادرت البلد كنت أشغل مناصب من بينها منصب الأمين الوطني لرابطة الطلاب الأفارقة. ولهذه الأسباب اعتقدت أنه من غير الحكمة أن أتقدم بطلب لاستخراج جواز سفر لمغادرة جنوب أفريقيا. وأود مخلصا أن تساعد هذه المعلومات الخاصة بى اللجنة في أن تقدر أكثر النداء الذي سأوجهه، بعد إذنكم، يا سيدي، عن طريقكم إلى دول العالم المجتمعة في الأمم المتحدة.

          لقد ولد أبى، غوفان مبيكي، الذي تجرى محاكمته الآن في محكمة ريفونيا، والذي حضرت إلى هنا بالنيابة عنه في المقام الأول، وبمصادفة غريبة، في 4 تموز/ يوليه 1910، وهو العام الذي أصبحت جنوب أفريقيا فيه اتحاد جنوب أفريقيا وهو أيضا عيد الاستقلال في أمريكا. وقد ولد من أسرة من الفلاحين في ترانسكاي، والتحق بالمدرسة في قريته ثم التحق بمدرسة هلد تاون الثانوية حيث تخرج فيها. وبعد ذلك التحق بكلية فورت هير الجامعية، وهى المؤسسة الوحيدة للتعليم العالي في جنوب أفريقيا، بل وفي منطقة تصل حتى أوغندا. وقد عمل كبائع صحف أثناء العطلات في جوهانسبرغ حتى حصل على درجة البكالوريوس في الآداب ثم عمل بالتدريس في دوربان. وبعد ذلك منح درجة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة جنوب أفريقيا، بعد أن درس كطالب منتسب لعدد من السنوات.

          وقد أولى والدي منذ حداثة سنه الاهتمام لرفاه شعبة، وفي النهاية انتخب عضوا في المجلس العام لإقليم ترانسكاي في أوائل الأربعينات. ولم يكن له أن يمكث فيه طويلا مع ذلك فسرعان ما بدأت حكومة آنذاك تتولى بنفسها المهام التي كان المجلس يرى من قبل أنها تندرج ضمن اختصاصه. وبعد معركة جريئة شعر أنه مضطر للعودة إلى دائرة من يمثلهم كي يخبرهم أنه لما كان طابع المجلس قد تغير فقد ارتأى أنه لا يمكن أن يدعي أنه يمثل الشعب بحضوره، واضطر بناء على ذلك إلى الاستقالة وأهاب بالشعب أن يقاوم افتئات الحكومة التدريجى على حقوقه. وقد اصطدم هذا الكفاح بحكومة عنود إلا أنه زاد من احترام الناس لشجاعته.

          وفي عام 1943، كان من المز مع أن يوقع وثيقة "المطالب الأفريقية"، وهي نسخة أفريقية من ميثاق الأطلسي، مع زعماء أفارقة أجلاء مثل موزيس كوتاني، وهو الآن ضمن فريق زعماء المؤتمر الوطني الأفريقي فيما وراء البحار، ورؤساء سابقين للمؤتمر الوطني الأفريقي، الدكتور أ.ب كسوما والدكتور ج. س مروكا والأستاذ ز.ك ماتيوز، وهو الآن أمين مجلس الكنائس العالمى وباحث متميز. وقد واصل بعد ذلك العمل مع هؤلاء الزعماء البارزين وغيرهم، وظهر تدريجيا كرجل يتمتع بذكاء شديد وتفان مطلق لقضية الحرية. وبعد عدد من مشاريع الأعمال التجارية التي قام بها في محاولة لضمان عدم اعتماده على مرتب حكومي، اضطر إلى العودة إلى التدريس في عام 1954. وقد فصل من الخدمة في نهاية ذلك العام لعدائه لسياسات الحكومة. ثم التحق بهيئة موظفي صحيفةNew Age" " ( العصر الجديد)، التي كانت تعتبر، مع الصحف التي سبقتها، والتي أعقبتها، صحيفة الكفاح التحرري.

          وفي عام 1957، قام بدور بارز في مؤتمر وطني دعا الوزراء الأفارقة إلى عقده لمناقشة تقرير توملنسون، وهو يمثل مخطط الحكومة للبانتوستانات. وفي عام 1960، حضر اجتماع الزعماء الأفارقة الذي دعي إلى عقده لمناقشة خطط  حكومة جنوب أفريقيا حينذاك لإعلان جنوب أفريقيا جمهورية. وقد قامت اللجنة التي انتخبت في ذلك الاجتماع، والتي كان هو عضوا فيها، فيما بعد بتنظيم المؤتمر الذي انتخب نيلسون مانديلا زعيما له، وقد أدى ذلك فيما بعد إلى الحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات. وفي غضون، ذلك، أصبح أحد الزعماء البارزين للمؤتمر الوطني الأفريقي واعترف به زملاؤه خبيرا في مشاكل المحتجزات، التي تسمى البانتوستانات.

          وفي بداية عام 1962، ألقي القبض عليه واحتجز لمدة خمسة أشهر بتهمة التخريب. بيد أن  القضية سحبت وأفرج عنه كى يلقى القبض عليه مرة أخرى في ريفونيا، هذه المرة. ولو شنق سيخلف وراءه زوجته، التي تزوجها في عام 1939، وثلاثة أبناء وابنه واحدة، والولدان منتظمان بالدراسة في باسوتولاند، ومازالت أمهما وأختهما في جنوب أفريقيا وأنا بالسنة الثانية في جامعة ساسكس في هذا البلد.

          لقد كان من الضرورى أن أورد هذه المقدمة كى أشرح منزلة رجل من الرجال الذين تسعى حكومة جنوب أفريقيا إلى شنقهم اليوم. وأنا أؤمن بأن سنوات نشاطه السياسي استمدت إلهامها من حبه لشعبة. وأثناء هذه السنوات، كما يشهد بذلك قدامى معاونيه، اكتسب احترام شعبة وزملائه. ولم تتوصل أى محكمة من محاكم جنوب أفريقيا العديدة إلى إدانته بأي جريمة صغيرة أو يمكن توجيه الاتهام إليه بشأنها. ومع ذلك فإنه يمثل الآن متهما، ويقف متهموه، الذين كانوا بالأمس القريب يمجدون ألمانيا النازية، في أوج سلطتهم المعيبة واللاإنسانية. لقد ظل طوال عقود هو وبقية الشعب الأفريقي، يوجهون النداء إلى حكومات جنوب أفريقيا البيضاء، لا لرفع الأفارقة إلى موقع السيطرة على البيض، وإنما للمساواة فيما بين الشعبين. وكانت مكافأته الوحيدة ومكافأتنا نحن على ذلك، هي القوة الباطشة لقانون جنوب أفريقيا الذي استهدف جعل المنطق البشرى والمشاعر البشرية تنحني أمام همجية مجانين. وبموجب المنطق الدنس المخبول للحكومة، يتولى الدكتور برسي يوتار، وهو معروف جيدا بإرساله القتلة واللصوص إلى السجن أو المشانق، زمام الأمور الآن في محاكمة ريفونيا.

          وعلى الرغم من أنه قد قيل الكثير عن هذا الموضوع، أود أيضا أن أضيف إفادتى حول طابع الرجال الذين تود حكومة جنوب أفريقيا أن يعتقد العالم أنهم مجرمون. أنهم ليسوا فقط رجالا على أعلى درجة مما تتطلبه المسؤولية إزاء أسرهم وأصدقائهم من نزاهة، رجالا يحظون بالترحيب في أي بلد متحضر، وإنما هم أيضا رجال سيشرفون أى حكومة يخدمون فيها. وانطلاقا من أنبل الدوافع، اكتسبوا على مر السنين فهما للقيادة سيشكل إسهاما قَيِّما في الخبرة البشرية المشتركة.

          واليوم يقف هؤلاء الرجال متهمين بالخيانة العظمى، وبالتآمر للإطاحة بالحكومة عن طريق العنف. وإذا كان الأمر كذلك، فقد أقدموا على هذا للدفاع عن شعب تسعى الحكومة إلى إخراسه وإخضاعه بالسياط وأدوات الحرب. ولا مناص من الإقرار بأن هذه المحاكمة ليست محاكمتهم كأفراد فحسب، وإنما هي محاكمة لكل ما يمثلون، وهو لم ولن يكون الحرب وإنما السلم فيما بين رجال أحرار متساوين. وقد ردت الحكومة على ذلك بمزيد من الوحشية، حيث أصدرت أحكاما في الشهر الماضي فقط بإعدام ثلاثة من زعماء المؤتمر الوطني الأفريقي المحترمين. وبذلك أعلنت تلك الحكومة أن التحرر من الفقر ومن المعاناة ومن الهوان، والمساواة بين البشر دون تمييز على أساس اللون أو العرق، هي مسائل غير قانونية وإجرامية في أعينها. وتزمع الحكومة بمحاكمة ريفونيا أن تؤكد عشر مرات أن الحرية غير قانونية.

          والجرائم التي ارتكبتها حكومة جنوب أفريقيا ذات حجم يستعصي على أن يستوعبه العقل البشرى واستمرار وجود الفصل العنصري بدعم حكومات المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا الغربية، بصفة خاصة، لا يمكن إلا أن يعتبر عملا من أعمال العنف، ليس فقط ضد الشعب الأفريقي بأسرة وإنما أيضا ضد هذا القطاع من البشر الذي يسعى جاهدا لإزالة العنصرية في التعامل بين البشر. وبناء على ذلك فإن أي شخص لدية السلطة لوقف إعدام الرجال الذين تجرى محاكمتهم في بريتوريا ويمتنع عن ممارسة هذه السلطة إلى أبعد حد، هو متواطئ في هذا العمل بحكم الإغفال.

          وبعد، سيادة الرئيس، أود مرة أخرى أن أوجه الشكر لكم ولزملائكم للاستماع لي. وإذا كان لي يا سيدي أن أجرؤ على اغتنام هذه الفرصة، فأرجو منكم، بكل تواضع، ومع إدراك أن هذا الطلب ليس متواضعا، أن تتكرموا بإبلاغ هذه الرسالة إلى دول العالم من شخص على وشك أن يفقد أبا نبيلا وزعيما ساميا.

          لقد عمل دفاعا عن المبادئ التي يرتكز عليها المجتمع البشرى المتحضر، وذلك هو الحال بالنسبة لأشقائه الذين يقفون معا تحت حبل المشنقة اللعين. لقد أقدموا على ذلك مستلهمين الكفاحات المنتصرة التي شنت في الشمال، ومن بينها ثورة الجزائر التي لا تقل قدسية. واستمدوا العزم من الاحترام الذي يوليه شعبهم لهم والمثال الذي ضربه آباؤهم لهم. ومن جانبنا، إذا حقق الجزارون مآربهم، فسنستمد القوة حتى من الصلبان الصغيرة التي قد يضعها الرحماء على شواهد قبورهم. وفي غضون هذه العملية سنتعلم. سنتعلم كراهية الشر أكثر وأكثر، وسنسعى بنفس الشدة إلى الفتك به. وسنتعلم البسالة وإغفال كل شئ إلا هذا الكفاح الأنبل. واليوم ربما لا نكون سوى أطفال ضعفاء، لا يدفعهم سوى الخوف والحزن من أن نفقد آباءنا. ومع ذلك سنتعلم عندما يحين الوقت الموت من أجل أنفسنا ومن أجل الملايين على السواء. سيادة الرئيس، أود أن أوجه هذا النداء إلى العالم عن طريقكم وعن طريق أعضاء لجنتكم الموقرين، وذلك باسم أمى وأخوي وأختي وبالأصالة عن نفسي، وباسم أسرة مانديلا وسيسولو وملابا وغرلدبرغ وغيرهم، وباسم شعب جنوب أفريقيا.

          باسم الإنسانية يجب وقف حكومة جنوب أفريقيا، لقد حملت تلك الحكومة السلاح بصورة إجرامية ضد شعبي. هل هناك أى عصابة من الجزارين بلغت من القوة إلى حد تحدى العالم بأسره؟ لا يمكن السماح بموت الزعماء الذين تجرى محاكمتهم في ريفونيا على أيدي حكومة جنوب أفريقيا.