إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الخلفاء الراشدون









مقدمة

المبحث الأول

أبو بكر الصديق t

أولاًُ: اسمه ولقبه وكنيته

اسمه عبدالله بن عثمان، ولقبه الذي اشتُهر به عتيق. وقد لقبه به رسول الله r حين قال له: أنت عتيق الله من النار فسمي به، ويقال إن أمه سمته به إذ كان لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به الكعبة، واستوهبت الله فعاش فسمته عبدالله. والعتيق عند العرب هو الجميل أو الذي بلغ نهاية الجودة.

ولُقِّب أيضاً بالصديق، وذلك أن النبي، r، ليلة أُسري به، أصبح يحدث الناس بذلك، فارتد أناس كانوا آمنوا به، وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدسّ! قال: وقد قال ذلك. قالوا نعم، قال لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا أتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وعاد قبل أن يصبح؟ قال نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، من خبر السماء في غدوة أو روحة، أفلا أصدقه في ذلك، ثم جاء إلى النبي r وطفق يسمع منه ويصدقه ويقول أشهد أنك رسول الله.

وكنيته أبو بكر، وهو الفتيّ من الإبل وقيل سمي به لتبكيره بالدخول في الإسلام. ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر (573 م تقريباً).

أبوه عثمان بن عامر (أبو قحافة)، أسلم يوم الفتح، وتُوفي بعد أبي بكر بستة أشهر عن سبع وتسعين سنة.

وأمه أم الخير سلمى بنت صخر، كانت من أوائل المسلمين في دار الأرقم، ولم يكن في الصحابة من أسلم والداه غيره. واجتمعت في بيته صحبة أبيه وأمه وهو وولده وولد ولده. ولم يكن ذلك لأحد غيره.

ثانياً: منزلته في الجاهلية

كان أبو بكر يلي أمر الديات في قريش، فكان ثقة مصدقاً فيها، فإذا أوجبت على أحد من قريش دية قصد أبا بكر فينهض معه أبو بكر ويسأل قريشاً أن يعينوه، فما تولاه منها قبلته وصدقته، وما تولاه غيره من أمر هذه الديات خذلته، وترددت في قبوله.

لم يشرب الخمر في الجاهلية ولا في الإسلام، لِما علم من ذهابها بعقل صاحبها. وكان يُسمّى "نسّابة العرب" لعلمه بقريش وأنسابها، وبما كان فيها من خير أو شر، وأنساب غيرها من العرب؛ وأيامهم ومثالبهم ومناقبهم.

ومن تواضعه أنه كان قبل الخلافة يأتي بيوت العجائز فيسقي لهن، ويقضي حوائجهن، وكانت جواري الحي يأتينه بغنمهن، فيحلب لهن، ولما بويع بالخلافة، ما غير ذلك من خلقه شيئاً. ولما قالت إحدى الجواري ـ بعد ما بويع بالخلافة ـ الآن لا يحلب لنا منائحنا (وهي الغنم ذوات اللبن، مفردها منيحة) فسمعها أبو بكر فقال: بلى لعمري لأحلبنّها لكم، وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه، من خُلُق كنت عليه. فكان يحلب لهن.

وكان آنفاً من الأصنام غير ميال إليها، وكان يجلس طويلاً ـ قبل البعثة النبوية ـ إلى الأحناف الثلاثة الذين اعتزلوا الأصنام، وهم: قس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل يصغي إلى كلماتهم ويتبعها، ولكن هؤلاء كانوا عاكفين على أنفسهم، لا يحملون دعوة منظمة، ولا ديناً جديداً يهدد قريشاً ووثنيتها وتقاليدها.

وقد جمعته بالنبي r، صحبة قبل البعثة بسنين، وكان يرى في محمد ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ المثل الأعلى والقدوة إذ رآه لا يسجد للأصنام، ولا يلهو مع اللاهين؛ ويروي المؤرخون أنه كان مع النبي، r، في رحلته مع عمه التي قابل فيها الراهب بحيراً.

ويحدث أبو بكر عن إحدى رحلاته إلى اليمن قبل البعثة النبوية فيقول: "نزلت على شيخ من الأزد، عالم قد قرأ الكتب، وعلم من علم الناس علماً كثيراً، فلما رآني قال: أحسبك حِرْمِياً ـ أي من أهل الحرم.

قال أبو بكر قلت نعم، أنا من أهل الحرم.

قال: وأحسبك قرشياً؟!

قلت: نعم أنا من قريش.

قال: وأحسبك تميمياً!

قال: قلت نعم أنا من تميم بن مرة، أنا عبدالله بن عثمان، من ولد كعب بن سعد بن تميم بن مرة.

قال: بقيت لي فيك واحدةّ!

قلت: ما هي؟

قال: تكشف عن بطنك!

قلت: لا أفعل، أو تخبرني لم ذاك؟

قال: أجد في العلم الصحيح الصادق أن نبياً يبعث في الحرم يعاونه على أمره فتى وكهل، فأما الفتى فخواض غمرات ودفاع معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة، وعلى فخذه اليسرى علامة، وما عليك أن تريني ما سألتك. قال أبو بكر فكشفت له عن بطني، فرأى شامة سوداء فوق سرتي، فقال: أنت هو ورب الكعبة.

ثالثاً: صفاته

كان أبو بكر أبيض نحيفاً خفيف العارضين، منحنياً ناتئ الجبهة معروق الوجه قليل لحمه، غائر العينين كثير الشعر، يسترخي إزاره عن خاصرته.

شُهر بالمروءة، يتحاشى السقط من الكلام، ولا يتكلم إلا إذا دعاه داعٍ إلى قوله ويوجز، ومن وصاياه لعماله: "إذا وعظت فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً". وكان ينأى بنفسه عن مواطن الشبهات، دعاه رجل إلى أن يستصحبه لحاجة يعينه عليها، فرآه يمر في طريق غير، التي يمر فيها؛ فسأله: إلى أين تذهب؟ هذه الطريق! قال الرجل إن فيها أناساً نستحي أن نمر عليهم. قال أبو بكر: تدعوني إلى طريق نستحي منها؟ ما أنا بالذي أصاحبك.

وكانت فيه ـ مع لين جانبه وألفته وسهولته ـ حدة؛ ومن حدته ما روي عن النعمان بن بشير قال: ]اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى النَّبِيِّ r، فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ عَالِيًا، فَلَمَّا دَخَلَ تَنَاوَلَهَا لِيَلْطِمَهَا وَقَالَ: أَلا أَرَاكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r، فَجَعَلَ النَّبِيُّ r يَحْجِزُهُ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبًا، فَقَالَ النَّبِيُّ r حِينَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ. قَالَ فَمَكَثَ أَبُو بَكْرٍ أَيَّامًا ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَوَجَدَهُمَا قَدِ اصْطَلَحَا، فَقَالَ لَهُمَا: أَدْخِلانِي فِي سِلْمِكُمَا كَمَا أَدْخَلْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ r: قَدْ فَعَلْنَا قَدْ فَعَلْنَا[ (سنن أبو داود، كتاب الأدب: الحديث الرقم 5001).

وكان تاجراً ميسوراً، بلغ ماله حين أسلم أربعين ألف درهم أنفقها كلها في نصرة الدعوة، وما بقي منها حمله في رحلة الهجرة إلى يثرب. ولمّا نزلت الآية الكريمة ]إِن تُبدُواْ الصَدقَاتِ فَنِعمَّا هِيَ[ (سورة البقرة: الآية 271)، جاء أبو بكر بكل ماله إلى رسول الله، فقال له الرسول r: ما تركت لأهلك؟ قال: عِدَةُ الله وعِدَةُ رسوله.

وقد اشترى نفراً من العبيد الذين كانوا يعذّبون ببطحاء مكة، منهم بلال بن رباح مؤذن الرسول r، وعامر بن فهيرة، وزِنِّيرة ـ وهي مولاة رومية لعمر بن الخطاب ـ وغيرهم. يدفع بسخاء ولا يبالي. اشترى بلالاً بخمس أوراقٍ ذهباً. فقالوا: لو أبيت إلا أوقية لبعناك، قال: لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته.

رابعاً: إسلامه ومن أسلم على يديه

ذهب كثير من المؤرخين إلى أنه أول من أسلم وفي الحديث: إني قلت: "يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً، فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي".

وقد ورد هذا الحديث في قصته مع عمر، t ما، أخرج البخاري عن أبي الدرداء t قال: ]قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ r اِذْ اَقْبَلَ اَبُو بَكْرٍ اخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى اَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ r ‏‏ "اَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ‏"‏‏.‏ فَسَلَّمَ، وَقَالَ اِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَىْءٌ فَاَسْرَعْتُ اِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَاَلْتُهُ اَنْ يَغْفِرَ لِي فَاَبَى عَلَىَّ، فَاَقْبَلْتُ اِلَيْكَ فَقَالَ ‏"‏يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا اَبَا بَكْرٍ‏"‏‏.‏ ثَلاَثًا، ثُمَّ اِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَاَتَى مَنْزِلَ اَبِي بَكْرٍ فَسَاَلَ اَثَمَّ اَبُو بَكْرٍ فَقَالُوا لاَ‏.‏ فَاَتَى إلى النَّبِيِّ r، فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ r يَتَمَعَّرُ حَتَّى اَشْفَقَ اَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ اَنَا كُنْتُ اَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ‏.‏ فَقَالَ النَّبِيُّ r ‏"‏ اِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ‏.‏ وَقَالَ أبُو بَكْرٍ صَدَقَ‏.‏ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ اَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي‏"‏‏.‏ مَرَّتَيْنِ فَمَا اُوذِيَ بَعْدَهَا فقال النبي r: إني قلت: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً‏[ (صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة: الحديث الرقم 3705). قال الراوي: فما أوذي بعدها.

وهو أول من أوذي في الله، بعد رسول الله r، وأول من دافع عن رسول الله r، وأول من دعا إلى الله. كان أبو بكر أول من خطب داعياً إلى الله تعالى، وإلى إتّباع رسوله r، فقام إليه المشركون يضربونه ومن معه من المسلمين ضرباً شديداً، ووطئ أبو بكر بالأرجل وضرب ضرباً شديداً، وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين على وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه، فجاءت بنو تيم فأجلت المشركين عن أبي بكر وأدخلوه إلى منزله، ولم يفق إلا آخر النهار، وكان أول سؤال سأله: ما فعل رسول الله، r؟ ولم يهدأ له بال حتى أخذوه إلى رسول الله، r. وهذا يدل على محبته لرسول الله،. وكان يدعو إلى الإسلام من يثق به. فأسلم على يديه أكابر الصحابة من أهل الشورى: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيدالله، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وهذا أفضل عمل. وأراد أن يهاجر إلى الحبشة إلا أن أحد زعماء المشركين وهو ابن الدُُّنّة واسمه ربيعة بن فهيم، أجاره على أن يعبد الله في داره، ولكنه بعد مدة ردّ عليه جواره ورضي بجوار الله تعالى.

وهو صاحب رسول الله في الهجرة، وكان له فيها دور بارز، كما كان لأسرته. وكانت ابنته أسماء تحمل الطعام لرسول الله ولأبيها في الغار، وكان عبدالله ابنه يبيت عندهما، ويخرج وقت السحر إلى مكة يتسمع ما يقول الناس، وكان عامر بن فهيرة مولاه يرعى غنمه في النهار، ثم يريح على فم الغار إذا أمسى يُعَفّي آثار أقدام عبدالله بن أبي بكر، ويشرب النبي والصديق من اللبن ويذبحان من الشاء، يفعلان ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث.

ومن مواقفه المشهودة، قوله لرسول الله r، حين أراد الدخول في الغار: "والله حتى أدخله قبلك فإن كان فيه شيء أصابني دونك" فدخله، فوجد في جوانبه ثقوباً، فشق ثوبه وسد به الثقوب، وبقي منها ثقبان فوضع فيهما رجليه، ثم قال لرسول الله: "ادخل يا رسول الله" فدخل فوضع رأسه في حجر أبي بكر ونام. فلُدِغ في رجله من الجُحْر، فلم يتحرك مخافة أن يستيقظ رسول الله، فسقطت دموعه على وجه رسول الله، فقال: مالك يا أبا بكر؟ قال: لُدِغْت فداك أبي وأمي" فعالجه رسول الله، r.

حتى إذا خرجا من الغار وسارا نحو المدينة، كان الصديق يحمي الرسول، بنفسه. فتارة يمشي أمامه يخاف عليه الرصد، وأخرى يسير خلفه يخشى عليه الطلب. حتى وصلا إلى المدينة.

وبعد أن استقر بهما المقام في المدينة آخى الرسول، r، بين أبي بكر وخارجة بن زهير الأنصاري، وقد نزل أبو بكر في دار خارجه بالسُّنْح، وهو موضع خارج المدينة، وتزوج ابنته إذ ترك زوجته وبنيه بمكة. وشارك في بناء المسجد، الذي اشترى الرسول، أرضه بعشرة دنانير، أداها من مال أبي بكر.

وكانت له مواقف مشهودة في غزوات النبي، فكان إلى جانبه r يوم بدر في العريش، يؤازره ويمنعه من المشركين، وكان مع النفر الذين لم ينهزموا عن النبي يوم أحد، وهو الذي لم يخالف أمر النبي يوم الحديبية إذ قال له عمر بن الخطاب: فلم نعطي الدنية (أي الذل والهوان) في ديننا فرد عليه: أيها الرجل! إنه رسول الله وليس يعصيه (أي لن يعصي ما أمره به ربه) وهو ناصره، فاستمسك بغرزه (أي اعتلق به ولا تخالفه)، فو الله إنه على حق، فضرب أروع الأمثال في الاقتداء والإتباع.

وتزوج رسول الله r، ابنته عائشة، بعد وفاة السيدة خديجة بنت خويلد. وكانت خولة بنت حكيم، قد قالت لرسول الله r: ألا تتزوج؟ قال: من؟ قالت: إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً: فأمّا البكر فابنة أحب الخلق إليك، عائشة بنت أبي بكر، وأمّا الثيب فسودة بن زمعة، قد آمنت بك. قال فاذكريهما عليَّ. قالت خولة: فأتيت أم رومان فقلت: ماذا أدخل عليكم من الخير والبركة! قالت: وما ذاك؟ قلت: رسول الله يذكر عائشة، قالت وددت، انتظري أبا بكر. فجاء أبو بكر فذكرت ذلك له، قال: أو تصلح له، وهي ابنة أخيه؟

فرجعت فذكرت ذلك للنبي r فقال: قولي له: أنت أخي وأنا أخوك في الإسلام، وابنتك تصلح لي. فرجعت فأخبرته بذلك، فقال أبو بكر لأم رومان: إن المطعم بن عدي كان ذكرها على ابنه، والله ما أخلف أبو بكر وعداً قط.

ثم أتى مطعماً، وعنده امرأته أم الفتى، فقال: ما تقول في أمر هذه الجارية؟ فأقبل على امرأته فقال: ما تقولين؟ فأقبلت على أبي بكر فقالت: لعلنا إن زوجنا هذا الصبي إليك تصبئه وتدخله في دينك، الذي أنت عليه. فقال أبو بكر للمطعم: فما تقول أنت؟ فقال: إنها تقول ما تسمع. وهكذا تحلل أبو بكر من وعده للمطعم فتزوجها رسول الله r، في العاشر من شوال سنة عشر من البعثة، قبل الهجرة بثلاث سنين. دخل بها في المدينة في شوال في السنة الثانية من الهجرة، بعد غزوة بدر.

وقد مرت به أحداث جسام كان أشدها عليه حادثة الإفك لما اتهم المنافقون ابنته، أم المؤمنين، السيدة عائشة، وراحوا يروجون الأقاويل. كان موقفاً عصيباً برأ الله فيه الصديقة بنت الصديق من فوق سبع سماوات. قال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِْفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِْثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآْيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[ (سورة النور: الآيات 11-20).

وملخص قصة الإِفك؛ أن الرسول r، كان إذا أراد الخروج في سفر، يجري القرعة بين نسائه فيصطحب إحداهن. وفي إحدى سفراته اصطحب السيدة عائشة، وكان ذلك بعد فرض الحجاب على أمهات المؤمنين، فكانوا إذا نزلوا ينزلون الهودج، بمن فيه، ثم يحملونه وهي فيه. فلما كان الركب في طريق عودتهم صوب المدينة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت السيدة عائشة لقضاء حاجتها، فلما عادت إلى رحلها، فقدت عقداً لها فرجعت تبحث عنه، وتأخرت. فجاء الذين يحملون الهودج، وظنوها فيه، وكانت السيدة عائشة صغيرة السن، خفيفة اللحم فلم ينكروا خفة الهودج، فوضعوه على البعير ورحل الجيش. ولما عادت لم تجد أثراً لهم، فمكثت في مكانها، وغلبتها عيناها ونامت. فجاء صفوان بن المعطل السلمي، وكان نازلاً وراء الجيش، فعرفها فما زاد على أن جعل يقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وقرّب إليها راحلته، وتأخر عنها فركبت، وجاء بها يقودها حتى أدركوا الجيش. فاتهمها المنافقون، وجعلوا يخوضون فيها، وتورط بعض المؤمنين في ذلك، كحسان بن ثابت الأنصاري الشاعر، ومسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر، وخمة بنت جحش أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين، وكان الذي تولى كبره، كما ذكر في الآية، عبدالله بن أبي بن سلول، فأنزل الله هذه الآيات يعاتب المؤمنين ويعلمهم، ويؤدبهم.

وأمّره الرسول r على الحج سنة تسع من الهجرة، وهو أول من جمع للناس الحج، وبعث معه علي بن أبي طالب رسولاً إلى الناس بسورة براءة. ثم أمره الرسول، r، أن يصلي بالناس، وذلك أنه حدث قتال بين بني عمرو بن عوف، وهم بطن من الأوس كبير، فأتاهم النبي r، ليصلح بينهم، وقال لبلال إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أبا بكر فليصل بالناس. فلما حضرت صلاة العصر، أقام بلال الصلاة، ثم أمر أبا بكر فتقدم للصلاة. وجاء رسول الله، بعد ما دخل أبو بكر في الصلاة. فلما رآه الصحابة صفقوا، وجاء رسول الله حتى قام خلف أبي بكر. فلما رأى أبو بكر التصْفيق لا يمسك عنه التفت، فرأى النبي، خلفه. فأومأ إليه النبي، r، بيده أن امضي في الصلاة. فقام أبو بكر هنيهة، ثم مشى القهقرى، فتقدم رسول الله، r، فصلى بالناس. فلما قضى رسول الله، صلاته، قال: يا أبا بكر ما منعك إذ أومأت إليك أن لا تكون مضيت؟ فقال أبو بكر: لم يكن لابن أبي قحافة أن يؤم رسول الله وقد أمره r، بالصلاة في مرضه الذي مات فيه، ولم يرض أن يتقدم أحد غيره.

خامساً: ثباته عند وفاة النبي r واستخلافه

لمّا كان ذلك اليوم الذي صلى فيه أبو بكر بالناس، خرج رسول الله مفيقاً من وجعه، فظن الناس أنه قد تماثل للشفاء. قال له أبو بكر: يا نبي الله أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحب. واليوم يوم بنت خارجة (أي ليلة زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد الخزرجية الأنصارية) أفآتيها؟  فقال له الرسول، نعم. وذهب أبو بكر إلى داره بالسنخ، ولم يلبث النبي أن تُوفي، فزُلزل المسلمون زلزالاً شديداً، وكادت تطيش حلومهم، وأقبل عمر بن الخطاب شاهراً سيفه مقسماً أن يقتل من يزعم أن محمداً قد مات.

وبعثوا إلى أبي بكر، فدخل على الرسول، r، فكشف عن وجهه الغطاء، وأدرك أنه قد مات فقبل ما بين عينيه وقال: "بأبي أنت وأمي! طبت حياً، وطبت ميتاً!" ثم خرج إلى الناس وخطبهم قائلاً: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قول الله تعالى: ]وَمَا مُحَمَّدُ إِلاَ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْله الرُسُلُ أَفإِن مَّاتَ أَو قُتِل انقَلَبتُم عَلَى أَعقابِكُم[ (سورة آل عمران: الآية 144).

وكأن الناس لم يسمعوا هذه الآية من قبل، وقال عمر: لما سمعت أبا بكر يتلوها وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله قد مات. ثم بدأ الناس يتحدثون فوراً فيمن يخلف نبي الله. واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فجاء إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة فحاوروهم وأقنعوهم باختيار الخليفة من المهاجرين لأنهم أسبق إسلاماً، ولأنهم من قريش التي لن يدين العرب بالولاء إلاّ لها، كما طمأنهم الصديق بأنهم سيستشارون ولن تُقضى الأمور إلا على ملأ منهم، وفند عمر فكرة اختيار أميرين موضحاً أنها ستؤدي إلى الاضطرابات في أمور الحكم، والتفرق والتناحر الذين يفسدان على المسلمين حياتهم. وقال لهم أبو عبيدة ملامساً شغاف قلوبهم: "كنتم أول من نصر وآزار، فلا تكونوا أول من غيّر وبدل".

وتقدم عمر فبايع أبا بكر وتبعه الحاضرون، ثم بويع في اليوم التالي في المسجد، فأصبح أول خليفة لرسول الله r. وخطب خطبته الشهيرة التي قال فيها: "أما بعد أيها الناس: فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني". وكانت بيعته يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة للهجرة.

سادساً: أهم أعماله أثناء توليه الخلافة

كان الرسول، قد ولى القيادة أسامة بن زيد، وأمره بالتوجه إلى حدود الشام ليثأر لمن قتل في مؤتة، وذلك في مرضه الذي قبض فيه. ولكن جماعة من الصحابة كأنهم كرهوا إمرته ولما يكمل العشرين، فقال لهم الرسول r: ]‏إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 4109).

ولما تُوفي، r، وارتد كثير من قبائل العرب، ظهر النفاق بالمدينة، فكلم الناس أبا بكر أن يرجئ إرسال الجيش، فرفض، وأصر على إنفاذ أمر الرسول، r، وقال لهم: "لو تخطفني الكلاب والذئاب لم أكن لأرد قضاءً قضى به رسول الله r". ثم عادوا وأرسلوا له عمر ليكلمه في صغر سن أسامة، فما كان منه إلا أن وثب إلى لحية عمر وكان جالساً وقال: "ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، استعمله رسول الله، r، وتأمرني أن أنزعه؟".

وهكذا سار الجيش وكان في مسيرته أعظم البركة، لأن القبائل لما رأته، ثابت إلى رشدها وعلمت أن المدينة لو كانت تئن تحت وطأة الخلاف، لما بعثت هذا الجيش الذي عاد ظافراً غانماً.

ثم التفت أبو بكر، t للمرتدين وبدأ قتالهم بنفسه، وعقد أحد عشر لواءّ، وكان الصحابة قد نصحوه ألا يقاتل المرتدين، ويقبل منهم الصلاة ويدعهم، فأبى في عزم وتصميم، وقال لهم: "والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله، r، لقاتلتهم عليها".

أعد الصديق جيوشاً، (أُنظر ملحق جيوش أبي بكر لحرب الرِّدة) فولى خالد بن الوليد، وأمره بالمسير إلى طليحة بن خويلد الأسدي، فإذا أفرغ منه سار إلى مالك بن نويرة. وولى عكرمة بن أبي جهل، وكلفه بالمسير إلى مسيلمة الكذاب، وبعث شرحبيل بن حسنة في إثره إلى مسيلمة، لأن شره كان مستطيراً. كما جعل إمرة أحد الجيوش للمهاجر بن أبي أمية وأمره بجنود الأسود العنسي، وأخرى لعمرو بن العاص ووجهه إلى قضاعة ووديعة والحارث. كما بعث خالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام، وحذيفة بن مِحْصَن الغلفاني إلى أهل دبا، وعرفجة بن هرثمة إلى مهرة. ومعن بن حاجز إلى بني سليم ومن معهم من هوازن. وانطلقت الألوية تعيد المرتدين إلى الإسلام، واستغرقت مهمتها قريباً من عام وأبلت بلاء حسناً. وسار خالد بن الوليد إلى بني طيء وبني أسد وهزمهم في معركة بزاحة، (بزاحة بضم الباء ماء لقبيلة لبني أسد وموقعها في نجد) وفر متنبيهم طليحة الذي ادعى النبوة بينهم، وقد عاد وحسن إسلامه فيما بعد. ثم سار إلى بني تميم وأوقع بهم وقتل زعيمهم مالك بن نويرة. ثم اتجه إلى مسليمة الكذاب في بني حنيفة، وكانت هذه أعنف حروب الردة حيث هزموا جموع المرتدين في معركة عقرباء[1]، وقُتل مسيلمة في الحديقة التي احتمى بها، وعاد من بقي من بني حنيفة إلى الإسلام. وهكذا أدى كل لواء مهمته على أكمل وجه وعادوا ظافرين. وعرف الصحابة حنكة أبي بكر وحكمته في قتال المرتدين.

1. الفتوحات في عهده

لمّا فرغ المجاهدون من حروب الردة، أراد الصديق أن يؤمّن حدود الإسلام، ويدفع عنها خطر أعدائها، ثم حماية من يريد الدخول في الإسلام. فسار المثنى بن حارثة إلى العراق وحارب الفرس الذين أعانوا المرتدين، وأوقع بهم، وطاردهم إلى بلادهم، وعاهد القبائل العربية المقيمة في دلتا الفرات ودجلة، على أن يحاربوا معه الفرس ليساعدهم على الاستقلال عن الفرس. وكان هذا بداية الصدام مع الفرس. ثم عزز ذلك الجيش بخالد بن الوليد، ووقعت بينهم موقعة ذات السلاسل عند بلدة الحفير قرب كاظمة، وسميت كذلك لأن الفرس كانوا يقيدون أنفسهم بالسلاسل جماعات جماعات حتى يثبتوا ولا يستطيعوا الفرار. ولكنهم هزموا شر هزيمة، وطاردهم خالد إلى "المدار" في ميسان بين واسط والبصرة، قريبة من الثني وهو نهر متفرع من دجلة، وهزمهم وقتل منهم ما يقارب الثلاثين ألفاً.

وتقدم خالد إلى الولجة ـ وتقع بالقرب من ملتقى دجلة والفرات ـ وكان الفرس قد جمعوا بها جيشاً عظيماً من بكر بن وائل وغيرها من القبائل العربية الموالية لهم، بعد أن استبقى طائفة من جيشه في البلاد التي فتحها حماية لظهره. وهزم الفرس وتجمعت فلولهم في ناحية أليس ـ وهي بلدة في أول أرض العراق من ناحية البادية ـ فقتل منهم مقتلة عظيمة، وتم له فتح الحيرة، وصالح أهلها على الجزية. وتعد الحيرة مهمة بالنسبة للمسلمين لأنها عاصمة العراق العربي، وكان يحكمها المناذرة. وبعد فتحها جعلها خالد مركزاً لأعماله الحربية في العراق، حتى أسس المسلمون مدينتي الكوفة والبصرة فيما بعد. ثم سار إلى الأنبار غرب نهر الفرات، فحاصرها ثمانية أيام واضطر قائدها إلى التسليم والصلح. ومن هناك استغاث به عياض بن غنم الذي كان مُحاصراً دومة الجندل، وهي على طريق العراق، وهي أقرب بلاد الشام إلى المدينة المنورة، قريبة من تبوك. فلحق به خالد. فانتهز الفرس ومن والاهم غيابه فتجمعوا ثانية، فسار إليهم خالد بعد فراغه من دومة الجندل وقتل زعيميها أكيدر والجودي، وهزم المتجمعين وسار شمالاً في ضفة الفرات وعسكر بموضع يقال له القراض على الحدود السورية، وقد تجمع به الروم والفرس واستعانوا بقبيلة تغلب وبعض العرب الموالين للفرس وعبروا النهر وقابلوا جيش خالد واشتبكوا معه. وهزمهم خالد وقتل منهم عدداً كبيراً حتى اضطروا للانسحاب. وعاد خالد إلى الحيرة، وجاءه كتاب الصديق من هناك لنجدة المجاهدين في الشام.

وكان الخليفة قد اختار أربعة من كبار القواد، هم: أبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة وأمرهم بالذهاب لمحاربة الروم، ثم أمدهم بخالد وجعله عليهم أميراً. وكتب إلى أبي عبيدة: "أما بعد فإني وليت خالداً قتال العدو بالشام، فلا تخالفه، واسمع له، وأطع أمره، فإني لم أبعثه عليك ألا تكون عندي خيراً منه! ولكنني حسبت أن له فطنة في الحرب ليست لك. أراد الله بنا وبك خيراً".

وسار إليهم خالد سالكاً طريقاً صحراوية شاقة لم يسلكها أحد قبله فوصل في خمسة أيام، وخاض بهم معركة ضخمة في اليرموك انتهت بهزيمة الروم.

2. جمع القرآن

لما كانت موقعة اليمامة، قُتل كثير من القراء، فخاف عمر بن الخطاب أن يضيع القرآن بموت أهله، فأشار على الصديق بجمع القرآن. ويحكي زيد بن ثابت، الذي تولى المهمة قائلاً: "أرسل إلىّ أبو بكر لمقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بقراء القرآن في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قال أبو بكر فقلت: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله r. فقال عمر هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر. ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. (قال زيد) قال أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل لا نتهمك قد كنت تكتب الوحي لرسول الله r، فتتبع القرآن فاجمعه. قال زيد: فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علي مما كلفوني به من جمع القرآن. فتتبع القرآن يجمعه ووضع الصحف عند أبي بكر في حياته حتى توفاه الله، ثم عند عمر في حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر.

سابعاً: فضائله

من منزلة الصديق أن الرسول r، كان يدافع عنه ويغضب لغضبه. حدث ذلك مراراً، ومن ذلك قصته مع ربيعة بن كعب الأسلمي حيث اختلفا في نخلة، فقال له أبو بكر كلمة كرهها، وندم، وقال لربيعة ردَّ علي مثلها لتكون قصاصاً فأبى ربيعة. فشكاه أبو بكر للنبي r. قال ربيعة فرفع إلىَّ الرسول r، رأسه وقال يا ربيعة، ما لك وللصديق؟ فأخبرته. فقال r، أجل لا ترد عليه ولكن قل غفر الله لك يا أبا بكر!.

وقد شهد الرسول لأني بكر وعمر بكمال الإيمان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ r، ]قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ، قَالَ: فَآمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. قَالَ: وَأَخَذَ الذِّئْبُ شَاةً فَتَبِعَهَا الرَّاعِي، فَقَالَ الذِّئْبُ مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لاَ رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي، قَالَ: فَآمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَر[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 8605).

وهو أول من يدخل الجنة من أمة محمد، r، ويُدعى من أبواب الجنة كلها لأنه كان سبّاقاً إلى أصناف الخير، من صوم وصلاة وصدقة وغير ذلك حتى كان عمر يقول: ما سابقت أبا بكر إلى خير قط إلا سبقني إليه.

وأضاف إلى ذلك ورعه وخوفه من الله تعالى، فعن زيد بن أرقم أنه كان لأبي بكر مملوك يغل عليه فأتاه ليلة بطعام فتناول منه لقمة، فقال له المملوك مالك كنت تسألني كل ليلة، ولم تسألني الليلة؟ قال حملني على ذلك الجوع. من أين جئت بهذا! قال مررت بقوم رقيت لهم في الجاهلية فوعدوني، فلما أن كان اليوم، مررت بهم فإذا عرس لهم فأعطوني قال: إن كدت لتهلكني.

وأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ، وجعلت لا تخرج فقيل له إنها لا تخرج إلا بالماء، فدعا بطست من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها فقيل له يرحمك الله! كل هذا من أجل لقمة؟! قال لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله r يقول: ]لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ النَّارُ أَوْلَى بِهِ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 13919)، فخشيت أن ينبت من جسدي شيء بهذه اللقمة.

وكان الصحابة يعرفون له فضله، فكان عمر يعلو بالدرة (أي السوط) من يفضله على أبي بكر، وكان يقول: ليوم وليلة من أبي بكر خير من عمر وآل عمر، وبينما كان علي  يقضي في الكوفة ذات يوم إذ قال رجل: يا خير الناس اُنظر في أمري، فو الله ما رأيت أحداً هو خير منك. قال علي: قدموه؛ فقُدم. فقال له: هل رأيت رسول الله؟ r، قال لا، قال: هل رأيت أبا بكر وعمر، قال لا، قال لو أخبرتني أنك رأيت رسول الله، r، لضربت عنقك. ولو أخبرتني أنك رأيت أبا بكر وعمر لأوجعتك ضرباً.

ثامناً: أزواجه وذريته

تزوج في الجاهلية قتلمة بنت عبدالعزى، وولدت له عبدالله وأسماء واختلف في إسلامها.

وأم رومان اختلف في اسمها، فقيل زينب وقيل وعد بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس من كنانة، وهي والدة عبدالرحمن وعائشة، أسلمت وبايعت وهاجرت وتوفيت في حياة الرسول، r.

وتزوج أسماء بنت عميس أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين لأمها، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب وله منها ثلاثة من الولد. فلما قُتل جعفر تزوجها الصديق فولدت له محمداً، ثم مات عنها فتزوجها علي بن أبي طالب، فولدت له يحيى، أسلمت وهاجرت.

حبيبة: بنت خارجة بن زيد الخزرجية الأنصارية، تُوفي أبو بكر وهي حامل، فولدت له بعد وفاته أم كلثوم، وتزوجها بعده حبيب بن إساف.

وأما ذريته، فثلاثة أولاد وثلاث بنات:

1. عبدالله: مات في خلافة أبيه من جرح أصابه يوم الطائف.

2. عبدالرحمن: شهد بدراً وأُحداً مع المشركين، وأسلم في موقعة الحديبية، وشهد موقعة الجمل مع عائشة، وهو الذي أبى البيعة ليزيد بن معاوية وقال لهم: أجئتم بها هرقلية فوقية تبايعون لأبنائكم، كلما مات قيصر كان قيصر مكانه لا نفعل والله أبداً. فبعث له معاوية بمائة ألف درهم، فردها وأبى أن يأخذها، وقال: لا أبيع ديني بدنياي. وتُوفي سنة 53هـ.

3. محمد: ولد بذي الحليفة، وهو ميقات أهل المدينة المعروف اليوم بأبيار علي، لخمس ليال بقين من ذي القعدة، وأمه أسماء بنت عميس ولدته وهي ذاهبة إلى الحج في حجة الوداع. نشأ في حجر علي بن أبى طالب إذ تزوج أمه بعد وفاة الصديق، وكان معه يوم الجمل وشهد معه صفين، ولاه عثمان بن عفان على مصر، وأقره علي عليها، وقتل بها.

4. أسماء: ولدت قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة، تزوجها الزبير بن العوام وهاجرت وهي حامل بعبدالله فولدته بقباء، فكان أول مولود في الإسلام، ولها موقف شجاع مع الحجاج بن يوسف الثقفي لما صلب ولدها عبدالله بن الزبير. وكان مما قالته للحجاج: قد سمعت رسول الله، r ، يقول: يخرج من ثقيف كذاب ومبير (مُفْسِدٌ)، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فهو أنت. عاشت مائة سنة لم يسقط لها سن ولم ينكر لها عقل. وهي صاحبة المقولة المشهورة عندما ظل ابنها مصعباً مصلوباً معلقاً: "أما آن لهذا الفارس أن يترجل". كما قالت تحث ولدها على مناجزة الحجاج: "ماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها".

5. عائشة: أم المؤمنين ولدت بعد مبعث الرسول r بأربع سنين أو خمس. وكانت أحب نسائه إليه. وتُوفي في حجرها ودفن في حجرتها، وكانت فقيهة عالمة كريمة، توفيت في رمضان سنة 58هـ.

6. أم كلثوم: ولدت بعد وفاة أبيها، وتزوجها طلحة بن عبدالله، ولما قتل عنها تزوجها عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي ربيعة المخزومي، أخو عمر بن أبي ربيعة الشاعر.

تاسعاً: استخلافه عمر

قال الحسن البصري: "لما ثقل أبو بكر ـ أي أقعده المرض عن الحركة ـ  واستبان له من نفسه ـ أي أحس دنو أجله ـ جمع الناس إليه فقال: "إنه قد نزل بي ما قد ترون، ولا أظنني إلا ميتاً لما بي، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني كان أجدر ألاّ تختلفوا بعدي".

فقاموا في ذلك فلم يستقم لهم أمر، فرجعوا إليه فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال فأمهلوني حتى اُنظر لله ولدينه ولعباده. ثم إنه دعا بعد ذلك عبدالرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال له: وإن، فقال عبدالرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه.

ثم دعا عثمان فقال له مثل ذلك فقال: علمي به أن سريرته خير من علانيه، وأنه ليس فينا مثله، فقال له أبو بكر يرحمك الله، والله لو تركته ما عدوتك. (أي إن لم تصرْ الخلافة إليه لكانت لك).

ثم شاور سعيد بن زيد، وأسيد بن الحضير، وغيرهما من المهاجرين والأنصار فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك. يرضى للرضي ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى لنا منه.

وسمع بعض الصحابة بدخول عبدالرحمن وعثمان على أبي بكر وخلوتهما به، فدخلوا على أبي بكر فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد ترى غلظته، وهو إذا ولي أفظ وأغلظ؟ قال أبو بكر t اجلسوني، فلما جلس قال أبالله تخوفوني خاب من تزود من أمركم بظلم. أقول اللهم إني استخلفت على أهلِك خيرَ أهلك.

ثم اضجع ودعا بعثمان فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما دعا به أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إن استخلفت عليكم بعدي.

وأخذته غشية فذهب به قبل أن يسمي أحداً، فكتب عثمان t إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب.

ثم أفاق أبو بكر، فقال: اقرأ علي ما كتبت؛ فقرأ عليه ذكر عمر، فكبر أبو بكر، وقال: أراك خفت أن تذهب نفسي في غشيتي تلك فيختلف الناس، فجزاك الله عن الإسلام خيراً، والله إن كنت لها لأهلاً. ثم أمره أن يكتب تتمة الكتاب.

"فاسمعوا له وأطيعوا وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً (أي لم أقصر عن نصح وخير) فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والسلام عليكم ورحمة الله .

ثم أمره فخُتم الكتاب وخرج به مختوماً فقال للناس أتبايعون لمن في هذا الكتاب فقالوا نعم.

وفي رواية أن أبا بكر أشرف على الناس من كوّته فقال: أيها الناس إني قد عهدت عهداً، أفترضونه؟ فقال الناس رضينا يا خليفة رسول الله، ، فقام علي t فقال لا نرضى إلا أن يكون عمر. فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به ثم بايعوه.

عاشراً: من أقواله المأثورة

كان t صموتاً قليل الحديث، وروي أن له حصاة كان يضعها في فيه خوفاً من فلتات اللسان، ويأخذ بلسانه ويقول هذا الذي أوردني الموارد، ولذا لم يُروَ له في كتب الأحاديث غير اثنين وأربعين حديثاً، ومن مأثور كلامه:

1. احرص على الموت توهب لك الحياة.

2. إياكم والكذب فإن الكذب مجانب للإيمان.

3. أكيس الكَيِسْ التقوى، وأحمق الحُمِقْ الفجور، وأصدق الصدق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة.

4. الحب والبغض يتوارثان.

5. إن البلاء موكل بالمنطق.

6. ثلاث من كن فيه كن عليه: البغي، والنكث، والمكر.

7. إني لأبغض أهل البيت ينفقون رزق الأيام في اليوم.

8. لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة. لعله t يريد الخير والشر في مفهوم الناس كما قال تعالى: ]كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون[ (سورة البقرة: الآية 216).

9. صنائع المعروف تقي مصارع السوء.

10. الموت أهون مما بعده، وأشد مما قبله.

11. ثلاث من كن فيه كان من خيار عباد الله: من فرح بالتائب، واستغفر للمذنب، وأعان المحسن.

12. إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق.

13. إن الله قرن وعده بوعيد ليكون العبد راغباً راهباً.

14. قال له رجل: لأسبنك سباً يدخل معك قبرك، قال: معك والله يدخل لا معي. (يريد الرجل: يفضحك ويلازمك حتى الممات، ويريد أبو بكر: أنه يدخل مع السبَّاب لأنه يعاقب به ويؤاخذ به).

15. ونظر إلى رجل يبيع ثوباً فقال له: أتبيع الثوب؟ قال لا، عافاك الله، قال: لقد علمتم لو تتعلمون قل: لا، وعافاك الله. كأن قوله لا عافاك الله دعاء عليه بعدم المعافاة، أما إذا فصل بالواو بين حرف الجواب والدعاء فيكون المعنى: لا أبيعه وأسأل الله لك المعافاة.

16. وقضى بعاصم بن عمر، لأم عاصم لمّا طلّقها عمر بن الخطاب. وقال لعمر: ريحُها وشمُها ولطُفها خير له منك. يريد أن الأم أحسن رعاية وألطف بولدها الصغير من أبيه، ولذا إذا انفصل الزوجان فالطفل الصغير يكون مع أمه.

حادي عشر: وفاة أبي بكر

لمّا كانت معركة اليرموك تدور رحاها، جاء نعي الصديق، وقد تُوفي  لثماني ليالٍ بقين من جمادى الآخرة سنة 13هـ. قيل إنه اغتسل في يوم بارد، فحمَّ خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى الصلاة، فأمر عمر أن يصلي بالناس. وقيل له في مرضه ألا ندعو لك الطبيب! قال: قد نظر إليَّ الطبيب فقال لي: إني أفعل ما أريد، يعني الله تبارك وتعالى. وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس وابنه عبدالرحمن ويكفن في ثوبيه ويشترى معهما ثوب ثالث، وصلى عليه عمر، ودفن في حجرة عائشة، وجُعل رأسه عند كتفي النبي r والصقوا لحده بلحد النبي r.

وقال زياد بن حنظلة: "كان سبب موت أبي بكر الكمد ـ أي الحزن ـ على رسول الله r، ومثله قال عبدالله بن عمر.



[1] عقرباء: منزل أطراف اليمامة خرج إليها مسيلمة بجيوشه لما علم بمسير خالد بن الوليد.