مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصل الرابع

حفيــد ابن سعــود

         عشقت الجندية منذ نعومة أظفاري، وأدركت منذ صباي أنني لم أُخلَق للحياة المدنية. كنت أتوق إلى حياة خشنة مثيرة أحقق فيها طموحاتي، وأقوم بأعمال بطولية لا تضارَع.

         ولعل ذلك يرجع إلى شخصيتي التي كانت - وأظنها لا تزال - عنيدة مقاتلة. كنت أصر، وأنا طفل، على أن أفعل ما يروق لي وأقاوم حتى لا يفرض أحدٌ عليَّ رأيه. أفخر بأنني لا أبكي أبداً حتى إن وقعت على الأرض وأُصبت بجرح أو شعرت بألم. وحدث، عندما كنت في الحادية عشرة أو الثانية عشرة، أن سقطتُ عن فرسي وانكسرت ساقي. ويشهد أخي فهد ، الذي كان يرافقني، أنه لم ير دمعة تنحدر من عيني ذلك اليوم. كنت طفلاً خشنا لا ينسجم الآخرون معه في سهولة. كنت أصر دائماً على أن أكون قائداً لا تابعاً.

         ومما لا شك فيه أن العامل الرئيسي الذي أسهم في تكوين شخصيتي أنني الابن الأكبر للأمير سلطان. وكان والدي - ولا يزال - دائم الانشغال بمهامه الحكومية وزيراً للدفاع، إذ يحتفظ بهذا المنصب حتى الآن، دون انقطاع، لأكثر من ثلاثين عاماً. فصورته التي انطبعت في ذاكرتي، وأنا طفل، هي استغراقه الدائم في العمل، منهمكاً في الأوراق أو متحدثاً عبر الهاتف. ويعني انهماكه في العمل أن أقوم ببعض الأعباء العائلية نيابة عنه، مما زرع في نفسي الشعور بالمسؤولية، وهو شعور حَرِصَ والدي على غرسه فيَّ منذ طفولتي. وفي أسرة كبيرة كأسرتنا تنعم بالكثير من الأخوة والأخوات الذين تربطهم علاقات المحبة والحنان، لا يخلو الأمر من بعض المشاكل البسيطة في محيط الأسرة التي يلزم التدخل فيها ومعالجتها. فيحتاج الأمر إلى شخص يُسدي النُصح، أو يقرب بين وجهات النظر، أو على الأقل يكون موجوداً قرب من ينشده. وأدركت في سن مبكرة أن عليَ القيام بذلك الدور، كابن أكبر لشخصية مهمة.

         في أوائل الستينات، كنت فتى لا يزال في مقتبل العمر. وأذكر أنني تأثرت كثيراً بالشخصية القيادية الفذة للملك فيصل - يرحمه الله - الذي تولى مقاليد الحكم عام 1964 في فترة حاسمة من تاريخ المملكة . فقد عمل على تعزيز مكانة العائلة وسمعة المملكة. وكان حاكماً مهيباً يحظى بالاحترام قبل أن يحظى بالحب. رجل صارم يأخذ نفسه بالشدة ويتوقع الكثير الكثير من الآخرين. ولا شك أن أنموذج شخصيته أثر فيّ، كما تأثر به كثير من فتيان العائلة.

         وثمة عامل آخر أسهم إسهاماً إيجابياً في بناء شخصيتي، هو أنني حفيد الملك عبدالعزيز - الذي عُرف بابن سعود- الجد العظيم الذي وحَّد هذه البلاد بإيمانه وحكمته وسيفه، وظل يحكمها طوال نصف قرن من الزمان، وأعطاها الاسم الذي لا تزال تُعرف به " المملكة العربية السعودية ". كنت لا أزال في الرابعة من عمري عندما قضي الملك عبدالعزيز نحبه عام 1953 . لذا، لا أكاد أذكر عنه إلاّ القليل، إلاّ أنني سمعت عنه الكثير من والدي وأعمامي. وأستطيع فقط أن أستشعر وجوده المهيب. كان رجلاً ضخماً، غليظ اليدين، رقيق الابتسامة.

         كتبت، وأنا في الخامسة عشرة من عمري، مقالة نُشِرَت في مجلة المدرسة، عن استرداده الجَسُور لمدينة الرياض عام 1902 وهو في الرابعة والعشرين من عمره. انطلق من قلب الصحراء ليحقق المباغتة، وهو ما نسميه اليوم باللغة العسكرية "هجوم الصاعقة". فقد تسلق ورجاله أسوار المدينة على جذوع النخيل، وانقضّوا على حاميتها. وكان رفقاؤه الأساسيون في هذه الحملة العسكرية أربعة رجال من آل جلوي، وهم فرع من بيت آل سعود. بينهم ثلاثة من أبناء الأمير جلوي وهم: عبدالله و عبدالعزيز و فهد. وأمّا الرابع فهو حفيده عبدالعزيز بن مساعد الذي كان وقتها لا يزال صبياً، وأصبح بعد ذلك جَدّي لأمي. وقد عرف آل جلوي بالبسالة في القتال. وكان عبدالله بن جلوي، في واقع الأمر، هو الذي طارد عجلان، حاكم المدينة، في فناء قلعته وأغمد فيه سيفه فحُسِمَتْ المعركة لمصلحة آل سعود. وأُعلن الملك عبدالعزيز حاكماً على الرياض في صباح اليوم نفسه.

         وخلال العقود التالية، ذاع صيت آل جلوي أنهم من أخلص المخلصين للدولة السعودية. فحاربوا ضد الأتراك وضد المناوئين للحكم داخل البلاد. وعُيِّنُوا، مقابل إخلاصهم هذا، أمراء على المناطق بعدما استتب الحكم السعودي في أرجاء المملكة. فقد عَين الملك عبدالعزيز آل جلوي أمراء على المنطقة الشرقية، واستمر هذا المنصب مقصوراً عليهم حتى عهد قريب. كان آل جلوي رجالاً أشدَّاء، وكان الأمر في حاجة إلى يد قوية تقبض على زمام الأمور وتفرض النظام وتنفذ القانون في منطقة الأحساء ، في وقت كانت فيه صناعة البترول لا تزال في بداياتها الأولى هناك.

         وفي عام 1922، عُيِّن جدِّي لأمي، الأمير عبدالعزيز بن مساعد بن جلوي، أميراً على حائل بعد أن أبلى بلاءً حسناً كقائد عسكري. وحائل هي المركز الرئيسي في الشمال الغربي للجزيرة. وقد استولى الملك عبدالعزيز عليها قبل ذلك بعام من آل رشيد، وكانوا من أشد المناوئين لآل سعود. واستمر عبدالعزيز ابن مساعد في حكم حائل لمدة نصف قرن قبل إحالته إلى التقاعد في أوائل السبعينات، وكان عمره يناهز التسعين عاماً. وفي تلك المنطقة، منطقة جبل شمر في شمالي نجد نشأت أمي. وكان لعبد العزيز بن مساعد ولدان، هما عبدالله وجلوي، وسبع بنات. وتزوج الملك فهد إحدى بناته وأنجبت له أخوتي من الرضاع: فيصلاً ومحمداً وسعوداً وسلطان وخالداً. أمّا ابنته الأميرة منيرة فتزوجها والدي الأمير سلطان وأنجبت له أربعة من البنين وخمساً من البنات. كما أن لي إخوة وأخوات من زوجات أبي الأخريات. وتربطني بهم جميعاً روابط قوية من المحبة والاعتزاز، وأحمل لهم في قلبي الحب كل الحب. نشأنا أسرة سعيدة مترابطة، ولا نزال كذلك. وتزوج عمي، الأمير نايف، ابنة ثالثة من بنات الأمير عبد العزيز بن مساعد أنجبت له ابنَيْ عمي وأَخَوَيَّ من الرضاع أيضاً سعوداً ومحمداً. ونحمد الله أنّ علاقاتنا الأسرية قوية ومتشابكة.

          ولدت في مكّة المكرمة في الرابع والعشرين من سبتمبر 1949، وأسماني الملك عبدالعزيز نفسه خالداً. ومن التقاليد الشائعة عندنا أن يُحتفل بتسمية المولود بعد مضي سبعة أيام على ولادته. لكن اليوم السابع لمولدي وافق يوم عرفة، وهو يومٌ مبارك تقف فيه جموع الحجيج على صعيد عرفات الطاهر في خشوع وتذلل لله رب العالمين. وكان الملك عبدالعزيز شديد التمسك بالدين الحنيف، فأمر أن تؤجل تسميتي إلى اليوم الثامن لمولدي. وترك انتسابي إلى هذا الرجل العظيم بصمات جلية على كل جوانب شخصيتي، وهو لي بحق مصدر كل فخر واعتزاز.

          وآل سعود عائلة عريقة مرموقة. ولا أذكر ذلك لانتمائي إليها، بل لأنها بحق ليست كغيرها من العائلات المالكة، سواء في منطقتنا أو في أي جزء آخر من العالم. فهي تضرب بجذورها إلي مئات السنين في قلب صحراء الجزيرة العربية، تلك الصحراء التي لا نظير لها بقبائلها وعشائرها. الصحراء التي أنجبت صناديد الرجال وأشعر الشعراء. الصحراء التي أنزل الله فيها على قلب نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - قرآناً عربياً غير ذي عوج يتلى آناء الليل وأطراف النهار إلى يوم الدين.

          ترتبط عائلة آل سعود برباطٍ وثيق بغيرها من العائلات الكبيرة، التي لا تختلف عنها كثيراً بحكم صلة الدم والمكان. وتحظى بعض هذه العائلات بتاريخ عريق لا يقل عراقة عن تاريخ عائلتنا. ولكن ما أعطي عائلتنا مكان الصدارة خلال 250 عاماً مضت، يُعزى إلى اتفاق وعهد بين رجلين عظيمين. ففي عام 1744 عقد سلفنا محمد بن سعود تحالفاً مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو مصلح ديني نذر نفسه لتنقية الإسلام من البدع والخرافات التي كانت سائدة في عصره.

          وكانت الجزيرة العربية ، في ذلك الوقت، وهي مهد الإسلام تشهد تراخياً في تطبيق أصول الإسلام، وتعيش حالة من الفوضى بسبب الصراعات القبلية والتنافس على مناطق النفوذ. مما أقضَّ مضجع البلاد وأدى إلى إهمال العلم الشرعي.

          كان ذلك هو وضع الجزيرة الذي أبى الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلا أن يصححه. لكنه كان يحتاج معه إلى رجل قوي يساعده على نشر رسالته الإصلاحية، ويستطيع أيضاً أن يعبئ الجيوش، يحكم القبائل. ووجد الرجل الـذي أراد في سلفنا محمد بن سعود حاكم الدرعية ( العاصمة القديمة، التي لا تزال أثارها موجودة حتى يومنا هذا في ضواحي مدينة الرياض ). وتمكّن الرجلان، بالقرآن والسيف، من إعادة الناس في وسط الجزيرة إلى جادة الصواب.

          وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر، تزوج أحد أبناء سلفنا محمد بن سعود كريمة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فقويت بهذا الزواج أواصر الولاء بين آل سعود وآل الشيخ. واستمر التزاوج والترابط بين العائلتين حتى اليوم. وثمة مثال من حياتي الخاصة يشهد على هذا الولاء هو تلكم الصداقة الحميمة التي تربطني بعبد المحسن بن عبد الملك آل الشيخ. فما فتئ الرجل يشعرني بولائه وحبه عبر السنين.

          كان الدفاع عن الإسلام في صورته الخالصة من أية شائبة، ممثلاً في تلك الحملة التي انطلقت في القرن الثامن عشر، من أهم الأسس التي قامت عليها شرعية حكم آل سعود.

          ومن أهم مصادر قوة آل سعود النظر إليهم حماةً للفضائل العربية، تلك الفضائل التي امتدت أجيالاً، قبل الإسلام وبعده، فقد حافظوا على أخلاق الصحراء. وأعني بالفضائل، العربية شمائل الكرم والنبل والشجاعة والدفاع عن العرض إضافة إلى الذود عن الشرف ورعاية مصالح الآخرين. وكان الالتزام بهذه المبادئ من أسباب استمرار الحياة في بيئة الصحراء القاسية. فالحياد عنها لا يعني سوى الموت. وإن كانت وسائل الاتصال الحديثة وغيرها من وسائل الراحة، قد خففت اليوم شيئا كثيراً من قسوة الحياة في الصحراء، إلا أنني أعتقد أن تاريخ عائلتي الحافل بالمحافظة على هذه الفضائل العربية، له دوره الكبير في الولاء الذي نحظى به الآن.

          يبلغ عدد أفراد عائلتنا نحو خمسة آلاف فرد من الذكور والإناث، الأمراء والأميرات، من الفروع المختلفة. يجتمعون حول أبناء الملك عبدالعزيز وأحفاده، الذين لهم وحدهم حق ولاية العرش، وإذا كان لي أن أذكر مبدأً واحداً يوحّد هذه العائلة الكبيرة فهو الاحترام. يحترم كل فرد منها من يكبره سناً، ولو كان فارق السن بضعة أشهر أو أسابيع. ويعني هذا في الواقع أن هناك خطاً يمليه الاحترام، لا يمكن تعديه عند حدوث خلاف في وجهات النظر بين اثنين من أفراد العائلة، سواء أَكان أحد الطرفين أباً أم عمّاً أم أخاً أم ابن عم أم نسيباً. وقد يعترض بعض الناس على هذا التقليد الراسخ ويرون أن الفرد ينبغي له التعبير عما في نفسه بلا قيود ولا حدود. ولكن إذا أمعنْت النظر وفكرت في الأمر ملياً، فستجد من العقل والحكمة وجود حدٍّ معينٍ يتوقف المرء عنده ولا يتجاوزه.

          لا أدَّعى أن كل شيء في عائلتنا مثالي لا تشوبه شائبة، وأنها خلوٌ من الخلافات. ولا ‎أدعي أيضا أننا أناس بلا أخطاء. فكل عائلة لا تخلو من أفراد يسيئون إلى الآخرين بأخطائهم. قد يحدث ذلك في عائلة من أربعة أو خمسة أفراد، ناهيك من عائلة من خمسة آلاف فرد. لكن الذي لا خلاف فيه أن إنجازات العائلة مجتمعة كفيلة، في نظري، بأن تغفر مثل تلك الزلات. كما أن احترام بعضنا بعضاً كفيل بمنع أية نزاعات من التفاقم.

          عُرفت العائلة بالتكاتف وقت الشدة، وهذا من أسباب قوتها واستمرارها. وإذا حدثت لنا متاعب في المستقبل فسيكون مردها، لا ريب، إلى الخلافات داخل العائلة. لذا، كان لزاماً علينا أن نُنشِّئ أبناءنا على الإيمان الراسخ بالأهمية القصوى لوحدة العائلة، واليقين التام بأن لكل مجتهد نصيباً، سواء أكبيراً كان أم صغيراً. نربيهم على ذلك حتى لا يسود بينهم الحسد، ولا تفرقهم الكراهية.

          وإذا كان لي أن أوجز أهم الخصائص التي يستمد منها آل سعود قوتهـم، فسأسردها على النحو التالي:

* أولاً: وقبل كل شيء، الالتزام التام بمبادئ الإسلام وحمايته، عقيدة ونظاماً شرعياً.

* ثانياً: احترام الملك وتقديره، فهو كبير العائلة والأب لكل فرد فيها.

* ثالثاً: الالتزام بخدمة المجتمع والتفاني في رفع اسم المملكة عالياً في المحافل الدولية.

* رابعاً: الاهتمام بالاستغلال الأمثل لثروات المملكة وتوزيع عائداتها لتشمل كل المواطنين، مع تسخيرها في تحقيق التنمية الشاملة للبلاد. وكان لهذا أعظم الأثر في القفزة الحضارية التي حققتها المملكة في السنوات الماضية.

* خامساً: احترام الصغير للكبير في محيط العائلة، مهْما كان فارق السن.

* سادساً: الالتزام بحل الخلافات في نطاق العائلة وتقوية أواصر الصلة بين أفرادها على أسس من تقديم مصلحة العائلة على مصلحة أي فرد فيها.

* سابعاً: تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على أفراد العائلة بالأسلوب نفسه الذي يطبق به على المجتمع السعودي كافة.

* ثامناً: تخصيص بعض المناصب الحكومية المهمة لذوي الكفاءة من أفراد العائلة، مع الإيمان بأن كل فرد أهل للاحترام بصرف النظر عن منصبه.

          إن الإخلال بأي من هذه المبادئ السابقة، من وجهة نظري، سوف يؤدّي إلى تهديد كيان العائلة، وتقويض دعائم الحكم، وتفريق أواصر الدولة.

          إني لَعَلَى ثقة تامة أن الشعب السعودي يدرك تماماً أنه لولا اهتمام آل سعود بخدمة مواطنيهم، بما يملكونه من معين لا ينضب من الخبرة والموهبة، ولولا تماسك العائلة وتآزرها، لانقسمت البلاد بعضها على بعض، كما كانت الحال قبل أن يوحدها الملك عبدالعزيز.

          تأثرتُ كثيراً بأنّ جدّي الملك عبدالعزيز كان محارباً شجاعاً وفارساً ماهراً، يجيد فنون الصيد واستخدام الخنجر والسيف والبندقية، وفن العيش في الصحراء. سبق الملك عبدالعزيز أولئك الذين اشتهروا بعمليات القوات الخاصة في التاريخ الحديث، من أمثال ديفيد سترلنج david stirling ، رائد مثل تلك الحروب في بريطانيا ، الذي شنت مجموعته غارات خلف الخطوط الألمانية في الصحراء الغربية أثناء الحرب العالمية الثانية، واستوحى البريطانيون منه فكرة القوات الخاصة المعروفة باسم. sas . فقد أتقن الملك عبدالعزيز، قبل هؤلاء جميعاً، فن الغارات الليلية كتلك الغارة التي استعاد فيها الرياض، وكررها بنجاح ضد الأتراك وضد مناوئيه في السنوات التي تلت ذلك. ولعل هذا التراث الذي لا يُنسى، هو منبع إعجابي بالقوات الخاصة.

          كان الملك عبدالعزيز على استعداد تام لاستيعاب التكنولوجيا العسكرية الحديثة. ومن هنا، أدرك قيمة الأسلحة التي غنمها من الأتراك. كان يعرف أن الذخيرة أحد مفاتيح النصر. وقد أثار اهتمامي ما يروى أنه كان يحصي بنفسه طلقات الذخيرة التي يوزعها على الرماة. ولحرص الملك عبدالعزيز على تحسين المهارات العسكرية لرجاله وتحديث معداتهم، أرسل ابنه فيصلاً ليشتري أسلحة من بولندا و الاتحاد السوفيتي سنة 1930 -1931 . وقد حقق فيصل لنفسه مجداً سامقاً في حرب عسير ثم اليمن في العشرينات والثلاثينات، وهو لما يزل في السابعة والعشرين من عمره. كما استقدم الملك عبدالعزيز مدربين لتعليم رجاله، منهم النيجيري طارق الأفريقي، الذي كان أول من شغل منصب رئيس الأركان في المملكة. كما استقدم عسكريين ذوي خبرة من بلاد الشام. وفي الأربعينات والخمسينات، عندما كانت الأموال أكثر وفرة، استمر التدريب على يد البعثات العسكرية البريطانية والأمريكية. وفي عام 1942، بعث الملك عبدالعزيز ابنه منصوراً، أول وزير للدفاع، لزيارة القوات الهندية التي كانت تخدم ضمن صفوف الجيش الثامن البريطاني في شمالي أفريقيا. كان الملك عبدالعزيز حاكماً يستمع إلى النصيحة ويسعى إلى المعرفة، ويستعين بطاقات المبدعين وخبراتهم من أهل الثقة الذين انتقاهم من أنحاء العالم العربي ومن خارجه.

          كنت، في صغري، أتوق كثيراً إلى سماع قصص الملك عبدالعزيز وأخويه محمد وعبد الله . كما تستهويني قصص أبنائه المقاتلين الأشداء، أعمامي وتركي وسعود وفيصل و محمد . أولئك النفر الذين أبلوا بلاءً حسناً في حروب التوحيد التي وقعت في العقود الأولى من هذا القرن. ولكن، لسوء الحظ، لم تسنح لي الفرصة للتعرف عن كثب بالأمير تركي ، الذي مات في وباء الطاعون يوم اجتاح البلاد سنة 1919، أي قبل مولدي بثلاثين عاماً. كانوا جميعاً رجالاً عسكريين، تربوا في بيئة عسكرية. وقد وصف الملك عبدالعزيز النظام الصارم الذي فرضه على أبنائه للكاتب الأمريكي، اللبناني الأصل، أمين الريحاني سنة 1922 حين قال:

"علينا أن نبقى على أتم استعداد، وفي لياقة بدنية عالية، فأنا أدرب أبنائي على السير حفاة، والنهوض قبل الفجر بساعتين، وأكل القليل من الطعام، واعتلاء صهوات الجياد بلا سروج، ففي بعض الأحيان لا يكون لدينا الوقت لوضع السرج على الجواد، فنقفز على ظهره وننطلق ".

          استوحيت قوتي من تراث هذا الجد العظيم وأنا أعيش في عالم يموج بالأخطار، عالم تبرز فيه بشكل جليّ أهمية الشجاعة والإقدام مع امتلاك المهارات العسكرية واستخدام أحدث التكنولوجيا في المجال العسكري.

سابق بداية الصفحة تالي