مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصل السابع عشر

الجيوش تسير على بطونها

معركة الإسناد الإداري

          خلال المعارك الطاحنة التي دارت في شمالي أفريقيا، بين رومل ومونتجمري، إبان الحرب العالمية الثانية، قيل إن الصحراء جنة رجل التكتيك وجحيم رجل الإمداد والتموين. جنة رجل التكتيك لأن الصحراء المفتوحة كانت مثالية لمعارك الدبابات الكبرى، التي نشبت بين الفيلق الأفريقي والجيش الثامن. وجحيم رجل الإمداد والتموين لندرة المياه، والشاحنات التي ابتلعتها الرمال، وأرتال الإمدادات، التي كان عليها قطع المسافات الطويلة تحت التهديد المتواصل للقصف الجوي.

          أمّا حرب الخليج، فكانت جنة لرجال التكتيك من قوات التحالف، ولم تكن جحيماً، على الإطلاق، لرجال الإمداد والتموين، بل كانت أيضاً جنةً لهم. فالإمدادات وفيرة، والتموين سخيّ. فهي، بالتأكيد، الحرب الأولى في التاريخ التي لم يفقد الجنود خلالها وجبة طعام واحدة! أمّا العدو فقد ثَبت عدم فعاليته، وعدم قدرته على مجابهة قوة التحالف الهائلة، إلى درجة أن الحرب تحولت، في النهاية، كما لو كانت تدريباً عملياً أكثر منها حرباً حقيقية. وثمة صورة نُشِرَت في بعض الصحف تُعَبّر عن هذا المعنى أصدق تعبير، إذ يظهر فيها جندي أمريكي، في غاية السعادة، يصب زجاجة مياه معدنية في جوف بعير يشاركه تلك السعادة أيضاً.

          وما كانت الوَفرة والدّعة لِتَتَحقَّقا، لولا الجهود الجبارة التي بذلتها الدولة المضيفة، المملكة العربية السعودية ، في ميدان الإمداد والتموين. فلم نكتفِ بتعبئة كل مواردنا من القطاعيْن العام والخاص فقط، بل قمنا كذلك بسداد قيمة كل ما لم نستطع توفيره بأنفسنا.

          كانت نفقات الإعاشة والوقود باهظة. فبناء على تعليمات خادم الحرمين الشريفين الملك فهد، قدّمتْ المملكة الطعام على نفقتها لأكثر من 750 ألف جندي. وكانت القوات الأمريكية، وحدها، تتزَّود، يومياً، بمليوني جالون من مياه الشرب. كما بلغت كمية الوقود التي استهلكها الفيلقان الأمريكيان، يومياً، 4.5 ملايين من الجالونات، أي ما يعادل حمولة 850 صهريجاً. ويقول الفريق ويليام جَسْ باجونيس، wiliam gus pagonis رئيس الإمداد والتموين الأمريكي، الذي عَمِلَ بالتعاون معٍ نظيره السعودي العميد عبد العزيز الحسين: " كان من الممكن أن نواجِه وضعاً في غاية الصعوبة، لو أن البلد المضيف كان فقيراً، أو معادياً، أو كليهما معاً ".

          يتميز جَسْ باجونيس، وهو يوناني الأصل، بطاقة تتفجر حيوية ونشاطاً. وكثيراً ما كنت أروي عنه قصصاً طريفة خلال الأزمة. فإذا ذُكِر اسم الرئيس بوش أو الفريق أول شوارتزكوف أمامي، فإن ذلك كان يعني أن التحالف في أحسن حالاته، وأن جميع الأمور تسير على ما يرام. لكن ذِكْر اسم باجونيوس كان كافيا لإثارة قلقي، لأن اسمه يعني أن ثمة "فاتورة" بملايين الدولارات في طريقها إليّ. ففي كل مرة ورد فيها اسمه، تكلفت المملكة أموالا طائلة. وإحقاقاً للحق، فإن باجونيوس كان إدارياً موهوباً، وقد تمت ترقيته إلى رتبة فريق، أثناء وجوده في المملكة، تقديراً لكفاءته وجدارته.

          ولكن باجونيس، بدأ أولى خطواته العملية معنا بخطوة غير موفَّقة. إذ لم يمضِ على وصوله إلى المملكة وقتٌ طويلٌ، حتى أصدر أمراً إلى مرؤوسيه بمصادرة كل ما يرونه مفيداً للمجهود الحربي، بما في ذلك الشاحنات التجارية والسيارات والمعدات وما شابه ذلك. أبلغني اللواء صالح المُحيّا، قائد المنطقة الشرقية، بذلك الأمر وأرسل إليّ نسخة منه، وصلتني عندما كنت وشوارتزكوف في غرفة الحرب. فأثَرت الموضوع معه، وأنا في شدة الاستياء من هذا التصرّف، وأطلعته على الأمر الذي أصدره باجونيوس. وأخبرته أن هذا الإجراء مرفوض تماماً، فالمملكة ليست بلداً محتلاً! وطلبت منه التصرّف الفوري. ولكي يهدئ ثائرتي ويخفف حدة غضبي، بادر شوارتزكوف إلى الاتصال بباجونيس ووبّخه قائلاً: " جَسْ، ترقيتك في الطريق، فلا توقفها "! ألغى باجونيوس الأمر الذي أصدره، وقدم اعتذاره، على الفور إلى صالح المُحيّا.

          يتقاسم باجونيس الفضل في نجاح عمليات الإمداد والتموين، مع فريق من المتخصصين، بقيادة العميد عبد العزيز الحسين، المسؤول عن الإمداد والتموين للقوات الغربية، والعميد سالم عويمر، المسؤول عن تلبية احتياجات القوات السعودية والقوات العربية والإسلامية الأخرى. فالجهود التي بذلها هذان الضابطان السعوديان تستحق كل التقدير. بدأنا بوحدة إسناد قوامها ستة ضباط تحت إدارة العميد سالم عويمر، وانتهينا بهيكل إمداد وتموين قوامه 130 ضابطاً، تم اختيارهم من جميع فروع القوات المسلحة السعودية. وكم تطلب منهم ضغط العمل مواصلة الليل بالنهار دون أن يهنأوا بقسط من النوم أو الراحة! ولعل الجهد الذي بذلوه في تلك السنة يفوق كل ما بذلوه من جهود طوال خدمتهم العسكرية، وهذا الأمر ينطبق عليَّ أنا الآخر بكل تأكيد.

          أستطيع القول، بكل تواضع، إنه لولا جهود المملكة، لكانت حرب الخليج أمراً مستحيلاً، أو على الأقل لواجهت صعوبات جَمّة. إذ كان على الحلفاء الغربيين بناء محطات للطاقة، ومحطات لتحلية المياه، وقواعد جوية، وآلاف من المستلزمات الأخرى. فلكي تحصل قوات الحلفاء على احتياجاتها من الوقود، كان عليها تعبئة أساطيل العالم من الناقلات. ولكنها استطاعت بفضل المَرافق الممتازة في موانئنا، في الجبيل و ينبع، وفي و جدة، تفريغ حمولة خمس عشرة سفينة كل يوم، حَامِلَةً الجنود الأمريكيين وعتادهم، فضلاً عن السفن الكثيرة التي قَدِمت من دول أخرى. وهذا رقم قياسي يعجز عن تحمله حتى أكثر البلدان الصناعية تقدماً. ولولا الموارد المحلية الهائلة، والبنْية الأساسية الكاملة للمملكة، لكان الأمر جحيماً لرجال الإمداد والتموين، ولَتَعرّض جنود التحالف للموت عطشاً في الصحراء. ولعله لم يسبق لدولة مضيفة في العالم أن قدَّمت مثل هذه المساندة الهائلة غير المحدودة، لقوات أجنبية حُشِدَت في زمن قياسي، تقاتل على أرضها.

          ربما قال بعضهم إن المملكة تحملت العبء الأكبر من نفقات الإمداد والتموين بدافع من مصلحتها الذاتية؛ لأنه لا توجد دولة أكثر منها حرصاً على نجاح التحالف. وربما كان ذلك صحيحاً، على الرغم من أن كل عضو في التحالف، بما في ذلك الولايات المتحدة، تصرَّف بدافع من مصلحته الذاتية. إلاّ أن هذا القول يغفل أمراً مهمّاً، وهو أن كرم الضيافة من شيَم العرب، وهو ما نفخر به.

          وما من قائد عسكري إلاّ ويدرك أن الجيش لا يمكن أن يقاتل دون إمدادات تصله بالقدر المناسب، وفي الوقت والمكان المحددين أيضاً. لذلك، فقد أكدت حرب الخليج أهمية الإسناد الإداري، فكانت، حقاً، حرب رجال "الإمداد والتموين"، خاصة إذا عرفنا أن عملية "درع الصحراء" استغرقت ستة أشهر، ودامت الحملة الجوية لعملية "عاصفة الصحراء" 38 يوما، بينما استغرقت حربها البرية 100 ساعة. أمّا عملية "وداع الصحراء"، وهي عملية مغادرة القوات الشقيقة والصديقة للمملكة، فاستغرقت فترة من سبعة إلى ثمانية أشهر. وهكذا، نرى أن بضعة أسابيع من القتال تطلبت جهود سنة ونيف من رجال الإمداد والتموين.

سابق بداية الصفحة تالي