مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصل الثاني

القرار التاريخي

        عندما علم الملك فهد بخبر غزو العراق الكويت وكان ذلك قبل الثانية صباحاً من يوم الخميس الثاني من أغسطس 1990، لم يصدِّقه. ولكن التقارير وردت بعد ساعة واحدة لتؤكد أن قوات "الكوماندوز" العراقية المحمولة جواً احتلت بالفعل عدداً من المباني الحكومية المهمة في مدينة الكويت واتضح بعد ذلك، أن تلك القوات كانت تشكل رأس الحربة لقوات غزو قوامها ثلاث فرق من قوات الحرس الجمهوري العراقي. فقد نفذت فرقة مدرعة، وفرقة مشاة آلية الهجوم الرئيسي على الكويت بينما نفذت فرقة مدرعة أخرى الهجوم المساند من الغرب.

        حاول الملك فهد الاتصال بصدّام حسين عبر أحد هواتفه الخاصة التي تربو على الخمسة عشر هاتفاً، وهو لا يكاد يصدِّق ما يسمع. لكنه لم يتمكن من مكالمته. ولم يستطع الملك فهد التحدث إلى صدّام إلاّ عند العاشرة من صباح ذلك اليوم. ووجد صداماً في غاية الغبطة، كأنَّما حِيزت له الدنيا بأسرها. ويُروى أن محادثتهما دارت على النحو التالي:

        الملك: "ما هذا الذي أسمع؟!".

        صدام: "لا تشغل بالك، سأرسل إليك عزت إبراهيم ( نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي ) وسيشرح لك كل شيء".

          وحاول الملك فهد، في صباح اليوم نفسه، الاتصال هاتفياً بالملك حسين، عاهل الأردن لكن قيل له إنه نائم. وبدا لخادم الحرمين الشريفين أن الملك حسيناً كان يتهرب من التحدث إليه.

        وفى الثالثة بعد ظهر الجمعة، الثالث من أغسطس، استقبل الملك فهد المبعوث العراقي، عزت إبراهيم وقد أدهش الملك إصرار المبعوث العراقي على إبلاغه تأكيدات صدّام حسين أن المملكة لن يصيبها أي أذى من جانب العراق
وأجابه الملك فهد: "إنني أناقش وضع الكويت وليس أمن المملكة العربية السعودية !".
وكان رد عزت إبراهيم "لم أحضر إلى هنا لأناقش مسألة الكويت لقد تصحَّح وضع الكويت الآن. ولا يمكن لعقارب الساعة أن تعود إلى الوراء. جئت فقط لأطمئنكم على أمن المملكة".

        كان لهذا الحديث، الذي أظن أنه دار بينهما، أثره في تحديد نظرة الملك إلى الأزمة. كان الملك غاضباً أشد الغضب من احتلال العراق الكويت لقد أدى ذلك الاحتلال إلى زعزعة الأوضاع القائمة في الجزيرة العربية، تلك الأوضاع التي حاول جاهداً، منذ أن تولى الحكم، العمل على استقرارها. أما الآن، فقد أدى الغزو إلى قلب موازين السياسة العربية رأساً على عقب. كما كان الملك وما زال يحمل في قلبه حباً خاصاً للكويت، إذ كانت الملاذ الآمن لأبيه ( جدي ) جلالة الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - من مناوئيه آل رشيد، خلال حكمهم وشمال الجزيرة العربية. وظل الملك عبد العزيز في الكويت حتى خرج منها في يناير عام 1902 في غارته التاريخية لاسترداد الرياض إلى حكم آل سعود.

        وثمة سبب آخر أَحزَن الملك كثيراً، يعزى إلى تلك الصداقة القوية التي كانت تربطه بصدام وتجعله يبذل له كل العون والمساعدة. فإبَّان حرب العراق مع إيران، قدمت المملكة إلى صدّام قروضاً بلغت 16 ملياراً من الدولارات، بالإضافة إلى مبالغ أخرى أُعطيت له كمنح لا ترد. والآن، جاء صديقه الحميم ليطعنه من الخلف! وظهر جلياً ذلك الشعور بالأسى في خُطَب الملك الكثيرة التي ألقاها خلال الأزمة وأشار فيها مراراً إلى أن صداماً خيب كل آماله فيه.

        وكما يحدث دائماً في النزاعات بين الدول العربية، كان أول ما انصرف إليه تفكير الملك هو حل النزاع العراقي - الكويتي من طريق الوساطة. ولكن بحلول مساء الجـمعة، وبعد يومين من المشاورات والاتصالات مع القادة العرب والأجـانب، تبين للملك أن لا جدوى من الاستمرار في ذلك النهج. تأكد الملك، في ذلك اليوم، من أن صداماً ينوي البقاء في الكويت ولن تُفلح أية قوة عربية في إخراجه منها. وأصبح الحديث عن "حل عربي" ضرباً من الوهم. فقد ذهب الحل العربي مع الريح وألقت به في مكانٍ سحيق. لم تعد تفلح تلك الأساليب الدبلوماسية العربية التقليدية. لم يعد هناك مكان للحوار الأخوي، أو لإصلاح ذات البين، أو للتنازلات المتبادلة، أو للعناق والقبلات التي يتلوها رأب الصدع. حقاً، لقد كان الخطب جللاً.

        ارتكز استياء الملك ورفضه عدوان العراق علي الكويت على عاملين: إنساني وأخلاقي. فالكويت جارة وشقيقة وعضو، في الوقت نفسه، في مجلس التعاون لدول الخليج العربية . ولم يغب عن فطنته المغزى السياسي الجغرافي ( الجيوبوليتيكي ) لهذا الاحتلال. فلو ابتلع صدّام الكويت فلا شك أن استقلال المملكة ودول الخليج قاطبة، سيصبح في خطر داهم. فضم الكويت إلي العراق سيجعل منه، دون شك، قوةً تسيطر على دول الخليج، بل علي نظام برمَّته. وعندما يغدو العراق سيّد المنطقة بلا منازع، فسوف يضغط على المملكة لترضخ لإرادته.

        في ضوء هذه الرؤية لا يصبح هجوم صدّام أو عدم هجومه على المملكة هو بيت القصيد. ذلك أن احتلاله الكويت يمكنه من إملاء شروطه في كل القضايا المهمة، لا سيما ما يتصل منها بالسياسة النفطية والسياسة الخارجية. ومن هنا جاءت قناعة الملك أن العدوان على الكويت عدوان على المملكة، وأن اختفاء الكويت يشكِّل خطراً جسيماً على أمن المملكة، عاجلاً أو آجلاً.

        كان هذا الفهم الواضح للأثر الذي انطوت عليه مغامرة صدّام في توازن القوى في المنطقة، سبباً في استياء خادم الحرمين الشريفين، أيضاً، من الملك حسين وياسر عرفات. فكلاهما اهْتَمَّ بالتأكيد أن صدام ليست لديه نية الهجوم على المملكة. كانا يقولان للملك: "لِمَ كل هذا التوتر؟ لقد أَكَّدَ لنا صدّام نفسه أنه لا يُضْمِرُ لكم شراً". ولم يلتفت الملك أيضاً إلى تلك التحليلات السطحية التي افترضت أن صداماً كان يمكن أن ينسحب من الكويت لو لَمْ يصدر قرارٌ بإدانته من مجلس جامعة الدول العربية في جلسته الطارئة في القاهرة وكانت وجهة نظر الملك أن الذين يفكرون بهذه العقلية أعْمَوا أبصارهم عن الآثار التي ستنجم بسبب ما فعله صدّام لقد هدد باحتلاله دولة الكويت بقاء المملكة دولة مستقلة ذات سيادة. ولا أظن أن أحداً في المملكة كان يساوره أدنى شك في أن ابتلاع الكويت يعني وقوع المملكة تحت ضغوط لا قِبَلَ لها بها من جانب صدّام حسين ، سواء أَقرَّر مهاجمتها على الفور أم أرجأ ذلك لبعض الوقت.

        ردد صدّام غير مرة، بعد انتهاء الحرب، قوله:"أخطأنا خطأً جسيماً لعدم إقدامنا على غزو المملكة العربية السعودية ، مما يعني أنه كان يُبيِّتُ النِّية لغزو المملكة في مرحلة قادمة. وعلى كلّ، لا سبيل لدينا إلى التحقق من نواياه، إلاّ أنّ ما فعله، من وجهة نظرنا، كان أمرا جدَّ خطير.

        لم يكن هناك بدٌ مع تعرض المملكة لهذا الخطر الداهم من أن يستعين الملك بالولايات المتحدة الأمريكية. وهي القوة الوحيدة التي تستطيع أن تطرد صداماً من الكويت وتعيد الحال إلى ما كانت عليه. وأبدى الملك ملاحظة في حينها، قائلاً: "لقد تباطأ الكويتيون في طلب المساعدة، وها هم اليوم ضيوف علينا، فلا يجب أن نرتكب الخطأ نفسه فنحل ضيوفاً على غيرنا!". عَلِمْنَا أن الكويتيين تلقوا تحذيراً أمريكياً بتحركات القوات العراقية، ولكنهم تباطأوا في طلب النجدة حتى فات الأوان.

        وكان الاستنتاج الذي تم التوصل إليه، في تلك الساعات العصيبة والأيام المحمومة التي تلت الغزو العراقي، بعد تقدير الموقفين السياسي والعسكري، أن نسبة القوات البرية السعودية إلى القوات البرية العراقية 1: 15. ونسبة القوات البرية في جميع دول مجلس التعاون الخليجي إلى القوات البرية العراقية 1: 7. وإذا قَدِم الجيش المصري بكامله لنجدة دول مجلس التعاون الخليجي فستظل النسبة 1: 2. أما إذا كان في قدرتنا استقدام الجيش المصري والجيش السوري كاملين، عندها فقط تصل النسبة 1: 1. ولكن لم يكن أمراً واقعياً أن نفترض أن مصر أو سوريا أو حتى شركاءنا الخليجيين يمكن أن يرسلوا كل قواتهم البرية إلينا. فالسوريون، على وجه الخصوص، كانوا مرتبطين بوجودهم على الجبهة مع إسرائيل وفي لبنان وكان عليهم أن يحتفظوا بقوات لهم في مواجهة العراق بالإضافة إلى هذه الصعاب كلها، كنَّا وأشقاءنا العرب نَفْتَقِرُ إلى وسائل نقل إستراتيجية واسعة النطاق، وسياسة دفاعية متكاملة.

        هل كان في وسعنا أن نتطلع إلى مساندة من بقية دول العالم الإسلامي؟ كانت باكستان منشغلة بمواجهتها مع الهند بينما بنجلاديش وماليزيا لا تمتلكان القوة الكافية، فضلا عن بُعد الشقة بيننا وبينهما. وكان الجو المحيط بنا مفعماً بالعداء. فإيران في الشرق، يسعدها أن تتعرض المملكة للعدوان. أما اليمن في الجنوب، والأردن في الشمال الغربي، فكلاهما متعاطفُ مع العراق ومرتبط به في مجلس التعاون العربي، الذي أُسِّس حديثاً. فقد بدا هذا المجلس، عند تأسيسه، أنه رد حاسم على مجلس التعاون لدول الخليج العربية . أمّا في الشمال الغربي، فهناك إسرائيل بتاريخها الطويل من العداء للعرب. بينما كان العراق على حدودنا الشمالية، يحشد قواته التي تزداد أعدادها كل ساعة. والأدهى من ذلك، أن الذي يتربع على سدّة الحكم في العراق حاكمٌ لا يحترم كلمته. فبينما رفض نائبه، عزت إبراهيم مجرد الحديث عن غزو الكويت كانت القوات العراقية ترتكب أبشع الجرائم فيها.

        قرر قادتنا السياسيون، إثر تحليلهم الموقف من كل جوانبه، أن القوات الصديقة التي تمكن دعوتها لمساندتنا لا بد أن تتوافر فيها شروط عدة، أُوجزها في الآتي:

1 - التمتع بخفة حركة عالية، وقدرة سريعة على الرد.
2 - امتلاك القدرة على الردع، حتى قبل الوصول إلى المملكة.
3 - القدرة علي حماية خطوط الإمداد، لا سيما البحرية منها.
4 - القدرة على الدفاع عن المملكة ومواجهة أي هجوم عراقي محتمل
5 - الاستعداد لشن عملية هجومية لتحرير الكويت في القريب العاجل.

        والنتيجة الواضحة أن مثل هذه الشروط لا تتوافر إلاَّ في القوات الأمريكية. وسيظل قرار الملك فهد استدعاء القوات الأمريكية، والقوات الأخرى الشقيقة والصديقة، الذي سُمّي بحق قراراً تاريخياً، أحد إنجازاته الخالدة. وهو قرار أملاه المنطق أيضاً. فالملك لديه الشجاعة كل الشجاعة أن يضع في لحظة الخطر أمن الوطن قبل أي اعتبار. فعل ذلك مواجهاً كل المحاذير والشعارات الجوفاء التي كان يرددها أدعياء القومية العربية. ولم تثنه عن عزمه مقولة القائلين: إن الاستنجاد بالقوات الغربية سوف يشعل المنطقة بأسرها. فهل تعنى القومية العربية أن نرضخ لإرادة المعتدي؟!

        لم يغب عن خادم الحرمين الشريفين أن بعض المسلمين قد يعترض، بلا شك، على طلب المساندة من القوات الأجنبية، خصوصاً أنها المرة الأولى التي تدخل فيها قوات غير إسلامية إلى أراضينا. فالمملكة لم تتعرض في تاريخها لاستعمار غربي، خلافاً لأجزاء العالم العربي الأخرى. كان الملك يدرك تخوف بعض المسلمين من بقاء القوات الأجنبية في المملكة بعد انتهاء مهمتها. كما كانت ثمة مخاوف أخرى من ردود الفعل السلبية لبعض المواطنين السعوديين ومواطني الدول العربية والإسلامية الأخرى. بيد أن الملك أدرك بحكمته أنه، إزاء التهديدات الناجمة عن غزو صدّام الكويت لا بد من تحمل تلك المخاطر كلها. فالملك يأخذ الرأي العام الإسلامي بعين الاعتبار في كل ما يفعله. وإنجازاته الإسلامية يعرفها القاصي والداني. ويكفي قيامه بأكبر توسعة في التاريخ للحرمين الشريفين، وتوجيه رسالة رسمية إلى الأمير عبدالله بن عبد العزيز وليّ العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني ( في 24 صفر 1407 هـ، الموافق 27 أكتوبر1986م في المدينة المنورة ) يُعَبِّر عن رغبته في أن يُلَقَّبَ بلقب يعتز به هو: "خادم الحرمين الشريفين" بدلاً من "صاحب الجلالة" أو أية ألقاب تدل على التبجيل أو التعظيم.

        تدور تكهنات كثيرة عن كيف ومتى عقد خادم الحرمين الشريفين العزم على دعوة الأمريكيين. ويدّعي بعض الكُتَّاب أن ذلك القرار اتُّخِذَ في اليوم السادس من أغسطس، عندما وصل ديك تشيني dick cheney، وزير الدفاع الأمريكي، إلى جدّة، على رأس وفد كبير يضم الفريق أول نورمان شوارتزكوف norman schwarzkopf، قائد القيادة المركزية الأمريكية، وروبرت جيتس robert gates ، الذي عُيِّن فيما بعد مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، و بول ولفوفيتز paul wolfowitz ، نائب وزير الدفاع للشؤون الدولية، والفريق تشارلز هورنر charles horner، قائد القوات الجوية للقيادة المركزية الأمريكية، والفريق جون يوساك قائد القوات البرية للقيادة المركزية الأمريكية، وفي صحبتهم جَمْع من كبار المساعدين وهيئة الأركان. استقبل الملك فهد الوفد الأمريكي، كما استقبله أيضاً ولي العهد الأمير عبدالله، والأمير الأمير بندر نائب وزير الدفاع، والأمير سعود الفيصل وزير الخارجية، وعثمان الحميد مساعد وزير الدفاع، والفريق أول ركن محمد صالح الحمّاد رئيس هيئة الأركان العامة. وتولى أخي، سفير خادم الحرمين الشريفين لدى واشنطن مهمة الترجمة للملك. أمّا الأمير سلطان وزير الدفاع، الذي كان في المملكة المغربية في ذلك الوقت، يتماثل للشفاء إثر عملية جراحية في الركبة، فقد تمت استشارته بالهاتف في كل مرحلة، وفي كل جانب من جوانب الأزمة. وقد توجَّه إلى جدّة في ليلة السادس من أغسطس واجتمع إلى تشيني في اليوم التالي.

        ويقول بعض الروايات إن العامل الأساسي في قرار الملك يُعزى إلى صور الأقمار الصناعية التي عرضها عليه تشيني وأظهرت وجود حشود عسكرية عراقية على حدود المملكة. وثمة رواية أخرى تجزم أن الأمر بدأ يتخذ الصورة التي انتهى إليها قبل ذلك، وتحديداً بعد لقاء "المرأة الحديدية" مارجريت تاتشر margaret thatcher ، رئيسة وزراء بريطانيا، والرئيس الأمريكي جورج بوش george bush أسبن في aspen في ولاية كولورادو colorado في يوم الغزو نفسه، حيث أقنعته بضرورة التدخل.

        هذه الروايات جميعها تغفل أمراً مهماً هو أن قرار الملك استدعاء القوات الأمريكية لم يكن وليد لحظته، ولم يكن موضع خلاف داخل العائلة المالكة. ولم يتدخل في اتخاذ الملك لهذا القرار شخص أجنبي أو غير أجنبي. فمثل هذا القرار الحيوي الذي يتعلق بمصلحة الوطن لا يُتَّخذ بناء على تعليق عابر من هنا أو هناك! فحماية بلدنا وأمنه لم يكونا ليعتمدا على مصادفة وجود السيدة تاتشرالولايات المتحدة الأمريكية

        ومما تنبغي الإشارة إليه أن القدرة الدفاعية للمملكة، في ضوء توجيهات الأمير سلطان، تحسنت بشكل ملحوظ خلال العقد الماضي. وارتفعت، بوجه خاص، كفاءة القوات الجوية وكذلك قدرات الدفاع الجوي، مع تحسين البنْية الأساسية العسكرية وتطويرها بما اشتملت عليه من "المدن العسكرية" التي أنشئت في المواقع الإستراتيجية في مختلف أنحاء المملكة. وعلى الرغم من تلك التطورات الهائلة، تبقى ثمة حقيقة لا يمكن إغفالها أو إخفاؤها، مؤداها أن المملكة، بمساحتها الشاسعة وقلة سكانها ووجود ذلك الاحتياطي الهائل من النفط في أراضيها، لا تزال هدفاً للطامعين. ولهذا، قامت فرضية ثابتة اتفق عليها كل صانعي القرار في المملكة تقضي بضرورة الاستعانة بأصدقائنا وكل من تربطنا بهم مصالح مشتركة، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية إذا تعرضنا لعدوان شامل لا طاقة لنا به ( من جانب الاتحاد السوفيتي السابق على سبيل المثال ). وكان ضمن حساباتنا أن من مصلحة الغرب مساندتنا، فالصداقة تَصْدُق على مستوى الأفراد، أمّا على مستوى الدول فالمصلحة تكون دائماً فوق كل اعتبار.

        وليس سراً أن الأمريكيين حاولوا جهدهم سنوات طويلة لتتخذ هذه العلاقة الأَمنية شكلاً رسمياً، بالسماح لهم بتخزين معدات عسكرية في المملكة. فقد طلب الرئيس كارتر carter من المملكة أن توقع اتفاقية دفاع مع الولايات المتحدة، عقب صدمة سقوط الشاه أوائل عام 1979 تحسباً من أن سقوطه قد يؤدّي إلى حالة من عدم الاستقرار في المنطقة. كما ذهب الرئيس ريجان reagan أبعد من ذلك حين عرض على المملكة صفقة تشبه "التحالف الإستراتيجي" مع إسرائيل وقال: "في وسعكم أن تحصلوا على كل شيء تحصل عليه إسرائيل". لكن الملك فهداً، الذي كان وقتها ولياً للعهد، لم يرَ ضرورة إلى أن تتخذ تلك العلاقة بين المملكة والولايات المتحدة شكلاً رسمياً، وكان دائماً يقول إنه إذا حدث أمرُ يعرّض، مصالحنا ومصالح الولايات المتحدة للخطر، فلن نحتاج عند ذلك إلى تحالف رسمي، بل سنحارب معاً، أما إذا لم تكن مصالح الولايات المتحدة مهددة فلا شيء سيجبرها على الوقوف معنا.

         كانت وجهة نظر خادم الحرمين الشريفين دائماً أن الأخطار التي تهدد المملكة نوعان: خطرٌ يشكِّل تهديداً لمصالح الولايات المتحدة، وفي مثل هذه الحالة سيتدخل الأمريكيون لا محالة. وخطرٌ لا يشكِّل تهديداً لمصالحهم، وفي هذه الحالة قد يترددون في التدخل. ولذلك رأى الملك عدم جدوى الارتباط بتحالف مع الولايات المتحدة، لأن ذلك يثير حفيظة العالميْن العربي والإسلامي. ولا أعتقد أن أحداً من كبار العائلة المالكة يختلف مع هذا التحليل، لكن الصحفيين وغيرهم من المراقبين يبحثون دائماً عن نقاط للخلاف.

         وعلى الرغم من رفض الملك طلبات الولايات المتحدة إقامة تحالف رسمي، إلاّ أننا كنّا على اطلاع تام ومستمر على الاستعدادات الدفاعية الأمريكية في المنطقة. فقد أُحطنا علماً بتصميم الإدارة الأمريكية، في عهد الرئيس كارتر على التدخل العسكري في المنطقة إذا تعرضت المصالح الأمريكية للخطر، وهو ما عُرف بمبدأ كارتر ولاحظنا أيضاً ميلاد ( قوة الانتشار السريع ) الأمريكية وتطورها عام 1983 في القيادة المركزية الأمريكية centcom التي أَضْفَتْ المصداقية، للمرة الأولى، على التزام الولايات المتحدة بأمن الخليج. كما ارتفعت، في الوقت نفسه، مبيعات الأسلحة الأمريكية للمملكة. لكل ذلك، آثر الملك فهد وجيراننا في الخليج، بدلاً من توقيع اتفاقية دفاعٍ مع واشنطن أن ينضوي الجميع تحت مظلة دفاعية أمريكية. مظلةٌ تُفْتَح فقط عند تعرض المنطقة لتهديد حقيقي.

         تلك هي خلفية قرار الملك، بعد أن عَرّض صدّام أمننا وأمن المنطقة بأسرها للخطر، وهدد الاقتصاد العالمي الذي تُشَكِّل منطقتنا الشرقية الغنية بالنفط مركزاً حساساً فيه. ولمّا كان الأمريكيون هم وحدهم القادرين على صدّ عدوان صدّام ودحره، فلا بديل من مقدمهم، وإن لم يغب عن بالنا أن استدعاءهم لا يخلو من مخاطر جمّة. ولكن خوفنا تبدّد بناء على إصرار الملك على أن يقبض بنفسه على زمام الأمور. فعلى سبيل المثال، كان من ضمن شروط قبول مساندة الولايات المتحدة شرط ينص على توقيع تعهد بمغادرة القوات الأمريكية المملكة متى طلب منها الملك ذلك.

         لم يكن استدعاء الأمريكيين أو عدمه أمراً يشغل بال الملك ومستشاريه، بل ظل شغلهم الشاغل: "هل يمكن الاعتماد على الأمريكيين فعلاً، وهل سيأتون بأعداد كافية وتصميم صادق على إتمام المهمة؟". هذا هو السؤال الذي شغل تفكيرنا خلال الأيام الأربعة أو الخمسة التي أعقبت الغزو، والذي دار في شأنه كثير من الأخذ والرد عبر المحيط الأطلسي.

         وريثما تتضح الإجابة عن ذلك السؤال، مضى الملك في مشاوراته مع القادة، عرباً وغير عرب. كان عليه التأكد من مصداقية الاعتماد على الولايات المتحدة ثم على بريطانيا قبل أن يصدر قراره الحكيم باستدعاء القوات الأجنبية. تحدث الملك ساعات طويلة، في تلك الأيام الأولى، إلى الرئيس بوش والسيدة تاتشر. ولا أعرف على وجه التحديد هل تناول الحديث موضوع تحرير الكويت أم لا، ولكن في وسعنا الافتراض أنه لولا حصول الملك على تأكيدات جازمة من الرئيس الأمريكي ورئيسة وزراء بريطانيا أنهما سيخوضان المعركة، لمضى في محاولاته للبحث عن حل عربي للمشكلة، على الرغم من يقينه أن الحل العربي لا يمكن أن يُعَوَّل عليه، لكنه لم يشأ أن يخاطر بفقدان العرب والغرب معاً.

         وهذا يعني أن الهدف من مهمة تشيني في الرياض يوم 6 أغسطس كان إضفاء اًلصِّبْغَة الرسمية فقط على أمر تم الفصل فيه. فالملك قد حزم أمره فعلاً، والرئيس بوش قد أصدر أوامره إلى حاملتي طائرات بالتوجه إلى المنطقة قبل السادس من أغسطس. وبينما الفِرقة 82 المحمولة جواً تستعد للتحرك، كان الملك يستقبل الوفد الأمريكي.

         وكما سبق أن ذكرت، فلا يساورني أدنى شك أنه لم يكن هناك اختلاف في الرأي في هذا الأمر بين صانعي السياسة في المملكة: الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله والأمير سلطان النائب الثاني.

         صوّر بعض المعلقين حرب الخليج وكأنها حرب غربية استعمارية استهدفت حماية المصالح الاقتصادية الغربية. وذهب بعضهم الآخر، وبينهم كثير من العرب، إلى أنها مؤامرة أمريكية - إسرائيلية خبيثة لتدمير الدولة العربية الوحيدة القادرة على تحدي القوة العسكرية الإسرائيلية. وغاب عن هؤلاء المعلقين كافة أن صداماً لم يهدد فقط المصالح الغربية والإسرائيلية، فلو كان التهديد مقتصراً على تلك المصالح وحدها، لكان التحالف الذي خاض المعركة ضده مختلفاً. لكنه تجاوز ذلك فهدد مصالح دول لها أدوار رئيسية في المنطقة كالمملكة وسوريا ومصر ودول أخرى غير عربية كتركيا وإيران. وإن أحداً لن يطيق أحلامه في فرض هيمنته على المنطقة، وهو الهدف الأساسي لعدوانه.

         رأى كثير من الدول، على اختلاف مصالحها، في عمل صدّام تهديداً لأمنها واستقرارها، مما مَكّن الرئيس جورج بوش من تكوين تحالفٍ أنزل بالعراق أشد العقاب. فالنظرة إلى الحرب من منظور المصالح الغربية دفاعاً عن حقول النفط أو حمايةً لأمن إسرائيل فقط، تُعَد نظرة قاصرة لا تُلِم بكل جوانب الأزمة لأنها تغفل أثر العمل الذي قام به صدّام في السياسة الإقليمية ومصالح القوى الفاعلة في المنطقة.

         لقد بلغت الحماقة بصدام أنه هدد مصالح كل الدول التي تتاخم حدود بلاده، بالإضافة إلى دول أخرى بعيدة عنه، مما حدا بعدد من الدول العربية على التحالف مع دول أجنبية صديقة لشن الحرب عليه، على الرغم من اقتناعها أن المحصّلة النهائية لتلك الحرب ستكون في مصلحة أعداءٍ لها كإسرائيل. ولكنّ عدوان صدّام جعلها أمام أمرين أحلاهما مرّ.

سابق بداية الصفحة تالي