مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصل التاسع

بنـاء القوة الرابعـة

          مع ازدياد متطلبات عملي صعوبة وازدياد النظُم التي نشتريها تعقيداً وتطوراً، شعرت بحاجتي إلى تحديث معلوماتي وتطوير قدراتي. ففي السنوات العشر الأولى التي أعقبت تخرجي في ساندهيرست مارست الكثير من التدريب الوظيفي أثناء ممارسة العمل، سواء أكنت مفتشاً أم قائد سرية أم ضابط مشروع صواريخ هوك أم مدير قسم تخطيط ومشاريع الدفاع الجوي. وكانت عمليات التفاوض وإدارة العقود التي توليتها، خير معلم لي. لكن في أواخر السبعينات، شعرت في قرارة نفسي بالرغبة في المزيد من التعليم العسكري النظري. ففي الدفاع الجوي، يقضي المرء معظم وقته محدقاً إلى السماء، منصرفاً عن التعمق في التكتيك الذي يتّبعه الآخرون في ميدان المعركة، لا سيما في القوات البرية والقوات البحرية. كانت لديّ رغبة جامحة في توسيع آفاق معرفتي.

          كانت أمنيتي، وأنا بعد ضابط شاب برتبة مقدم لم يتجاوز العقد الثالث من عمره، أن ألتحق بكلية القيادة والأركان العامة للجيش الأمريكي في فورت ليفنوورث في ولاية كانساس الأمريكية. وكـم كنت مسروراً حين وافق الجانبان السعودي والأمريكي علي ذلك! فالتحقت بدورة مدتها سنة دراسية واحدة تبدأ في الأول من أغسطس 1978، وتنتهي في شهر يونيه 1979.

          ولمّا شعرت بأنني لست مهيأً بالقدر الكافي لتلك الدورة، قررت القيام بزيارة قصيرة إلى مصر في أوائل صيف عام 1978. فمصر كانت ولا تزال موئل الفكر الإستراتيجي في العالم العربي، إذ تزخر مكتباتها بأغنى المراجع العسكرية باللغة العربية. فأمضيت فيها أياماً مثمرة متجولاً في مكتباتها، عاكفاً على القراءة والتحصيل، ومستمتعاً في أَمسياتها بمباريات حامية في لعب "الطاولة" مع أصدقائي المصريين.

          ساد التوتر، أواخر عام 1977، علاقة مصر بالدول العربية بسبب زيارة الرئيس السادات إلى إسرائيل في شهر نوفمبر من العام نفسه. وعلى الرغم من التقلب الذي كان يسود العلاقات أحياناً بين مصر والمملكة، فقد كنت دوماً أؤمن بأهمية الروابط الوثيقة بينهما. وأقدر أن مصر بثروتها البشرية المتميزة وتراثها العسكري الراسخ، هي حليفنا الطبيعي في المنطقة. وقبل سنوات عدة، وفي شهر يناير عام 1974 تحديداً، دفعتني دراستي لحرب أكتوبر إلى الرغبة في زيارة خط بارليف، الذي كان يعتبر خط الدفاع الإسرائيلي الأسطوري على طول قناة السويس. وأعتقد أن كثيراً من الناس يوافقني على أن اقتحام المصريين لخط بارليف عام 1973 يُعَد أروع الإنجازات العسكرية العربية في تاريخنا الحديث. لذلك توجهتُ إلى مصر لأعرف عنه المزيد.

          في أثناء زيارتي لمصر، وفي الثامنة من صباح أحد الأيام، رتب لي ضابط الارتباط السعودي زيارة للواء محمد حسني مبارك قائد القوات الجوية المصرية، فأمضيت معه نصف ساعة ممتعة. أُخِذت بذكائه وألمعيته، ولـم يدُر بخلدي أنه سيصبح نائباً لرئيس الجمهورية، ثم رئيساً لجمهورية مصر العربية بعد اغتيال الرئيس السادات. وفي اليوم نفسه، تفضل ضابط مصري كبير هو اللواء أركان حرب أحمد بدوي قائد الجيش الثالث الميداني، بمرافقتي لزيارة بقايا التحصينات الإسرائيلية شرقي قناة السويس. وأطلعني على الاستعدادات الدقيقة والجهود الجبارة التي تكللت بالنجاح في عبورالقناة. عندئذٍ، أصبحتُ على قناعة تامة أنه لا توجد خطوط دفاعية تستعصي على الاجتياح. فكل التحصينات، مهما بلغت قوتها، يمكن اختراقها إذا توافرت الإرادة الصلبة والتخطيط السليم. تناولت، بعد ذلك، طعام الغداء مع الجنود المصريين. وكانت تلك أول معرفتي بالقوات المسلحة المصرية. ولشد ما أسفت حينما علمت أن مرافقي اللواء بدوي الذي تولى منصب وزير الدفاع في مصر في شهر مايو من عام 1980، لقي حتفه في حادث تحطم طائرة عمودية في مارس عام 1981!

          لعلّ أفضل وسيلة للتعرف بالقوات المسلحة في أي بلدٍ وفهْم التقاليد والإجراءات والمصطلحات المتداولة بين جنودها، هي الالتحاق بدورات تعليمية بإحدى كلياتها العسكرية. وكما أكسبتني أكاديمية ساندهيرست معرفة السمات الخاصة للجيش البريطاني، فإن كلية القيادة والأركان العامة في فورت ليفنوورث علمتني الكثير عن القوات المسلحة الأمريكية. وإن كنت قد التقيت فعلاً من قبل عدداً كبيراً من الضباط الأمريكيين خلال حياتي العسكرية، وعملتُ، لفترة قصيرة، عضواً في فريق تفتيش أمريكي أثناء تدريباتي السابقة على صواريخ هوك في مدرسة الدفاع الجوي للجيش الأمريكي في فورت بلس في ولاية تكساس إلا أنني لم أندمج في بيئة عسكرية أمريكية مثلما فعلت في فورت ليفنوورث.

          ضمت تلك الدورة ما يقرب من 900 ضابط أمريكي، تراوحت أعمارهم بين الخامسة والثلاثين والخامسة والأربعين، كلهم برتبة رائد وأعلى، وكلهم ممن ينتظرهم مستقبل زاهر. كما ضمت الدورة كذلك 96 ضابطاً من البلدان الحليفة والصديقة للولايات المتحدة، بينهم ما يقرب من 20 ضابطاً عربياً من دول مختلفة، مثل السودان و لبنان والأردن والكويت والإمارات العربية المتحدة ومصر والمغرب وتونس، والمملكة. وربما كنت من أصغر الضباط في الدورة سناً، لكني لم أكن أكثرهم تأهيلاً في أية حال من الأحوال. كان معظم الضباط غير الأمريكيين في فورت ليفنوورث قد تخرجوا في كليات الأركان في بلادهم، بل إن بعضاً منهم كانوا معلمين يدرّسون في تلك الكليات. ولكنهم اختاروا أن يصبحوا دارسين مرة أخرى كي يزدادوا علماً ومعرفة. أما أنا فلم يسبق لي الالتحاق بعمل تحضيري مماثل يزودني بمعرفة كافية أستعين بها على استيعاب مواد هذه الدورة بسهولة. كانت زيارتي القصيرة تلك إلى مصر هي كل زادي. فقد أتيت مباشرة من قسم تخطيط ومشاريع الدفاع الجوي في الرياض. وسرعان ما أدركت أني إن أردت النجاح فعليَّ أن أعمل بجد واجتهاد لكي أحققه. ومع إدراكي أن الطمع في الفوز بالمركز الأول أمرٌ تَحفُّه مشاق وصعاب، إلا أنني في الوقت نفسه كنت أرجو ألا أكون الأخير.

          مما زاد الأمر صعوبة في فورت ليفنوورث، أنه إلى جانب عبء الدراسة، كان علي إنجاز بعض الأعمال مع شركة ليتون. وكان ذلك العمل يستغرق مني قرابة الساعتين كل يوم أقضيهما في الاجتماعات والمكالمات الهاتفية والأعمال الورقية. فاللجان الفنية في الرياض أنهت أعمالها، ولم يبقَ سوى بعض الشروط والبنود، والتفاصيل المالية المهمة تنتظر التسوية. ولمّا كنت أتحمل المسؤولية النهائية عن هذا العقد، كان علي أن أقوم بمهمة الاتصال بين الخبراء من جهة، والأمير سلطان من جهة أخرى. وفي تلك الآونة، كان الملك خالد يتلقى العلاج الطبي في كليفلاند cleveland في ولاية أوهايو ohio وفي رفقته الأمير سلطان. وكنت أسافر أيام السبت إلى هناك لأرفع إليهما تقريراً عمّا تـم إحرازه من تقدم. وكما أسلفت، تم التوقيع على العقد مع ليتون بعد ذلك ببضعة أشهر، أي في ربيع عام 1979.

          كان لدورة القيادة والأركان العامة التي التحقت بها وحصلتُ في نهايتها على درجة الماجستير في العلوم العسكرية، دورها في صقل خبرتي العسكرية، وتوسيع آفاقي في التكتيك والإستراتيجية وفي صنع القرار السياسي العسكري، وإدراك الأهمية الشاملة لدراسة التاريخ لفهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل، وكذلك في الإدارة التي استغرقت 25% من ساعات الدورة. كما علمتني تلك الدورة الكثير عن الكيفية التي ينظر بها العسكريون الأمريكيون إلى العالم. وكانت دراستنا منصبة على الاتحاد السوفيتي بصفته مصدر الخطر الرئيسي الذي يهدد الولايات المتحدة، فالحرب الباردة كانت على أشدّها في ذلك الحين.

          مجمل القول، أن تلك السنة كانت شاقة ومثمرة في الوقت نفسه. فسعدت بصداقة عدد كبير من الزملاء، كما حاولت، بكل ما أوتيت من عزم وجهد، أن أقدم صورة طيبة عن العرب. ولم يكن ذلك بالأمر اليسير أبداً. وإذا كانت الفترة التي قضيتها ضابط ميدان في تبوك واحدة من الخبرات المهمة والمؤثرة في حياتي العسكرية، فلا شك أن سنة التحصيل الدراسي والعمل الشاق في فورت ليفنوورث تندرج ضمن تلك الخبرات أيضاً.

          من البرامج التي تضمنتها الدورة برنامج يسمى "تعرف بالعالم من حولك" يُطلب فيه من كل ضابط أجنبي أن يلقي محاضرة ويقدم عرضاً شاملاً عن بلده. وتمكنت عند تقديم محاضرتي، بفضل وسائل الإيضاح البصرية والسمعية، من اجتذاب جمهور غفير قَدِمَ بعضه من مدينة كانساس نفسها. ولعل ما أدى إلى زيادة عدد الحاضرين هو رغبتهم في مشاهدة أمير يمثِّل بلده ويتحدث عنها. وحققت المحاضرة نجاحاً كبيراً، حتى إنه طُلب إليَّ إلقاؤها مرة أخرى في قاعة تتسع لعدد أكبر من الجمهور.

          قبل موعد إعادة المحاضرة بيوم واحد، استدعاني اللواء آرثر arthur، قائد الكلية، إلى مكتبه وأخبرني، وهو متجهّم الوجه، أنه تلقى تقريراً يفيد باحتمال تعرضي لاعتداء أثناء المحاضرة. لم يذكر شيئاً عن مصدر المعلومات أو عن العدو المرتقَب. لكنه أخبرني أنه أوعز إلى الشرطة السرية أن تتولى أمر حمايتي، فيراقب رجلان منها الجمهور من وراء الستار أثناء إلقائي المحاضرة. وطلب إلي ألاَّ أجلس وحيداً قبل المحاضرة أو بعدها، وألاّ أَكُفّ عن الحركة خلال تقديمي المحاضرة حتى لا أصبح هدفاً ثابتاً.

          وللمرة الأولي في حياتي شعرت بأنني شخصية مهمة حقاً.

          لم تكن مثل تلك الظروف مثالية للتحدث إلى جمهور في محاضرة عامة، لكنني بذلتُ قصارى جهدي للمحافظة على رباطة جأشي. وانتهت المحاضرة بسلام، على الرغم من أني، تحت ضغط المناسبة نفسها، نسيت التعليمات بأَلاَّ أَكُـف عن الحركة، فكنت أقف ثابتاً في مكاني مخالفاً بذلك التعليمات التي صدرت إليَّ من قبل.

          كان في فورت ليفنوورث كنيسة وكنيس، ولم يكن فيها مسجد للمسلمين الذين يبلغ عددهم ثلاثين أو أربعين مسلماً، بينهم أُسَر الضباط. أَثَرتُ الأمر مع قائد الكلية، وقلت له إنني مستعد لترتيب هذا الموضوع ولو تطلب الأمر بناء مسجد في القاعدة على نفقتي الخاصة. ولَمّا كان الدستور الأمريكي يكفل حرية العبادة للمواطنين، فلم نتوقع أن يصدر من المسئولين اعتراض على ذلك. ووعدني قائد الكلية بأن يحاول الحصول على موافقة السلطات العليا. لكنه أبلغني، قبيل انتهاء الدورة، أنه أخفَق في الحصول على تلك الموافقة. واقترح تخصيص غرفة داخل الكلية نؤدي فيها الصلاة. لكننا افترقنا كل في سبيله قبل أن نتمكن من أداء الصلاة جماعة بالفعل. ومع ذلك، لم أستسلم إلى اليأس، بل مازلت آمل أن أتلقى دعوة من السلطات في فورت ليفنوورث في يوم من الأيام لبناء مسجد فيها.

          أثارت فورت ليفنوورث في نفسي الرغبة في الدراسة والتحصيل. وكنت أدرك تماماً أنني لو عدت إلى مكتبي بقسم تخطيط ومشاريع الدفاع الجوي في الرياض، فسوف أغرق في دوامته مجدداً، ولن أخرج منها للعودة إلى الدراسة قبل مرور سنوات عدة. لذلك، طلبت من رئيس هيئة الأركان العامة، أثناء زيارة قصيرة قضيتها في المملكة خلال العطلة الصيفية، أن يسمح لي بالالتحاق بكلية الحرب الجوية في ماكسويل maxwell في ولاية ألاباما. وكنت أعرف تمام المعرفة أني إذا أردت التعمق في مجال الدفاع الجوي، فلا بد من دراسة المزيد عن الموضوعات التكتيكية والإستراتيجية لفروع القوات المسلحة الأخرى، خاصة القوات الجوية. وحالفني الحظ مرة أخرى، إذ كنت واحداً من ضابطين في الدفاع الجوي السعودي يَرْقَيَانِ إلى المستوى العلمي المطلوب لحضور تلك الدورة. وهكذا، تمت الموافقة على قبول طلبينا للالتحاق بكلية الحرب. وسارت الأمور على ما يرام وكأن الله سبحانه وتعالى- جلت حكمته - قد تولى توجيه خطاي تمهيداً لِمَا هو آتِ مستقبلاً.

          استغرقت الدورة في كلية ماكسويل عشرة أشهر، وتركزت على موضوعات الإستراتيجية الشاملة والإدارة والاقتصاد. وهي موضوعات ثبت لي عِظَم فائدتها على المدى الطويل، لا سيما إبَّان حرب الخليج. كما احتلت المباريات الحربية مكاناً بارزاً في المنهج الدراسي، الأمر الذي أوضح لي مصاعب التوفيق بين مهام القوات الجوية وقوات الدفاع الجوي. ولو كنت أعلم ما يخبئه المستقبل لي من تحديات، لبذلت جهداً أكبر، ولَمَا غفوت طرفة عين خلال بعض المحاضرات.

          علمت في الأسبوع الأول من الدورة، أن بعض الضباط المشتركين فيها يزمعون الالتحاق في الوقت نفسه ببرنامج دراسي آخر للحصول على درجة الماجستير في العلوم السياسية. وكانت جامعة أوبورن auburn تنظم هذا البرنامج مساءً في مبنى ملحق بكلية الحرب الجوية. وفكرت في أن أحذو حذوهم، إلاّ أن أحد المعلمين حذرني من مغبة ذلك، قائلاً إن الضباط الأمريكيين أنفسهم يجدون صعوبة في الالتحاق بالدورة والبرنامج معاً. لكنني لـم أستطع مقاومة التحدي، بل زادني ذلك التحذير تصميماً على الالتحاق بالبرنامج. وقلت في نفسي دعني أجرب الأمر أسبوعين أو ثلاثة، فإذا تبين لي أن دراستي العسكرية ستتأثر سلباً به، تخليت عندئذٍ عن الفكرة. ودخلت امتحاناً في مادة "الحكومة الأمريكية"، لكن درجاتي لم تكن مشجعة. ولم أحصل لدى الدكتورة آن بيرمالوف anne permaloff، وهى أستاذة متشددة إلاّ على درجة "مقبول". فأنا لم أعتد الكتابة، لأنني درجت في الدفاع الجوي على إملاء الرسائل والتقارير والمذكرات. وشاءت المصادفات أن أتعرف بأستاذ جامعي متقاعد، كان عقيداً في الاستخبارات العسكرية، فطلبت منه المساعدة بإعطائي دروساً إضافية لتحسين مستوى كتابتي. ولكني، على الرغم من مساعدته لي، كدت أستسلم لليأس وأتخلى عن تلك المحاولة.

          وفي تلك الآونة، تلقيت مكالمة هاتفية من أحد أصدقائي في المملكة، وقال لي: "سمعت أنك التحقت ببرنامج لنيل درجة الماجستير؟". وهكذا، أُسقط في يدي، ولم يعد أمامي من خيار سوى الاستمرار في الدراسة حتى النهاية. فلو أقدمتُ الآن على الانسحاب من برنامج الماجستير لذاع الخبر بين الناس، ولن أُطيق أبداً أن يقال إنني تراجعت عن مواصلة الدراسة مهما كانت صعوبتها.

          بهذا العزم الأكيد وذاك الإصرار الشديد، أمضيت قرابة سنة دراسية في ماكسويل، كنت أدرس خلالها في كلية الحرب الجوية نهاراً وفي ملحق جامعة أوبورن ليلاً. ولا أبالغ إن قلت إن تلك السنة هي الوحيدة في حياتي الدراسية التي كنت أعمل خلالها مدة خمس عشرة إلى سبع عشرة ساعة في اليوم دون انقطاع. لكن جهودي المضنية لم تذهب أدراج الرياح، إذ نجحت في الحصول على كلتا الدرجتين. فحصلت على لقب "خريج متميز" لدفعة عام 1980 في كلية الحرب الجوية، وهذا تكريم يُمنح لأول 24% من طلاب الدفعة، كما نلت، في الوقت نفسه، درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة أوبورن.

          كان تعطشي إلى المعرفة أعظـم من أن يقاوم، حتى إنني لم أدَع الفرصة تفوتني للذهاب إلى كاليفورنيا في خريف عام 1980 للالتحاق بدورة أخرى مدتها ثلاثة أشهر في "إدارة الشؤون الدفاعية الدولية" في مدرسة الدراسات العليا للبحرية في مونتري monterey . وكان من الموضوعات التي عالجَتْها تلك الدورة: الخيار بين أولويات الدفاع، في ظل تخصيص الموارد النادرة والموازنة بين الحاجات والإمكانات في إطار الموازنة العسكرية المحددة. وهذه كلها موضوعات اكتشفت مدى أهميتها وعظم فائدتها بعد ذلك. كما اكتشفت أني كنت أتعلم، في كل الدورات التي التحقت بها، من زملائي الضباط قدر ما أتعلمه من المعلمين. فكل ضابط كان يحاضر في مجال تخصصه في حلقة بحث خاصة. وألقيت، بدوري، عدداً من المحاضرات تناولت فيها قضايا الأمن في الشرق الأوسط.

          وخلال السنتين ونصف السنة التي قضيتها في الولايات المتحدة، من 1978 حتى 1981، كنت مواظباً على الاتصال بزملائي في قيادة الدفاع الجوي السعودي، متحدثا إليهم عبر الهاتف مرات عدة كل أسبوع، للوقوف على مدى تقدم العمل. ووقع اختياري على العقيد  صالح الحجاج ليحل محلي في إدارة قسم تخطيط ومشاريع الدفاع الجوي أثناء فترة غيابي. وهو عسكري يمتاز بشخصية قوية ومواهب إدارية. وكنت أنتهز فرصة العُطلات للعودة إلى المملكة لأتابع شخصياً، على الطبيعة، مدى التقدم الذي تم إحرازه. وعدت إلى مكتبي في الرياض في شهر يناير من عام 1982، لأتابع مسيرة العقد المتعثرة مع شركة ليتون، وكذلك لسد الثغرات التي حدثت في دفاعاتنا الجوية، كذلك لأستأنف المعركة من أجل إنشاء "القوة الرابعة"، التي كنت أعلق عليها الكثير من الآمال.

سابق بداية الصفحة تالي