مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصل التاسع عشر

الحرب الجويّة وَصواريخ سكود

          كان تدمير قوة العراق العسكرية، بفعل الحملة الجوية الإستراتيجية للتحالف في يناير وفبراير 1991 ، أحد الأحداث المثيرة والرهيبة التي شهدها العقد الأخير من القرن العشرين.

          إن المعجزات التقنية التي قامت عليها تلك الحرب، التي تُعَدّ حقيقة "الحرب الأولى في عصر الفضاء"، أمر شغل فكري وأثار إعجابي. ولكن قلبي كان ينزف دماً إزاء ما حل بشعب العراق الشقيق جرّاء طيش قائده وإجرامه. كانت مشكلة محيرة بالنسبة إليّ! كنت أدرك، دون أدنى شك، منذ نوفمبر 1990 ، أنه إن لم ينسحب صدّام من الكويت دون قيد أو شرط، فالحرب واقعة لا محالة، ولا مفرَّ من تدمير آلة صدّام الحربية. فقد بات من الضروري إزالة الخطر الذي كان يشكِّله على أمن المنطقة. كما أن سلوكه المَقِيت في الكويت من تعذيب المدنيين، وقتل الأطفال أمام ذويهم، جعل الحرب ضده أمراً ليس ضرورياً فحسب، بل واجباً مشروعاً أيضاً.

          تسبب صدّام بغزوه الكويت ثم رفْضه الانسحاب منها، وهما خطآن لا يقلّ أحدهما فداحة عن الآخر، بسلسلة من الأحداث المتلاحقة عادت بالدمار على بلده، كما غَيَّرت أنماط الحياة وأساليب التفكير لدى عدد كبير من الناس في منطقة الشرق الأوسط. ففضلاً عن الدمار الذي أحدثته الحرب، وإخراج مئات الآلاف من ديارهم وسلب أموالهم، تسببت الأزمة بصدْع كبير داخل الوطن العربي، كما ألْقت بظلال من الشك على أحد المبادئ الراسخة في السياسة العربية منذ الحرب العالمية الثانية. وهو أن العرب أمة واحدة، مهْما كانت خلافاتهم، تحدوهم الأفكار القومية نفسها، وتجمعهم وحدة الآمال والآلام، ويتطلعون دائماً إلى التكاتف والتضامن وقت المِحن، بل إلى الوحدة السياسية الكاملة. ولكن تلك المبادئ جميعها ذهبت أدراج الرياح بفعل صدّام إذ تسبب ببذْر بذور العداء وعدم الثقة في العلاقات العربية بشكل لم يسبق له مثيلٌ.

          وثمة بُعد آخر للأزمة، يهمَ أمثالي من العسكريين. إذ فتَّح ذلك الصراع أعيننا على الثورة الهائلة في فنون الحرب وعلومها، وسلَّطَ الأضواء على الفجوة المتعاظمة بين قدراتنا وقدرات الدول المتقدِّمة، على الرغم من الجهود الحثيثة التي ما فَتِئْنَا نبذلها للحاق بالركب.

          أدّت تلك الحرب، ضمن ما أدّت إليه من سلبيات، إلى تَفَرّق العرب سياسياً وضعفهم عسكرياً. وهي آثار ما زلنا، بعد أربع سنوات من الأزمة، نجاهد للتغلب عليها، ورأب الصدْع الذي أحدثته.

          خضعت حرب الخليج لقدر غير قليل من النقاش والتحليل، ولكن، قَلّ من فهِم حقيقة أبعادها! فحتى الذين عايشوها يوماً بيوم، أخفقوا في استيعاب حقيقة أن الحرب على صدّام في بدايتها على الأقل، كانت حرباً جوية محضة. وكانت من مقتضيات الخطة، استخدام القوة الجوية بشكل جديد ومكثَّف، لِشَلِّ قدرة القيادة العراقية على السيطرة والتحكم في قواتها، سواء في الهجوم أو في الدفاع. وبعد أن يصاب صدّام وقيادته العليا بالعمى والشلل، يتم إضعاف القوة العسكرية التقليدية للعراق، وكذلك ما تمتلكه من أسلحة الدمار الشامل، بفعل أضخم وأشرس حملة جوية عرفها التاريخ.

          كان صدّام ينوي أن يحارب حرباً تقليدية، بطيئة الحركة، عتيقة الأسلوب، على غرار حربه على إيران، حيث تلتحم الجيوش البرية في اشتباكات بالسلاح الأبيض تستمر شهوراً، إن لم يكن سنين. ولا شك أنه كان يأمل في إيقاع أكبر قدْر من الخسائر في صفوف التحالف، كي يصرف الغرب عن الاستمرار في تأييده لتلك الحرب، ويُحرِز بذلك نصراً سياسياً، على الأقل، إذا لم يتسنَّ له نصر عسكري. لكن التحالف كان مصمِّماً على خوض معركة سريعة الحركة، عصرية الأسلوب، فائقة التقنية، تُدَار من بُعْد، وتُشَكِّل أسلحة القوات الجوية فيها عنصراً أساسياً وفعالاً. ويصبح هدف المعركة، في ساعاتها الأولى الحاسمة، هو تحقيق السيادة الجوية. وبتحقّق السيادة الجوية للتحالف، يَضْحَي العراق تحت رحمته، ومن ثَمّ تُستخدم الأسلحة الحديثة ذات الدقة الفائقة، لتدمير قدرة صدّام على الاستمرار في الحرب.

          أدرك التحالف، بطبيعة الحال، أن القوة الجوية وحدها لا تستطيع تحقيق النصر في الحرب. فكان من الضروري خوض معركة برية لتحرير الكويت وهو هدفنا الرئيسي من الحرب، واستكمال عملية الاستنزاف الرامية إلى تجريد صدّام من قدْرته على تهديد أمن المنطقة واستقرارها في المستقبل. كانت قوات التحالف البرية، المشاة والدبابات والمدفعية، في غاية الأهمية لتنفيذ المرحلة الأخيرة من خطة الحرب. كما كانت صمام الأمان في حالة إخفاق الحملة الجوية في تحقيق الأهداف المرجوَة منها.

          وقرب نهاية شهر أغسطس، شرعت مجموعة تخطيط خاصة تُعِدُّ  لـ "الحملة الجوية". وبدأت مراحل عملها في الطابق الأسفل لمبنى قيادة القوات الجوية الملكية السعودية في الرياض. ونظراً إلى السرِّية التامة لعمل تلك المجموعة، فقد خضع الطابق كله لحراسة مشددة، وأُطلق على الغرفة التي تعمل فيها اسم "الثقب الأسود black hole". وكان العمل المنوط بالمجموعة هو جمع وتصنيف كل المعلومات المتوافرة عن القدرة العسكرية للعراق، ثم وضْع خطة لاستخدام القوة الجوية لِشَلِّ قدْرته على القتال في الساعات الثماني والأربعين الأولى من الحرب. وَوُضِعَت تحت تصرّف مجموعة التخطيط، أنواع رهيبة من الأسلحة، كان بعضها يستخدم للمرة الأولى.

          كان من الضروري اتخاذ إجراءات أمن صارمة لكي يتحقَّق عنصر المفاجأة. يضاف إلى ذلك، أن الولايات المتحدة كانت تُصِرّ على السرِّية التامة، لأنها كانت ستضطَّلِع بتنفيذ الجزء الأعظم من المهام الجوية. فمن بين الطلعات الجوية التي تمَّت أثناء عاصفة الصحراء وعددها 108043 طلعة، كانت نسبة 83.6% من نصيب القوات الأمريكية الجوية والبحرية ومشاة البحرية، بينما كانت نسبة 6.5% من نصيب القوات الجوية الملكية السعودية، و5.1% للقوات الجوية الملكية البريطانية، و2.1% للقوات الجوية الفرنسية، وقد أسهمت دولٌ أخرى في تلك الحملة بطريقة أو بأخرى، منها بلجيكا وألمانيا والنرويج وعُمان. واستطاعت القوات الجوية الملكية السعودية أن تشارك بكفاءة، وتتكامل بسهولة مع قوات التحالف الجوية الرئيسية. ويُعزَى ذلك إلى أن عقائدها العسكرية وتدريبها وتسليحها ودرجة استعدادها لا تقلّ عن مثيلاتها في الولايات المتحدة أو بريطانيا.

          وهناك سبب آخر للسرِّية، وهو أن الولايات المتحدة كانت تخطِّط لاستخدام أحدث ما في ترسانتها من تقنية حربية مثل: المقاتلة f-117 ستيلث stealth ( المتسلِّلة أو الشِّبَح كما يُطلَق عليها ) التي لا يكتشفها الرادار، إضافة إلى الذخيرة الدقيقة التوجيه ( pgms )، مثل الصواريخ من نوع كروز توماهوك tomahawic cruise، والأنواع الكثيرة الأخرى من القنابل والصواريخ الموجَّهة تليفزيونياً أو بأشعة الليزر، وكذلك أجهزة الرؤية الليلية التي تعتمد على الأشعة تحت الحمراء، وعدد كبير من أنظمة إلكترونية أخرى للاتصالات والمراقبة والقتال، بهدف التشويش على رادارات صدّام وقطع خطوط اتصالاته، وشلِّ دفاعاته بوجه عام.

          كانت المعلومات التي ترد من الأقمار الصناعية جزءاً لا يتجزّأ من الاستعدادات للحملة الجوية وإدارتها الفعلية. فقد زوَّدَت الأقمار الصناعية قوات التحالف بالمعلومات اللازمة عن الأهداف العراقية، ومعلومات عن حالة الطقس، والإنذار بوقوع هجمات صواريخ سكود، ووفرت لها إمكانات هائلة للاتصالات، ونفذّت الكثير من المهام الضرورية الأخرى. كما كانت الأقمار تُشَكلِّ أساس عمل "نظام تحديد المواقع" (gps)، وهو جهاز صغير مَكَّن القوات البرية من الملاحة في الصحراء المستوية، الخالية من الهيئات الأرضية، أو عبْر حقول الألغام العراقية بقدْر فائق من الدقة.

          كانت الأنظمة الأمريكية العالية التقنية، بمثابة "مُضَاعفَات" لقدرة التحالف القتالية. فوضعت التحالف في عالم آخر غير عالم العراق ومن الوجهة العسكرية المحضة، كانت أفدح أخطاء صدّام أنه لم يدرك الهُوَّة السحيقة بين قواته المسلحة والترسانة المتقدِّمة العالية التقنية لقوة عظمى. ولعله كان يدرك، إلاّ أن غروره وصَلَفَهُ أعميا بصيرته.

          كان أمراً طبيعياً أن يسيطر الأمريكيون على قيادة الحملة الجوية. لذا، وافق أعضاء التحالف على أن يتولى الفريق هورنر السيطرة على توجيه العمليات لجميع طائرات التحالف، لتحقيق أكبر قدْر من التجانس في إدارة العمليات الجوية. فكان بذلك "رئيس القوات الجوية" الأوحد، ولُقِّب بقائد القوات الجوية المشترك ( jfacc ) joint force air component commander. واتضح، أثناء تنفيذ الحملة، أن هورنر وواجَه بعض التحديات لصلاحياته من جانب القوات البحرية وقوات مشاة البحرية الأمريكية، إذ أراد كلِّ منهما الاحتفاظ ببعض الوحدات الجوية للإسناد الجوي لعملياتها.

          أُنيطت بالعميد بستر جلوسون buster glosson، مدير الخطط الجوية، مهمة صعبة هي الإشراف على إعداد "أمر العمليات الجوي اليومي" (ato). وهو وثيقة بحجم دليل الهاتف يشتمل على كثير من التفاصيل، مثل تحديد إشارات الاستدعاء الجوي، والترددات اللاسلكية، ووقت الإقلاع، وتعليمات التّزوّد بالوقود في الجو، والأهداف الأولية والتبادلية المطلوبة مهاجمتها، والذخيرة المناسبة لكل مهمة، وذلك لأكثر من 1000 طلعة يومياً، كانت تصل أحياناً أثناء الحملة البرية إلى 3000 طلعة. كان من المستحيل إنجاز هذا العمل الجبار دون استخدام أجهزة الحاسب القوية.

          ولعل من أخطاء صدّام المتعددة، أنه أعطى الفريق هورنر وزملاءه فرصة ستة أشهر تقريباً لتدريب قواتهم، واستكمال كل دقائق الحملة الجوية، وجلب الطائرات المناسبة المتخصِّصة لتنفيذ مهام محددة.

          كانت الحملة الجوية التي تمَّت في يناير وفبراير 1991، حدثاً رهيباً ومحزناً بحق. إذ أخذت القوة العظمى الأمريكية تستعرض عضلاتها، بمزج رهيب لتقنية عصر الفضاء في الإرادة السياسية لاستخدام القوة الهائلة المتفوقة. وبدافع من الرغبة في التخلص من شبح فيتنام كان القادة العسكريون الأمريكيون حريصين كل الحرص، على أن يعرضوا أمام العالم أجمع الأسلحة والمهارات التي اكتسبوها خلال الثمانينات ( عقد التحديث والتطوير ). كان صدّام يشك في عزم أمريكا واستعدادها للقتال، وكان هورنر وفريقه مصممين على أن يثبتوا له مدى خطئه.

سابق بداية الصفحة تالي