مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

بسم الله الرحمن الرحيم

مقــدمــة

          كانت لحظة قاسية على النفس تلك التي ودّعتُ فيها عمراً من العمل العسكري، وهبت له نفسي، فأحببته وتفانيت فيه بكل ذرة من كياني وكل خلجة من خلجات فؤادي. كانت كل خطوة أخطوها تقرع ذكرى وتثير هاجساً، وأنا أغادر مبنى وزارة الدفاع بعد أن أعلنتُ انتهاء مهمة قيادة القوات المشتركة، ورفعت طلباً بالإحالة إلى التقاعد. لم أكن أسمع في تلك اللحظة سوى وقع أقدامي ولم أكن أشعر بما حولي. هأنذا أتلقى التحية العسكرية للمرة الأخيرة وأطوي سجل حياتي العسكرية، سجلاً حافلاً بالأحداث الجسام والملمّات العظام، تارةً خيراً ويُسراً وأخرى ضُراً وعُسراً. كانت لحظة من أصعب اللحظات التي مرّت بي، إذ كيف يضع الجندي سلاحاً حمله ما يقرب من ربع قرن؟ كيف يخلع لباساً تشرّف به عمراً؟ كيف يبتعد عن رفاق الدرب وزملاء السلاح وشركاء النصر، الذين قضى معهم أزهر سنيّ حياته؟!

          بدأ شتات الذكريات التي كنت أسترجعها على وقع خطواتي يتبلور وينتظم عقداً متسلسلاً من الوقائع والأحداث كأنها شريط سينمائي. بدءاً بطفولتي التي اتسمت بالمغامرة، وصباي الذي طبعه حب الجندية، وشبابي الذي حفل بالعمل العسكري الذي عشقته بكل جوارحي، ودراساتي في المعاهد العلمية العسكرية والمدنية، وتدرجي في الوظائف والمناصب، وانتهاء بقيادتي للقوات المشتركة في حرب الخليج.

          وكما أسهمَت البيئة العربية الأصيلة، والآداب الإسلامية الرفيعة في تكوين شخصيتي وطباعي، فقد أسهمت كذلك أحداث منطقة الشرق الأوسط، تلك المنطقة المضطربة التي لا يكاد يقرّ لها قرار، في رسم مسار حياتي العملية . فكانت الصراعات والحروب أودية جرى فيها نهر حياتي، وحروفاً سطّرت مستقبلي العسكري.

          ففي عام 1956 م عندما وقع العدوان الثلاثي على مصر، كنت وقتها طفلاً لا أعرف للحرب مَعْنى، لكني شعرت أن خطراً ما يحيط بنا حين رأيت والدي وأعمامي والشعب كله يهرعون إلى حمل السلاح، فانطبع في ذاكرتي أن الزيّ العسكري وحمل السلاح هما الوسيلة الوحيدة لدرء المخاطر. ثم لم تلبث أن اندلعت حرب اليمن التي هدّدت أمن المملكة وأمانها، ومنها تعلمت، وأنا لا أزال صبياً، أن لا مناص من الاستعداد وحمل السلاح والاعتماد - بعد الله- على قوتنا الذاتية. ومن هنا كان توجُّهي بضرورة الانخراط في سلك الجندية لأشارك في الدفاع عن أرضنا وترابنا. ثم وقعت حرب يونيه 1967 بين العرب وإسرائيل، بينما كنت أدرس في أكاديمية ساندهيرست العسكرية، فتجرعت، وإخواني العرب هناك كأس الذل والمهانة، إذ أصبحنا هدفاً للتندّر والسخرية. ومن تلك الحرب أدركت أهمية القوة الجوية، بعد أن أعطى التفوق الجوي لإسرائيل قصب السبق في ذلك النزال.

          ولَمّا نشبت حرب أكتوبر عام 1973 م، شعرنا بنشوة الانتصار بعد أن نجح العرب في محو عار الهزيمة والذل الذي حاق بهم عام 1967. وبهرني الأداء الرائع لقوات الدفاع الجوي المصرية في تلك الحرب ودورها في الحد من قدرة الذراع الطويلة لإسرائيل، مما جعلني أنادي بأن يكون الدفاع الجوي في المملكة قوة مستقلة. وأصبحت فيما بعد قائداً لها.

          ولم يمضِ وقت طويل حتى اندلعت حربٌ ضروس أخرى قرب حدودنا، حربٌ استمرت ثماني سنوات وأهلكت الحرث والنسل، تلك هي الحرب العراقية - الإيرانية، والتي رأيت فيها جرحاً عربياً إسلامياً يقطر دماً ومرارة، وطعنة في جسد أمة أثخنتْها الجراح وتكسّرت فيها النصال على النصال. وتعلمنا من تلك الحرب ضرورة امتلاك أسلحة ردع تجبر العدو على التفكير غيرَ مرة قبل الاعتداء أو التهديد. ووُلِدَت قوة الصواريخ الإستراتيجية السعودية، وكُلِّفت بقيادتها.

          ثم وقعت الطامة الكبرى بغزو صدّام دولة الكويت وما آلت إليه الأحداث من تحالف دولي شنّ حرباً برية استغرقت مائة ساعة، وشهدت أكبر حملة جوية في التاريخ العسكريّ. ووجدتُني في قلب الأحداث قائداً للقوات المشتركة. فعشت وقائع الحرب وأحداثها لحظة بلحظة، وكنت أسهر حين ينام الآخرون، وأُعرّض نفسي للموت ويأمن الآخرون. لم أكن أفكر إلاّ في درء الخطر عن بلدي، ورفع الظلم عن بلد شقيق.

          وما أن انقشع غبار المعركة حتى انبرت الأقلام، في الشرق والغرب، تصف وتوضح، وتحلّل وتفسّر، وتُجْمِل وتعمِّم. انتقل ميدان المعركة إلى الأوراق. انزوت الطائرات والصواريخ، وبرزت المقالات والأقلام. سوّدت الصفحات وسالت عليها أحبار الطباعة، ولكني ما وجدت في تلك الأوراق رأياً متجرداً ولا قلماً منصفاً. كان هَمُّ من تصدى للكتابة أن يُمجّد بلداً أو يصنع بطلاً، علَت الطنطنة الإعلامية واختفت الحقائق. أين دور العرب والمسلمين في تلك الحرب؟ أين دور المملكة؟ أين دور خادم الحرمين الشريفين الذي تجلّت لديه الشجاعة، كل الشجاعة، أن يضع في لحظة الخطر أمن الوطن فوق كل اعتبار، فاتخذ قراراً تاريخياً أملاه المنطق وفرضته الحكمة؟ وأين دور ولي العهد الأمير عبدالله بن عبد العزيز، وجهوده في تطوير الحرس الوطني حتى أضحى قوة مقاتلة حديثة، أبلت وحداته مع وحدات القوات البرية بلاءً حسناً في معركة الخفجي، التي ستظل نقطة مضيئة في سجل التاريخ العسكري السعودي؟ وأين دور وزير الدفاع الأمير سلطان بن عبد العزيز، ذلك الجنديّ المجهول الذي كانت بصماته وأفكاره تشكل نبض المعركة وحركتها، فكان حقاً القائد الموجّه، مفتاح النصر وسر النجاح؟ وأين دور الجنديّ السعودي، الذي أثبت للعالم أجمع قدرته على استيعاب أحدث التكنولوجيا العسكرية وأشدها تعقيداً، فبذل النفس والنفيس ليرفع كلمة الله أو يستشهد دونها؟ وأين دور كل دولة هبّت إلى مساندة الحق وردع الباطل، نصرة للعدل وفرضاً للسلام؟

          لقد أظهرت تلك الحرب بجلاء أن المملكة العربية السعودية ، القلب النابض للعالم الإسلامي، هي حجر الزاوية في الدفاع عن منطقة الخليج. فما كان التحالف ليخوض تلك الحرب أو أن تنتهي إلى ما انتهت إليه من انتصار للإرادة الدولية، لولا البنْية الأساسية العسكرية والعمق الإستراتيجي الذي تتمتع به المملكة، فضلاً عن الإسهامات المادية والعينية التي بذلتْها في هذا الصدد، فجعلت رحى الحرب تدور دون خلل أو فتور. استطاعت القوات المتحالفة الشقيقة والصديقة التجمع والانتشار والقتال والانتصار وتحرير دولة الكويت الشقيقة، وكانت المملكة هي محور ذلك التحالف ومناط تجمّعه. وعلى الرغم من ذلك، اختفت حقائق كثيرة أو شُوّهت أو قُدّمت مبتورة أو في غير موضعها.

          وفي عالم أَفَلَتْ فيه شمس الحقيقة، وجَنَحَت الآراء لغير الحق والصدق، أحسست أنّ لديّ قصة، بل قصصاً، من واجبي أن أرويها. وشعرت بأني مدين لأسرتي وعائلتي ووطني، ولدول التحالف التي خاضت الحرب معنا، ولجنودنا الذين ضربوا أروع الأمثلة في البسالة والولاء، بل وللتاريخ نفسه، مدين لهؤلاء جميعاً، بأن أضع الأمور في نصابها وأن أَذكر لكل ذي فضل فضله، وأن أطرح الدروس والعبر علَّها تكون نبراساً للآخرين.

          ولا يفوتني أن أشير إلى أن هذا الكتاب لا يمثل وجهة نظر رسمية إزاء الحرب أو إزاء بلدي، فلست أتحدث هنا باسم المملكة العربية السعودية أو باسم العائلة المالكة، بل أروي تجارب عشتها، ووقائع شهدتها، وأحداثاً شاركت في صنعها.

          وقد ضمّنت الكتاب بعض الفصول التي تتحدث عن طفولتي وعائلتي وحياتي العلمية والعملية، كي أقدم للقارئ لمحة عن ظروف نشأتي والخبرات التعليمية والتدريبية التي توافرت لي وعاونتني، دون شك، على حمل المسئولية وأداء الأمانة وإنجاز المهمة. ومن هنا يُعَدّ الكتاب نوعاً من كتابة السيرة الذاتية، تمثل حرب الخليج فيها جزءاً من سجلي العسكري وأحداث حياتي. بيد أن الكتاب ليس تأريخا عسكرياً كاملاً للحرب، وليس سيرة ذاتية شاملة. فالسيرة الذاتية قد تكون سابقة لأوانها لرجل لم يتجاوز الخامسة والأربعين من عمره.

          ويحدوني الأمل على أن يكون تسجيلي للأحداث التي عشتها لحظة بلحظة، عبرة وعظة وصوت نذير لا يفتأ يتردد في آذاننا، يدعونا إلى اليقظة كل اليقظة. ففي عالم يموج بالأحقاد والفتن، غابة يأكل فيها القوي الضعيف، لا سبيل إلى تحقيق أفضل الأوضاع إلاّ بالاستعداد لأسوأ الاحتمالات. فالقوة هي الدرع التي تحمي الحق، وتصون الكرامة، وتحقق الأمن والأمان.

          ولا يفوتني أن أذكر بالشكر والعرفان، بعد شكر الله عزَّ وجل، كل أولئك الذين بذلوا مساعدتهم لي في إعداد هذا الكتاب وما تطلبه من بحث واستقصاء، ومنهم أناس ظهرت أسماؤهم بين دفتيه، ومنهم من لم ترد أسماؤهم، بيد أني مدين لهم جميعاً بالشكر الجزيل، لا سيما زملائي في القطاع العسكري الذين عملوا بجواري ولـم يتسع المجال لذكرهم، كما أشكر المملكة قيادة وشعباً، وقادة الدول المتحالفة الذين تشرفت بقيادة قواتهم.

          وأخيراً، يطيب لي أن أذكـر بمزيد من الشكر والتقدير العميد محمد فاروق عبد الكريم، الذي قابلته للمرة الأولى عندما كنّا ندرس معاً في كلية القيادة والأركان في فورت ليفنوورث في ولاية كانساس، كان ولا يزال صديقاً حميماً ومستشاراً صدوقاً ومساعداً لا تفت من عزيمته الصعاب على مدى الاثني عشر عاماً الماضية.

          إنني لأرجو أن يجد القارئ في هذا الكتاب كل المتعة والفائدة، وأن أكون قد وُفقت في توضيح أكثر الحقائق، ووضع معظم الأمور في نصابها، إحقاقاً للحق وإبراءً للذمة وإخلاصاً للتاريخ. والله الهادي إلى سواء السبيل.

خالد بن سلطان بن عبد العزيز

ذو الحجة 1415هـ / مايو 1995م    

بداية الصفحة تالي