مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصل الثالث

المعركة من أجل السلْطة

         بينما الملك وولي العهد والأمير سلطان يعالجون الأزمة على مستوى السياسة العليا في تلك اللحظات الدقيقة الحرجة، مضى القادة العسكريون يقدحون أذهانهم للوصول إلى الرد العسكري المناسب على تلك الحرب التي تدور رحاها قرب حدودنا.

         أذكر أنني كنت في مزرعتي التي تبعد مسافة ساعة بالسيارة عن مدينة الرياض، عندما علمت للمرة الأولى بخبر اجتياح القوات العراقية الحدود الكويتية. أسرعت بالعودة إلى مكتبي في مقر قيادة قوات الدفاع الجوي، وأعلنتُ حالة التأهب القصوى لشبكة الدفاع الجوي التي تغطي المملكة. كانت الساعة، عندئذٍ، الرابعة من صباح الثاني من أغسطس 1990.

         توجهْتُ، بعد ذلك بقليل إلى مكتب الفريق أول ركن محمد صالح الحمّاد، رئيس هيئة الأركان العامة. ثم لحق بي الأعضاء الآخرون في لجنة الضباط العليا، وهم: الفريق الركن يوسف عبد الرحمن الراشد، قائد القوات البرية، والفريق الركن أحمد إبراهيم بحيري. قائد القوات الجوية، والفريق الركن طلال سالم المفضي، قائد القوات البحرية.

         كانت تواجهنا - نحن العسكريين - مشكلة ملحَّة، تتصل بإعداد الترتيبات العملية لاستقبال القوات التي عرضت الدول الصديقة إرسالها إلينا، وتأمين المساعدات اللازمة لنقلها وإيوائها وتموينها. أبدى المصريون والسوريون والمغاربة استعدادهم لإرسال قواتهم إلينا. ولكنْ، حتى ذلك الوقت، لم تكن ثمة استعدادات لاستقبالها. وكان لزاماً علينا أن نرد على استفسارات الأصدقاء الذين هبّوا إلى مساندتنا. لم يتطلّب الأمر إعادة ترتيب قواعدنا الجوية والبرية فحسب، بل كل هيكل الإمداد والتموين لدينا. كان الأسبوع الأول مرهقاً حقاً من الوجهة العسكرية، إذ لم تتضح أهداف صدّام بعد، وكانت استجابة المجتمع الدولي لا تزال أمراً يصعب التكهن به.

         سافر أفراد أسرتي، في أواخر شهر يوليه، خارج البلاد لقضاء العطلة الصيفية، وكان من المقرر أن ألحق بهم في الرابع من أغسطس. ولم أتمكن بطبيعة الحال من ذلك، لكنني أقنعتهم بالبقاء حيث كانوا لبعض الوقت. لم أفعل ذلك ليغدوا آمنين من الخطر، بل لحرصي على أن أُكرّس كل وقتي واهتمامي للأزمة القائمة.

         عندما بدت لي الصعوبات التي نواجهها في تحويل مؤسستنا العسكرية من حالة السلم إلى حالة الحرب، أيقنت أنه لا بدّ من التفكير بطريقة مبتكرة. أدركت الحاجة إلى إيجاد قيادة مستقلة إلى جانب الهيكل العسكري القائم لقواتنا المسلحة، وتعيين من نحتاج إليه من الضباط والأفراد لإنجاز تلك المهمة التي نحن في صددها. وخلاصة الفكرة التي كانت تراودني هي تشكيل قيادة عسكرية مؤقتة لقيادة وحدات وتشكيلات من القوات البرية والجوية والبحرية وقوات الدفاع الجوي، تحت إمرة قائد واحد، يُعهد إليها بأداء مهام محددة. وكان ذلك إجراءً متبعاً في معظم الجيوش، حتى في مجال الأعمال غير العسكرية عندما تستجد ظروف غير متوقعة. وتصورتُ أنه لكي تؤدي تلك القيادة مهامها على الوجه الأكمل، فلا بدّ أن تُمنح صلاحيات كاملة. تلك كانت رؤيتي إلى الوضع الراهن، من موقعي قائداً لقوات الدفاع الجوي الملكي السعودي في الأيام العصيبة الأولى.

         وبعد قضاء ليلة لم يغمض لي فيها جفن، وأنا أفكر في تلك المسائل، كتبتُ مقترحاتي وأرسلتها إلى رئيس هيئة الأركان العامة ورجوته النظر فيها ودراستها. وكان أول ما بَنَيْت عليه وجهة نظري هو أن هيكل القيادة الحالي تواجهه صعاب جمَّة في التعامل مع الأزمة. وأوضحت وجوب تشكيل قيادة للقوات المشتركة تكون مستقلة عن التسلسل القيادي العسكري القائم لتتولى إدارة الموقف، بما في ذلك التعامل مع الأمريكيين والقوات الصديقة الأخرى.

         ولكي أساعد رئيس هيئة الأركان العامة في الأسبوع الأول من الأزمة، طلبت من ضباط أركاني في قوات الدفاع الجوي إعداد رسومات تخطيطية تبين عدد وحجم ونوع الوحدات التي نحتاج إليها من الدول الشقيقة والصديقة، وكذلك الاستعدادات التي ينبغي أن تتم قبل وصول تلك القوات، والإجراءات الواجب اتخاذها حتى تصبح جاهزة للقتال. وقدّمت تلك البيانات إلى رئيس هيئة الأركان العامة.

          اتصلت، في اليوم الخامس من أغسطس، بالأمير سلطان في المملكة المغربية أطلب توجيهاته، فلا ريب أنه، وقد شغل منصب وزير الدفاع لأكثر من ثلاثة عقود، أضحى نبض القوات المسلحة الموجِّه لحركة إيقاعها بفكره وقلبه. فهو على علم تام بكفاءة كل قائد وضابط، وبمدى استعداداتنا وقدراتنا. كان الرجل الوحيد الذي في مقدوره أن يجد حلولاً للمشاكل التي كنّا نواجهها. فالأمير سلطان وإن لم يكن رجلاً عسكرياً إلاّ أن خبرته العسكرية تفوق خبرة كل قائد في صفوف قواتنا المسلحة.

         كان الأمير سلطان، لسوء الحظ، يتحرك في تلك الفترة بصعوبة وألم شديدين عقب الجراحة التي أجريت له في الركبة، حتى إن الملك طلب منه، رفقاً به ورحمة، أن يبقى في المغرب إلى حين اكتمال شفائه. ولكن الأمير سلطان ما كان ليبقى بعيداً عن وطنه في تلك الظروف المصيرية. وشعرت بالارتياح عندما علمت بقراره العودة إلى البلاد فوراً.

         كان متوقعاً أن يبدأ وصول القوات الأمريكية بأعداد كبيرة إلى المملكة في أيّة لحظة. وكان ديك تشيني، وزير الدفاع الأمريكي، والفريق أول شوارتزكوف قد خلَّفا وراءهما الفريق تشارلز هورنر قائد القوات الجوية للقيادة المركزية، والفريق جون يوساك ، قائد القوات البرية للقيادة المركزية، لإعداد الترتيبات اللازمة لوصول تلك القوات. وعُيِّن هورنر، إذ كان أقدم الضباط الأمريكيين، قائماً بأعمال قائد القيادة المركزية. وبدا، مثلي، مهموماً في شأن الدفاعات التي تفصل جحافل الجيش العراقي في الشمال عن العاصمة الرياض نفسها، فهي دفاعات لا تتعدى قوة ساترة سعودية. وظل نائب هورنرللقوات الجوية مشغولاً بنشْر الطائرات الأمريكية التي ستخوض المعركة جنباً إلى جنب مع قواتنا الجوية إذا تخطى العراقيون حدودنا. ولكن، وحتى ذلك التاريخ، لم يكن قد تحدَّد بعد مقر القيادة للقوات الأمريكية. وكانت مهمة يوساك الرئيسية هي التنسيق مع مختلف الجهات الحكومية السعودية للإعداد لاستقبال القوات البرية الأمريكية في موانئنا ومطاراتنا، والترتيب لتحركها إلى أرض المعركة. وكان الأمريكيون في حاجة إلى قرارات سريعة وحاسمة في شأن المواقع المناسبة لتلك القوات وترتيب إمدادها وتموينها. وتم ذلك كله في الأيام الأولى من شهر أغسطس، تلك الأيام الحُبْلَى بالأخطار والهموم. كان من المتعيّن على الأمريكيين أن ينشروا جنودهم في المواقع التي تمكنهم من الرد إذا أقدم العراقيون على الهجوم.

         كانت القوات الصديقة التي جاءت لمساندتنا في حاجة إلى أن تعمل مع فريق سعودي، بل مع قائد سعودي يملك سلطة التنفيذ. فثمة فراغ لا بدّ من ملئه، فاقترحت تكوين قيادة للقوات المشتركة لتملأ ذلك الفراغ.

         وقبل اكتمال تلك الترتيبات تدخلت بطريقتي الخاصة لتسيير بعض الأمور. فحصلت على موافقة الأمير سلطان ليكون مقر القيادة الأمريكية قرب مركز القيادة الحديث لقواتنا في الطابق الأسفل من مبنى وزارة الدفاع. فيسهل بذلك على الأمريكيين الاتصال برجالنا والتعاون معهم. وقدم ضباط أركاني كل المساعدات الممكنة إلى الفريق هورنر. ومن الطريف أن هورنر في تلك الأيام الأولى من الأزمة، كان يتنقل في سيارة مستأجرة غير مزودة بهاتف. فأمّنا له سيارة مزوّدة بهاتف لنظل على اتصال دائم به.

         كنت حريصاً كل الحرص أن يدرك رئيس هيئة الأركان العامة وقادة القوات أني لم أكن أسعى إلى منصب أعلى، أو أرغب في رئاسة القيادة المقترحة للقوات المشتركة. وأشرت عليهم أن يختاروا لذلك المنصب شخصاً قديراً، وألاَّ نتوانى جميعاً في مساعدته بكل ما نستطيع. وخلال يوم أو يومين، وتحت ضغط الحاجة الملحّة إلى استيعاب القوات الأمريكية القادمة، استجاب رئيس هيئة الأركان العامة لفكرتي فأرسل خطاباً إلى الأمير سلطان يؤيد فيه فكرة تعيين قائد للقوات المشتركة، ويرشحني، كأفضل شخص مناسب، لذلك المنصب. رَدّ الأمير سلطان على الخطاب فوراً، وطلب من رئيس هيئة الأركان العامة أن يبحث عن شخص آخر غيري. ربما كانت وجهة نظره ألاَّ يظهر وكأنَّه يُحابي ابنه، واقترح سموه اسم قائدٍ آخر فعلاً. كان ردُّ رئيس هيئة الأركان العامة على خطاب الأمير سلطان أنه، من وجهة نظره، لا يجد قائداً آخر أفضل مني ليقوم بتلك المهمة. وهنا تتجلى شجاعة هذا الرجل في ذلك الاعتراف، خصوصاً أن تعييني في هذا المنصب كان من شأنه أن يَقْلِب التسلسل القيادي رأساً على عقب.

         رُفع الأمر برمَّته إلى خادم الحرمين الشريفين، فوافق بتاريخ 9 أغسطس على تعييني قائداً للقوات المشتركة ومسرح العمليات، على أن يسري القرار اعتباراً من الثانية عشرة ظهر يوم الجمعة 10 أغسطس. ولم يَصْدُر بذلك مرسوم ملكي ولا إعلان رسمي، إذ اكتفى الملك بإرسال خطاب يحمل موافقته إلى الأمير سلطان. وكانت تلك طريقة حكيمة في تناول هذا الأمر، إذا أخذنا في الاعتبار المعارضة الشديدة التي أثارتها فكرة إنشاء قيادة للقوات المشتركة بين صفوف كبار الضباط، وبينهم من هم أعلى رتبة مني. وتمنيت لو أن تعييني صدر بموجب مرسوم ملكي حتى تبرز المسئوليات الجسام التي أسندها الملك إليَّ، ولكن عندما أُعيد التأمّل في تلك الأحداث يتبين لي أن تلك الرغبة كانت غير واقعية.

         ولا بدّ أن أصحح هنا رواية نورمان شوارتزكوف لهذه الأحداث في كتابه "it doesn't take a hero" كتب أن تعييني يُعَدّ أول نصر أحرزه هورنر ويوساك. وادَّعى أنهما بدافع الحاجة إلى قائد سعودي يملك سلطة إنفاق الأموال، "توسلا" إلى الأمير سلطان الذي عيَّنني بعد التشاور مع الملك. يقول شوارتزكوف: "إن الأمر ببساطة يعني أن خالداً كانت لديه صلاحية توقيع الشيكات". وهذه نظرة غير صائبة إلى أسباب تعييني قائداً للقوات المشتركة والخطوات التي أدت إليها. ولا يسع الفريق هورنر والفريق جون يوساك إلاّ أن يؤكدا أنهما لم يقابلا الأمير سلطان ولم يناقشا معه أمر تعييني ولم تكن لهما يد في ذلك الموضوع أصلاً.

          بادرت، دون إبطاء، إلى تشكيل قيادة القوات المشتركة ومسرح العمليات، واختيار الضباط الذين سيعملون معي. أدركت، منذ البداية، أن مهمتي تتضمن ثلاثة جوانب مختلفة سأتناولها بالتحليل في هذا الفصل وفي الفصول التي تليه.

          كان الجانب الأول من مهمتي عملياً، وهو تسهيل تدفق القوات الشقيقة والصديقة إلى المملكة، بكل ما تحمله كلمة تسهيل من معنى. وكان الجانب الثاني رمزياّ ولكنه جدّ مهم، وهو التأكد من أننا لن نصبح لقمة سائغة يبتلعها حلفاؤنا الأمريكيون الأقوياء. أمّا الجانب الثالث فكان وظيفياً، يتمثل في إقناع زملائي قادة القوات بضرورة أن تكون لدىّ الصلاحيات العملياتية الكاملة حتى تتوافر لي المرونة اللازمة لإنجاز مهمتي.

          وتتضح أسباب الشد والجذب بيني وبين قادة القوات، في ذلك الوقت، إذا عرف القارئ أن الخلاف بيننا تركّز على المستوى الذي يجب أن تعمل فيه قيادة القوات المشتركة. كنت أرى أن مسؤولية قائد القوات المشتركة تتطلب قيادة "عملياتية" على جميع وحدات القوات البرية في مسرح العمليات، وكذلك القوات الجوية والبحرية. وبمعنى آخر، كنت أرغب في أن تكون لدىّ صلاحية تخصيص المهام لكل الوحدات، البرية والجوية والبحرية، والإصرار على تنفيذها. وعلى النقيض من ذلك، كان قادة القوات الآخرون يرون أن قيادة القوات المشتركة الجديدة، ليست إلاّ قيادة "تكتيكية" يُلْحَق عليها ضباط اتصال من القوات الجوية والقوات البحرية، تكون مهمتهم نقل طلبات المساندة الجوية والبحرية إلى قادة القوات الذين ينفّذونها أو يعترضون عليها حسبما يتراءى لهم، فيصبح هؤلاء القادة، بهذا المفهوم، هم السلطة الأعلى، كلٌ في ما يخصه.

          وفي غمرة هذا الصراع، منحني ولي العهد الأمير عبدالله نفحة تشجيع شدّت من أزري في معركتي من أجل السلطة. كنت قد رافقت سموه كما سبق أن ذكرت، في زيارته للقوات على الجبهة يوم العشرين من أغسطس. ويقضي البروتوكول أن أطير إلى حفر الباطن لأكون في شرف استقباله. لذلك، أعددت الترتيبات لأصل إلى هناك قبل ساعة من وصول سموه. وبينما كانت طائرتي تستعد للإقلاع من رأس مشعاب، جاء إلى أرض المطار رجل يسعى ليخبرني أن الأمير عبدالله يريد التحدث إليّ على وجه السرعة. واعتقدت أن هناك أمراً خطيراً قد حدث. فهبطتُ من الطائرة وأسرعتُ إلى أقرب هاتف في مبنى المطار. كان المتحدث هو الأمير تركي بن عبدالله بن محمد بن عبد العزيز، أحد كبار مستشاري الأمير عبدالله. أخبرني أن وليّ العهد يقترح تغييراً في موعد تناول الغداء مع إحدى الوحدات في حفر الباطن. كان الأمير عبدالله يريد متسعاً من الوقت ليزور بقية الوحدات، لكنه لم يشأ أن يغير البرنامج دون أن يستشيرني. كانت لفتة طيبة رفعت من روحي المعنوية إلى حدٍّ تعجز عن وصفه الكلمات، وبلسماً شافياً في صراعي مع كمٍّ هائل من المشاكل. أكّد ولي العهد سلطتي الجديدة في أرقّ أسلوب. شعرت حقاً بأنه وضع وساماً على صدري.

سابق بداية الصفحة تالي