إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الخلفاء الراشدون









مقدمة

المبحث الثاني

عمر بن الخطاب  t

أولاً: اسمه ونسبه

عمر بن الخطاب بن نفيل بني عدي بن كعب من بني لؤي. يجتمع بالنبي r في جده السابع كعب بن لؤي، وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة، بنت عم أبي جهل وقيل أخته. ولد بعد حرب الفجار بأربع سنين، وبعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، فيكون عمره يوم أسلم ست وعشرون سنة.

كان أبوه من أشراف قومه، شديداً فظاً في معاملته، فنشّأه تنشئة جدِّ وصرامة، وعلمه القراءة والكتابة والفروسية؛ ولما بلغ العشرين من عمره، رأت قريش فيه مخايل النبل والفضل والعقل فقلدته مهمة "السفارة" للإصلاح بين القبائل، والتوسط في الخصومات التي تقع بينها وبين الآخرين، ينافر عنهم (أي يخاصم عنهم) ويفاخر. وكان يعمل بالتجارة مع قوافل قريش في رحلتي الشتاء والصيف.

ثانياً: صفته وإسلامه

كان t مشرباً بحمرة، حسن الخدين والأنف والعينين، غليظ القدمين والكفين، جلداً، قوياً ضخم الجثة طويلاً يمشي مع الناس كأنه راكب على دابة، إذا مشى وطئ الأرض وطئاً شديداً، جهوري الصوت. رأت الشفاء بنت عبدالله فتياناً يقصدون في المشي ويتكلمون رويداً فقالت: ما هذا؟ قالوا: نسّاك! فقالت: كان والله عمر إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو الناسك حقاً. وكان أعسر يَسَر يعمل بكلتا يديه، أصلع شديد الصلع.

كان عمر t في جاهليته شديداً على المسلمين متعصباً لدينه يعذب المستضعفين، ومنهم لبيبة جارية بني المؤمل حتى اشتراها أبو بكر الصديق t فأعتقها، وقد تعدى على أخته وزوجها، وكان يرى في الإسلام تغيراً للنظم السائدة، وإفساداً لها، فأراد أن يقتل النبي r، ولكنه سمع القرآن فأثر في قلبه، سمعه من النبي ذات يوم وهو يصلي في الكعبة وسمعه في دار أخته. خرج ذات يوم متوشحاً سيفه، فلقيه نعيم بن عبدالله النحام فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمداً، هذا الصابئ[1] الذي فرَّق أمر قريش، وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسبّ آلهتها؛ فأقتله.

فقال نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر؛ أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟! ثم يضيف أفلا ترجع إلى بيتك فتقيم أمرهم؟!

قال: ومن أهل بيتي؟ قال ختنك، وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة فقد ـ والله ـ أسلما وتبعا محمداً على دينه.

فرجع عمر إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت، ومعه صحيفة فيها سورة (طه) يُقرئهما إياها. فضرب أخته على وجهها حتى سال دمها وبطش بزوجها، فرق لها وطلب منها الصحيفة، فأبت عليه حتى يغتسل ففعل وقرأ حتى بلغ قول الله تعالى:] إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [(سورة طه: الآية 14)، فقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه. فلما سمع ذلك خباب خرج ـ وكان مختبئاً ـ وقال له: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه r، فإني سمعته أمس يقول: ]اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ ‏‏بِأَبِي جَهْلٍ ‏أَوْ ‏بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ‏قَالَ وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ ‏عُمَرُ[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 3614). ثم جاء عمر بعد ذلك إلى دار الأرقم، وأعلن إسلامه.

بدأت قوة عمر وصلابته منذ اللحظة الأولى، وكان قد أسلم قبله تسعة وثلاثون رجلاً وبضع عشرة امرأة. وسماه  "الفاروق" لأنه قال للنبي r: يا رسول الله ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: ففيم الاختفاء؟ فخرجوا في صفين، عمر في واحد وحمزة في الثاني. فقال r: ]إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 8846)، وهو الفاروق فرق الله به بين الحق والباطل، واستبشر أهل السماء بإسلامه.

ولمّا أسلم عمر تحولت شدته على المشركين، فكان شديداً للإسلام حتى قال فيه الرسول r: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر . وتتبين شدته في عدد من المواقف، منها موقفه من أسرى بدر عندما استشار الرسول، r، أصحابه في الأسرى. فقال أبو بكر هم بنو العم والعشيرة، فاقبل منهم الفداء عسى أن يكونوا عوناً للإسلام، وكان رأي عمر أن يقتلوا، وقال: "حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين". فمال الرسول، إلى رأي أبي بكر، فنزل القرآن برأي عمر. وقال له الرسول r: مثلك يا عمر كمثل نوح قال: ]رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا[ (سورة نوح: الآية 26) وإن مثلك يا أبا بكر كمثل موسى قال: ]رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ[ (سورة يونس: الآية 88)

ولما جاء أبو سفيان إلى النبي، r، يردفه العباس على راحلته، وذلك على مشارف مكة، قال عمر لرسول الله r: هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني لأضرب عنقه ؟ وما قال ذلك إلا لما يعلم من عداوة أبي سفيان للدين سنين طويلة.

وكانت له هيبة شديدة في قلوب الناس، وفي حضرة الرسول، r. قال سعد بن أبي وقاص: ]اسْتَأْذَنَ ‏‏عُمَرُ ‏عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r‏ ‏وَعِنْدَهُ ‏نِسَاءٌ ‏‏مِنْ ‏قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ ‏عُمَرُ ‏قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r‏ ‏وَرَسُولُ اللَّهِ‏ ‏r‏ ‏يَضْحَكُ فَقَالَ‏ ‏عُمَرُ‏ ‏أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ‏عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاءِ اللاتِي كُنَّ عِنْدِي فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ قَالَ ‏عُمَرُ ‏ ‏فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ يَهَبْنَ ثُمَّ قَالَ أَيْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ‏ r‏ ‏قُلْنَ نَعَمْ أَنْتَ ‏‏أَفَظُّ ‏‏وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ‏ r‏ ‏قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏r‏ ‏وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا ‏فَجًّا‏ ‏إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا ‏غَيْرَ‏ فَجّكِ[2][ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 3051).

ثالثاً: هجرته ونصرته لرسول الله في المدينة

يروي علي بن أبي طالب t خبر هجرة عمر، فيقول: "ما علمت أحداً من المهاجرين إلا هاجر متخفياً إلا عمر بن الخطاب، فإنه لمّا همّ بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه[3]، وانتضى سهمه[4]، واختصر عنزته[5] ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً متمكناً، وقال لهم: شاهت[6] الوجوه لا يرغم الله إلا هذه المعاطس[7]، من أراد أن تثكله أمه، ويؤتم ـ أي يصبح يتيماً ـ ولده، وتَرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي. فما تبعه أحد.

وكان الرجل الثاني بعد أبي بكر من الرسول r، وكان كثيراً ما يُسمع الرسول r يقول: "دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر. وكان شديداً على المنافقين واليهود وأعداء الدين، وهو من ضمن النفر الذين ثبتوا يوم أحد، وهو الذي أجاب أبا سفيان لما قال: اعل هبل، "الله أعلى وأجل"، فقال أبو سفيان: "يوم بيوم والأيام دول، والحرب سجال"، فقال عمر لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، قال أبو سفيان: "لنا العزى ولا عزى لكم" فقال عمر: "الله مولانا ولا مولى لكم".

وتزوج الرسول، r، ابنته حفصة بعد غزوة أحد، بعد أن ترملت بوفاة زوجها حنيس بن حذافة السهمي.

ولمّا قُبض رسول الله r، وولي الصديق، كان عمر خير وزير له، يعينه ويبذل له النصح، وكان الصديق يصدر عن رأيه كثيراً، فإن وافق على أمر أمضاه وإلا فلا. من ذلك أن عُيَيْنَة بن حصن والأقرع بن حابس قدما إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله، إن عندنا أرضاً سنجة (أي مالحة) ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعنا الأرض لعلّنا نحرثها أو نزرعها، فلعلّ الله أن ينفع بها بعد اليوم. فاستشار أبو بكر من حوله، فوافقوا وأقطعها إياهما، وكتب لهما كتاباً بذلك وقال لهما: اشهدا عليه عمر، فانطلقا إليه يشهدانه، فوجداه يهنأ بعيراً له (أي يطليه بالقطران)، فقالا: إن أبا بكر قال أشهد بما في هذا الكتاب، فقرأ، فأخذه منهما وقال لهما: إن رسول الله  كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام، فاذهبا فاجهدا جهدكما. فاقبلا على أبي بكر يتذمران وقالا: والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر؟ فقال الصديق لا بل هو لو شاء كان. ثم جاء عمر وهو مغضب، فقال: أخبرني عن الأرض التي أقطعتها هذين، ألك أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين، قال: فما حملك على أن تخص بها هذين؟ قال قد استشرت من حولي فأشاروا عليَّ بذلك، قال: فكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضا؟ فقال أبو بكر: قد كنت قلت لك إنك أقوى على هذا الأمر مني، ولكنك غلبتني.

هذه القصة تدل على مكانته عند أبي بكر، الذي يعرف فضله وقوته، وكان يعهد إليه بالقضاء بين المسلمين، ثم ختم ذلك بأن عهد إليه بالخلافة من بعده.

رابعاً: المواقف التي وافق فيها رأيه القرآن

عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي، r، قال: ]إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأمَمِ مُحَدَّثُونَ وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 3210). وفي الحديث الآخر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: ]لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 3619).

1. ومن أشهر المواقف التي وافق فيها القرآنُ رأيه مسألة أسرى بدر، فإنه أشار بضرب أعناقهم وأشار الصديق بالفداء، فمال النبي r إلى رأي أبي بكر، وقال للمسلمين: أنتم اليوم عالة، فلا يفلتن منهم أحد، إلا بفداء أو ضرب عنق. ويحدث عمر عن هذا الموقف فيقول: ]فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنْ الْغَدِ ‏غَدَوْتُ‏ ‏إِلَى النَّبِيِّ r‏ ‏فَإِذَا هُوَ قَاعِدٌ ‏‏وَأَبُو بَكْرٍ t‏ ‏وَإِذَا هُمَا يَبْكِيَانِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا يُبْكِيكَ أَنْتَ وَصَاحِبَكَ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ r‏ ‏الَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ الْفِدَاءِ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ ‏‏أَدْنَى ‏مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 203)، وأنزل الله في ذلك: ]مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[ (سورة الأنفال: الآية 67)، قوله تعالى: ]حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْض[، أي يبالغ في قتل المشركين، وقوله: ]تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا[ أي تريدون أيها المؤمنون أخذ الفداء، وهذا عرض الدنيا". فالله سبحانه وتعالى يعاتب المؤمنين: فلولا أنه قدَّر إحلال الغنائم لكم، وأنه لا يعاقب مجتهداً بخطأ، لعوقبتم في أخذ الغنائم.

عندما مات عبدالله بن أُبي، رأس النفاق، قام النبي r ليصلي عليه، فقام عمر يذكره مواقفه، ويثنيه عن الصلاة عليه، ولكن النبي r صلى عليه إكراماً لولده عبدالله. فنزلت الآية: ]وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ[ (سورة التوبة: الآية 84).

2. ويروي عمر عن نفسه "وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: ]وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى[ (سورة البقرة: الآية 125). وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب: ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ[ (سورة الأحزاب: الآية 59). واجتمع نساء النبي r في الغيرة عليه، فنزل قول الله تعالى: ]عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا[ (سورة التحريم: الآية 5). فضلاً عن رأيه في أسرى بدر، وفي الصلاة على عبدالله بن أبي".

خامساً: خلافته

لما بويع عمر بعد وفاة أبي بكر، صعد عمر المنبر درجة دون الدرجة التي كان يقوم عليها أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، وذكر أبا بكر بخير، ثم قال: "أيها الناس إني رجل منكم، ولولا أني كرهت أن أرد أمر خليفة رسول الله، r، ما تقلدت أمركم! ثم قال إني داع فأمنوا: "اللهم إني غليظ فلينِّي، اللهم إني ضعيف فقوني، اللهم إني بخيل فسخٍّني" ثم أكمل خطبته.

وضع عمر الخطوط العريضة لسياسته في كلمات مضيئة: "إن الشدة تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، واللين لأهل السلامة والدين. لست أدع أحداً يَظْلِم أحداً أو يتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على خده الآخر حتى يذعن للحق، ثم إني أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف".

وبيّن سياسته المالية، حين قال إنه لا يأخذ شيئاً إلا من وجهه المشروع، ولا ينفقه إلا في وجهه المشروع، ويزيد في عطايا الناس وأرزاقهم، ويقوم بأمر عيال من يغيب في السّرايا والحروب. ثم طلب من الناس أن يراقبوا سيرته وينصحوه.

ويفعل، عمرُ t ما يقول، ويطبق السياسة التي اختطها لنفسه كما قال: "لست معلمكم إلا بالعمل". فكان خير قدوة لولاته، وللناس. فمنذ أن ولي الخلافة كان طعامه أبعد ما يكون عن الطعام الهنيء المريء، بل يأكل الخشن، ولا يجمع إدامين في طعام واحد (الإدام ما يؤكل به الخبز، أي شيء كان)، وكان زائروه، لا سيما الولاة يتحاشون طعامه، وكان يقول لنحن أعلم بطيب الطعام من كثير من آكليه، ولكن ندعه ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت.

وكان يحرّم على نفسه كل طعام لا يسع المسلمين، من ذلك لما قدم عتبة بن فرقد أذربيجان، أكل الخبيص، وهو نوع من الحلوى تصنع من التمر والسمن. فلما وجده حلواً صنع منه سفطين[8] عظيمين وأرسلهما إلى عمر في المدينة، فلما تذوقه عمر، سأل الرسول: أكل المسلمين يشبعون من هذا في رحالهم؟ قال الرسول: لا، قال عمر: أما لا فارددهما، وكتب إلى عتبة إنه ليس من كدك ولا كد أمك، أشبع الناس مما تشبع منه في رحلك!!

وكان يُلْزِم أهله بذلك ويحذرهم. اشتهت زوجه الحلوى ذات يوم فاعتذر بضيق ذات يده، ونصحها بالتزام القناعة. وكانت زوجه ورعة مثله، فذكرت أنها لن تأخذ من بيت المال شيئاً، ولكنها تدخر كل يوم جزءاً مما يجري عليها من بيت المال حتى إذا اجتمع عندها ثمن الحلوى اشترتها. وعادت بعد أيام ومعها دريهمات ادخرتها، فأنكر عليها عمر وقال: "رديه لبيت المال". وقد صور حافظ إبراهيم ذلك في عمريته الرائعة:

يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها                      من أين لي ثمن الحلوى فأشريها

لا تمتطي شهوات النفس جامحـة                       فكسرة الخبز عن حلواك تجزيها

وهل يفي بيت مال المسلمين بمـا                       توحي إليك إذا طاوعت موحيها

قالـت لك الله إني لســت أرزؤه                      مالاً لحاجة نفس كنت أبغيهــا

لكن أجنب شيئاً من وظيفتنـــا                        في كل يوم على حالٍ أسوَّيهـا

حتى إذا ما ملكنا ما يكافئهـــا                        شــريتها ثم إني لا أُثنيهــا

قال اذهبي واعلمي إن كنت جاهلة                       إن القناعة تغني نفس كاسيهـا

وأقبلت بعد خمس وهي حاملــة                       دريهمات لتقضي من تشهيهـا

فقال نبهت مني غافلاً فدعـــي                       هذي الدراهم إذ لا حق لي فيها

ما زاد عن قوتنا فالمسلمون بـه                        أولى فقومي لبيت المال رديهـا

وكذلك كان لبسه المرقع من الثياب، ولا يأخذ من بيت المال إلا حلتين، واحدة للشتاء وأخرى للصيف. وكان يقترض من بيت المال فإذا حل الأجل أتاه صاحب بيت المال يتقاضاه ويشدد عليه، ومات وعليه ستة وثمانون ألف درهم ديناً أداها عنه عبدالله ابنه. وضرب أروع المثل في عام الرمادة إذ ترك السمن واللبن حين أمحل الناس، وأكل الزيت حتى اسود لونه، وكان يحمل الطعام إلى الجوعى في محالهم فيطعمهم.

وكان شديد الاهتمام بأمور الناس، يطوف من الليل يحرس ويتتبع الأخبار، ويقضي حوائج المحتاجين، وله قصص كثيرة في طوافه بالليل، يتّخذ منها أسباباً للإصلاح الاجتماعي، وإيصال الحقوق إلى مستحقيها، ورفع الضر والظلم عن الرعية. من ذلك أنه خرج يطوف المدينة ذات ليلة، فمرّ بامرأة مغلقة عليها بابها وهي تقول:

تطاول هذا الليل تسري كواكبه                          وأرقني أن لا خليل ألاعبـــه

ألاعبه طوراً وطوراً كأنمـــا                        بدا قمر في ظلمة الليل حاجبـه

يُسرُّ به من كان يلهو بقربــه                          لطيف الحشا لا تجتويه أقاربـه

فو الله لولا الله لا شيء غــيره                        لحرك من هذا السرير جوانبـه

ولكنني أخشى رقيباً موكـــلاً                        بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبــه

فقال عمر t "أوه"، ثم خرج حتى دخل على حفصة، أم المؤمنين رضي الله عنها، فقالت: يا أمير المؤمنين ما جاء بك في هذا الوقت؟ فقال: أي بنيه كم تحتاج المرأة إلى زوجها؟ فقالت في ستة أشهر. فكان لا يُغزي جيشاً أكثر من ستة أشهر. وفي رواية أنها قالت أربعة أشهر.

وبينما عمر يطوف بالمدينة، فإذا بامرأة تقول

هل من سبيل إلى خمر فأشربها                         أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج

إلى فتى ماجد الأعراف مقتبـل                         سهل المحيا كريم غير ملجاج[9]

فلما أصبح سأل عنه، فإذا هو من بني سليم فأرسل إليه، فإذا هو أصبح الناس وجهاً وأحسنهم شَعْراً، فجز شعره فازداد حسناً، فأمر أن يلبس العمامة ففعل فزاد حسناً. فقال عمر لا تساكنني في بلد أنا فيه، فأمر له بما يصلحه، وسيّره إلى البصرة، فخشيت المرأة أن يصيبها مكروه من عمر فأرسلت إليه:

قل للإمام الذي تخشى بـوادره                          مالي وللخمر أو نصر بن حجـاج

إني عنيت أبا حفص بغيرهمـا                          شرب الحليب وطرف فاتر ساجي

إن الهوى زمَّه التقوى فقيده                             حتى أقرَّ بإلجام وإســــراج

فبعث إليها عمر، قد بلغني عنك خير، إني لم أخرجه من أجلك ولكن بلغني أنه يدخل على النساء فلست أمنهن، وبكى عمر وقال: الحمد لله الذي قيد الهوى، وقد أقر بإلجام وإسراج. كان عمر بن الخطاب، t رحيماً بالمؤمنين رؤوفاً بهم، يتفقد حاجاتهم بنفسه، ويرى أن هذه مسئولية ولي الأمر.

قدمت رفقة من التجار المدينة فنزلوا المصلَّى، فقال عمر، لـ عبدالرحمن بن عوف: هل لك أن تحرسهم الليلة من السُّراق؟!! فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه فقال لأمه: "اتقي الله واحسني إلى صبيّك" ثم عاد إلى مكانه، فلما كان آخر الليل سمع بكاءه فقال: "ويحك إني لأراك أم سوء. ما لي أرى ابنك لا يقرُّ منذ الليلة؟ فقالت: "يا عبدالله أبرمتني إني أريده على الفطام فيأبى علي". فقال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم. فقال: وكم له؟ فقالت: كذا وكذا شهراً. فقال: ويحك لا تعُجليه". فصلى الصبح وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء، فلما سلّم قال: "يا بؤساً لعمر! كم قتل من أولاد المسلمين؟" ثم أمر منادياً فنادى: "أن لا تعجلوا صبيانكم على الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام".

وروى عنه غلامه أسلم قال: "خرجنا مع عمر بن الخطاب، t إلى ناحية من نواحي المدينة حتى إذا كنا بِصرار[10] إذ نار، فقال: يا أسلم إني لأرى ركباً قد ضربهم الليل والبرد. انطلق بنا؛ فخرجنا نهرول حتى دنونا بُعْدٍ منهم، فإذا امرأة معها صبيان صغار وقدر منصوبة على النار وصبيانها يتضاغون. فقال: "السلام عليكم يا أصحاب الضوء. وكره أن يقول: يا أصحاب النار، فقالت: وعليك السلام. فقال: أأدنو؟ فقالت: ادن بخير أو دع. فدنا وقال: ما بالكم؟ فقالت: قد ضربنا البرد والليل! فقال وما بال الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع. قال: وأي شيء في هذا القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر، قال: أي رحمك الله، وما يدري بكم عمر؟ قالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا!! فأقبل عمر على غلامه أسلم فقال: انطلق بنا، فانطلقنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق، وكبة من شحم، فقال: احمله عليَّ! فقلت: أنا أحمله عنك، فقال: أأنت تحمل وزري يوم القيامة، لا أم لك! فحملته عليه وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها. وأخرج من الدقيق شيئاً فجعل يقول: ذرِّي عليّ وأنا أحرك لك. وجعل ينفخ تحت القدر ثم أنزلها، فقال: أبْغيني شيئاً، فأتته بصفحة ـ إناء ـ فأفرغها فيها ثم جعل يقول لها: أعطيهم وأنا أسطح (أي أجعله مسطحاً حتى يبرد) لهم، فلم يزل حتى شبعوا، وترك عندها فضلاً (أي بقية من الطعام)، وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً. كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين. فيقول: قولي خيراً! إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاء الله. ثم تنحى عنها ناحية، وجعل يرقب الصبية حتى ناموا".

ومن مواقفه المشهورة في سنة 17 هـ، أراد عمر أن يزور الشام للمرة الثانية فخرج إليها ومعه المهاجرون والأنصار حتى إذا نزل يسرع على حدود الحجاز والشام، لقيه أمراء الأجناد فأخبره أن الأرض سقيمة وكان الطاعون بالشام. فقال عمر لابن عباس، اجمعوا لي المهاجرين الأولين، قال: فجمعتهم فاستشارهم فاختلفوا عليه، فمنهم القائل خرجت لوجه تريد فيه الله وما عنده، ولا نرى أن يصدك عنه بلاء عرض لك. ومنهم القائل: إنه لبلاء وفناء ما نرى أن تقدم عليه. فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عني، ثم قال لابن عباس اجمع لي مهاجرة الأنصار. فجمعهم له، فاستشارهم فسلكوا طريق المهاجرين فكأنما سمعوا ما قالوا فقالوا مثله. فلما اختلفوا عليه قال قوموا عني. ثم قال: اجمع لي مهاجرة الفتح من قريش، فجمعهم له فاستشارهم فلم يختلف عليه منهم اثنان وقالوا ارجع بالناس فإنه بلاء وفناء. فقال عمر لـ ابن عباس اصرخ في الناس فقل إن أمير المؤمنين مصبح على ظهر، وأصبحوا عليه فلما اجتمعوا قال: أيها الناس إني راجع فارجعوا. فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله؟ قال: نعم فراراً من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو أن رجلاً هبط وادياً له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس يرعى من رعى الجدبة بقدر الله ويرعى من رعى الخصبة بقدر الله؟ لو غيرك هذا يا أبا عبيدة. ثم خلا به بناحية دون الناس، فبينما الناس على ذلك إذ أتى عبدالرحمن بن عوف وكان متخلفاً عن الناس لم يشهدهم بالأمس. فلمّا أُخبر الخبر قال: عندي من هذا علم، قال عمر: فأنت عندنا الأمين المصدق، فماذا عندك؟ قال: سمعت رسول الله r يقول: "إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فراراً منه لا يخرجنكم إلا ذلك" فقال عمر: لله الحمد، انصرفوا أيها الناس. فانصرفوا.

ودلالة هذه القصة أنها تُشف عن فهم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب لمفهوم القدر، وأنه لا يعني إلقاء النفس في التهلكة، وأن سلوك المسلم سبيل السلامة النجاة أمر فطري ومقدم على وروده موارد التهلكة. كما تدل القصة على عناية عمر بالاستشارة والنصح والاستماع لمختلف الأراء، ثم بعد ذلك يتخذ قراراه في شجاعة وحسم، غير متردد ولا هائب، فضلاً عن أن القصة توضح أن الرسول الكريم r علمّ الناس مفهوم ما يُسمى اليوم "الحجر الصحي" عند وقوع الأوبئة أو الأمراض المُعدية.

1. عمر والولاة

وضع عمر أسساً لاختيار الولاة ومحاسبتهم، فرفض أول شيء تعيين كبار الصحابة في الولايات، أمثال علي وعثمان وطلحة وأضرابهم. وكان يعلل ذلك بقوله "أكره أن أدنسهم (أي الانشغال في الدنيا) بالعمل". وكان يحجزهم بالمدينة لأسباب، منها أن يعينوه في الاجتهاد ويقدموا له النصح لكونهم أبعد الناس عن زخارف الدنيا، وكان يخشى أن يفتتن بهم الناس في الأمصار لصحبتهم لرسول الله r وسابق جهادهم.

وكان يريد في الوالي أن يكون قوياً، فقد عزل شرحبيل بن حسنة، وولى معاوية بن أبي سفيان، وقال له: أريد رجلاً أقوى من رجل. ويكون ذا هيبة مع التواضع، وإذا كان في القوم وليس أميرهم، كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم. وكان يطلب من الوالي أن يكون رحيماً بالناس، استدعى رجلاً ليكتب له عهد الولاية، وبينما الكاتب يكتب جاء صبي من أولاد عمر، فجلس في حجر الخليفة فلاطفه وقبله. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، لي عشرة من الولد مثله ما دنا أحد منهم مني. فقال عمر: فما ذنبي إن كان الله عز وجل نزع من قلبك الرحمة. وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، ثم أمر بكتابه فمُزق وقال: "إذا لم يرحم أولاده، فكيف يرحم الرعية".

وكان يحاسب الولاة حساباً شديداً، ولم ينج من تلك المحاسبة أشهر الولاة بالتقوى، والشجاعة كسعد ابن أبي وقاص، وأبي هريرة، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، الذي انتهت محاسبته بعزله عن قيادة جيش المسلمين. وكان يجري تلك المحاسبة في موسم الحج.

جاءه رجل فقال يا أمير المؤمنين إن عاملك فلاناً ضربني مائة سوط فقال عمر للرجل: "قم فاقتص من أميرك، فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، إنك إن فعلت هذا يكون سنة يأخذ بها من بعدك قال عمر: لقد رأيت رسول الله r يقتص من نفسه، قال عمرو: يا أمير المؤمنين دعنا فلنرضه قال عمر: دونكم الرجل فأرضوه" فاجتمع الأمراء على الشاكي، فما زالوا به حتى قبل من ضاربه مائتي دينار، كيلا يقتص منه.

وقصة عمرو بن العاص مع المصري مشهورة، وقد أرست أصولاً كثيرة في شؤون الولاة. فقد جاء المصري يشتكي ابن عمرو بن العاص فقال: "يا أمير المؤمنين هذا مقام العائذ بك. قال وما لك؟ قال أجرى عمرو بن العاص بمصر الخيل فجاءت فرسي سابقة، فلما رآها الناس قام محمد بن عمرو فقال فرسي ورب الكعبة. فلما دنا مني عرفته فقلت له فرسي ورب الكعبة. فقام إلي يضربني بالسوط ويقول: خذها وأنا ابن الأكرمين".

قال الراوي، وهو أنس بن مالك، فو الله ما زاد عمر أن قال: اجلس. ثم كتب إلى عمرو: إذا جاءك كتابي هذا فأقبل بابنك محمد. قال: فدعا عمرو ابنه، فقال: أحدثت حدثاً؟ أجنيت جناية؟ فما لعمر يكتب فيك؟ قال: ثم قدم على عمر.

قال أنس: فو الله إنّا عند عمر حتى إذا نحن بعمرو قد أقبل في إزار ورداء، فجعل عمر يلتفت هل يرى ابنه. فإذا هو خلف أبيه فقال: "أين المصري؟ فقال هاأنذا. قال: دونك الدرة فاضرب بها ابن الأكرمين. قال: فضربه حتى أثخنه، ثم قال عمر: اجعلها على صلعة عمرو فو الله ما ضربك إلا بفضل سلطانه. فقال ـ (المصري) ـ يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني. قال: أما والله لو ضربته ما حُلنا بينك وبينه. يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" .

وكانت لعمر،  طبيعة موهوبة للجندي الممتاز، فاجتمع لديه ـ بعد تجارب طويلة للحرب بعد إسلامه ـ الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، فأصبح قائداً مثالياً؛ وقد ولاه الرسول، r، قيادة سرية من المسلمين سنة سبع للهجرة ووجهه إلى هوازن، فكان يسير بالليل ويكمن بالنهار، فأتى الخبر هوازن فهربوا. وجاء عمر محالهم، فلم يلق أحداً، فانصرف راجعاً إلى المدينة. فلما كان بمحل بينه وبين المدينة ستة أميال قال له الدليل: هل لك في جمع آخر من خثعم؟ فقال عمر: "لم يأمرني رسول الله، r، بهم، إنما أمرني بقتال هوازن". يقول اللواء الركن محمود شيث خطاب: هذه السرية تدلنا على ثلاث نتائج عسكرية:

أ. الأولى: أن عمر أصبح مؤهلاً للقيادة، إذ لولا ذلك لما ولاه النبي r ، قيادة سرية تتجه إلى قبيلة من أقوى القبائل العربية.

ب. الثانية: أن عمر كان يَكْمن نهاراً ويسير ليلاً، مشبعاً بمبدأ المباغتة، أهم مبادئ الحرب على الإطلاق، مما جعله يباغت عدوه ويجبره على الفرار.

ج. الثالثة: أن عمر ينفِّذ أوامر القائد الأعلى نصاً وروحاً، ولا يحيد عنها، وهذا هو روح الانضباط العسكري، روح الجندية في كل زمان ومكان.

وتظهر عقلية عمر العسكرية والقيادية في رسالة بعث بها إلى سعد بن أبي وقاص، وهي رسالة مهمة لأنها توضح الفرق بين عمر القائد الإستراتيجي، وخالد بن الوليد أو سعد بن أبي وقاص أو عمرو بن العاص أو غيرهم، من القادة العسكريين. فعمر هنا قائد إستراتيجي "أمير المؤمنين" يخطط للفتوحات، ويختار لكل جيش قائده، ويختار توقيت كل معركة من المعارك، ويوجه ويصدر الأوامر، أي أنه يمارس العمل الإستراتيجي ويزن الأمور السياسية والعسكرية والاقتصادية، ويعطي قراره النهائي. أما القادة الآخرون، كخالد وعمرو، فهم قادة تكتيكيون، أي أن عملهم في الميدان، وفنهم وعبقريتهم في ميدان القتال فقط. كما تكشف الرسالة رؤية عمر القيادية في قوله: ترفق بالمسلمين في مسيرهم، ولا تجشمهم مسيراً يتعبهم، ولا تقعد بهم عن منزل رفق حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم، وأقم بمن معك في كل جمعة يوماً حتى تكون لهم راحة يجمعون فيها أنفسهم، ويرقون أسلحتهم وأمتعتهم "أي يصلحونها".

وإذا وطئت أدنى أرض للعدو فاجعل العيون بينك وبينهم، حتى لا يخفى عليك أمرهم، وخذ لهذا من تأمن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدق في بعضه، والغاش عين عليك لا عين لك.

وإذا دنوت من أرض العدو فأكثر الطلائع وبث السرايا. أما السرايا فتقطع إمداداتهم ومرافقهم. أما الطلائع فتعرف أخبارهم، وانتق للطلائع أهل الرأي من أصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل. واجعل السرايا إلى أهل الجهاد والصبر على الجهاد، ولا تخص أحداً بهوى فيضيع من رأيك وأمرك أكثر مما تحابي به أهل خاصتك. ولا تبعث طليعة ولا سرية في وجه، تتخوف فيه ضيعة ونكاية، فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك".

وكتب إليه مرة أخرى يقول:"بلغني أنه فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها، فإياك أن تكون بمنزلة البهيمة التي مرت بواد أخضر فلم يكن لها هم إلا السمنة. وإنما حتفها في السمنة".

2. الفتوحات في عهده

أ. جبهة العراق وفارس

لمّا ولِىّ عمر بن الخطاب كانت الاضطرابات تزداد في العراق، بعد توجه خالد منها إلى الشام. وكان على القوات بالعراق المثنى بن حارثة، الذي طلب العون من الخليفة فأمده بأبي عبيد بن مسعود، وخاض المسلمون ثلاث معارك ضخمة قبل القادسية، هي: النمارق، وانتصر فيها المسلمون، وجمع الفرس فلولهم لمعركة الجسر، وبعث عمر بالإمدادات العسكرية إلى المثنى، فخاف الفرس من وصولها فاجتمعوا ووضعوا قيادتهم في يد مهران الهمذاني، وجمع المثنى قواته في مكان يسمى البويب على شاطئ الفرات بالقرب من الكوفة، وعبر إليهم الفرس فاقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل المثنى مهران الهمداني، قائد الفرس، فهزموا وفروا. فحصرهم المسلمون عند النهر، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتى سمي يوم البويب بيوم "الأعشار" لأنهم أحصوا مائة رجل من العرب قتل كل واحد منهم عشرة من الفرس. واستولى المسلمون على سواد العراق.

بدأ الفرس ينظمون صفوفهم، ويقضون على الفتنة الداخلية حتى يتفرغوا للخطر الداهم. فكتب المثنى إلى عمر. وبعد أن فرغ عمر من الحج سنة ثلاث عشرة خرج من المدينة بجيشه واستخلف عليها علياً بن أبي طالب. ونزل على ماء يدعى "صراراً" فعسكر به. واستشار أصحابه فأشاروا عليه بتولية رجل غيره فولى سعد بن أبي وقاص.

سار سعد وعسكر في القادسية، وأرسل جماعة من الأشراف إلى يزدجرد ملك الفرس، وعرضوا عليه سبب مجيئهم وقالوا له: اختر إما الجزية، أو السيف، وإلا فَنَجِّ نفسك بالإسلام. فقال لهم يزدجرد لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم. ثم حمّل يزدجرد الرُسل وقراً من تراب، وهو الذي استبشر به سعد وقال أبشر لقد أعطانا الله إقليد ملكهم. وخرج رستم في جيش هائل قيل إنه بلغ مائة ألف، وكانت بين سعد ورستم مراسلات لم تؤدِّ إلى شيء. فبدأت المعركة واستمرت يومين هُزم فيها الفرس، وغنم المسلمون أموالاً طائلة، وبعد ذلك سار سعد إلى المدائن ففتحها وفرَّ يزدجرد. ووجدوا في خزانته مالاً وفيراً. ومكث سعد في الكوفة أميراً حتى شكاه أهلها فعزله عمر. وولى النعمان بن مقرن، الذي جهز جيشه واجتمع مع الفرس في نهاوند فهزمهم، وفتح المسلمون، همذان صلحاً واستولوا على جميع بلاد فارس حتى بلغوا السند.

ب. جبهة الشام

أما في جبهة الشام فقد عزل عمر خالداً فور توليه الخلافة، وعين مكانه أبا عبيدة، وكانت موقعة اليرموك تدور رحاها. وبعد الفراغ منها خرج أبو عبيدة إلى مرج الصفُّر، وهو يبعد عن دمشق عشرين كم. وأمره عمر بالمسير إلى دمشق فسار إليها وحاصرها، وفتحها صلحاً. وقاتل الروم في موقعة "مرج الروم" بقيادة ثيودور، أخي هرقل، وهزموه ثم فتحوا حمص.

وكان قسم من جيش أبي عبيدة، بقيادة عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، يحارب في فلسطين. ولاقى المسلمون القوات البيزنطية في أجنادين بقيادة أرطبون فهزموها، وفر الأرطبون إلى بيت المقدس فحاصره عمرو بن العاص. ولما طال الحصار عليها، عرضوا أن يقبلوا الصلح على أن يُعقد مع الخليفة نفسه. فجاء عمر وعقد معهم الصلح المشهور، وكتب لهم كتاباً بذلك.

ج. فتح مصر

استأذن عمرو بن العاص عمر في فتح مصر، وذكر له أنها أكثر الأرض مالاً وأوفرها خيرات، وأقلها مقاتلين. فتردد عمر بادئ الأمر إشفاقاً على المسلمين، ثم أذن لعمرو وعقد له على أربعة آلاف مجاهد. فسار بهم عمرو حتى بلغ العريش، وكانت منيعة الحصون. فحاصرها شهراً ونصف الشهر، حتى فتحها في المحرم سنة 19هـ. وانطلق منها فاتحاً حتى حاصر الإسكندرية وعقد صلحاً مع المقوقس، من أهم بنوده أن يدفعوا جزية عن كل فرد دينارين في السنة، وأن يجلو الروم عن مصر تماماً في مدة أحد عشر شهراً؛ وأن لا يتعرض المسلمون للكنائس بسوء، وأن لا يؤذي يهود المدينة.

وبدأ عمرو بتخطيط الفسطاط وجعلها عاصمة له، واستمرت مركزاً للإشعاع الفكري والسياسي والديني طيلة العصر الإسلامي، حتى حلت محلها مدينة العسكر سنة 132هـ فنزل بها أمراء مصر وسكنوها.

3. التنظيم الإداري

كانت شبه الجزيرة العربية مقسمة إلى ولايات في عهد أبي بكر الصديق، هي:

(3) ولاية الطائف

(2) ولاية المدينة.

(1) ولاية مكة.

(6) ولاية خولان.

(5) ولاية حضرموت.

(4) ولاية صنعاء

(9) ولاية الجند.

(8) ولاية زمع.

(7) ولاية زيد.

(12) ولاية البحرين.

(11) ولاية جرش.

(10) ولاية نجران.

وقد توسعت في عهد عمر فقسمت بلاد إيران إلى ثلاث ولايات، وجُعل العراق ولايتين: الكوفة والبصرة.

وقُسمت الشام إلى ثلاث ولايات: حمص ودمشق وفلسطين. ومصر إلى ثلاثة أقسام: مصر العليا، والسفلى، وغرب مصر مع ليبيا.

4. الديوان

الديوان كلمة فارسية معناها "السجل" أو "الدفتر"، وقد أطلق مجازاً على المكان الذي يحفظ فيه الديوان. استشار عمر t المسلمين في تدوين الدواوين، فأشار عليه علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ بتقسيم ما اجتمع عنده وأن لا يمسك منه شيئاً، وأشار عثمان بأن يحصي الناس، وأشار الوليد بن هشام بن المغيرة بتدوين الديوان مثلما رأى عند ملوك الشام. فأمر عمر فكتبوا الناس وبدأوا ببني هاشم ثم اتبعوهم أبا بكر وقومه وفضل أهل السبق في الإسلام والجهاد، وبدأ بأهل بدر من المهاجرين والأنصار.

وأنشأ عمر بن الخطاب أيضا ديوان الإنشاء لحفظ الوثائق الرسمية، كالمكاتبات التي تدور بين الخليفة وعماله وقواده.

سادساً: الخليفة الناقد الأديب

كان عمر t عالماً بأخبار الشعراء حافظاً لأشعارهم ناقداً لهم، وكان يقدم امرؤ القيس بن حجر الكندي والنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى، وهم من شعراء المعلقات الجاهليين المشهورين، قال لابن عباس: هل تروي لشاعر الشعراء؟ قلت ومن هو؟ قال الذي يقول:

ولو أن حمداً يخلد الناس أخلدوا                         ولكن حمد الناس ليس بمخلد

قلت ذاك زهير. قال: فذاك شاعر الشعراء؟ قلت وبم كان شاعر الشعراء؟ قال لأنه كان لا يعاظل في الكلام، وكان يتجنب وحشي الشعر ولا يمدح رجلاً إلا بما فيه . "ومعنى لا يعاظل في الكلام أي لا يعقِّده، ولا يوالي بعضه فوق بعض، وحوشي الشعر: وحشيُّه وغريبه" .

وكان يقول: لو أدركت زهيراً لوليته القضاء لمعرفته بما تثبت به الحقوق، وذلك قوله:

فإن الحق مقطعه ثلاث                                  يمين أو نفار أو جلاء

وله قصة مع الشاعر الحطيئة ـ وهو شاعر مخضرم هجّاء ـ واسمه جرول بن أوس، وذلك أن الزبرقان بن بدر التميمي سيد قومه عَمِل للنَبي r وأبي بكر وعمر، وكان يجمع زكاة قومه ويؤديها لهم. وقد استعدى عمراً لما هجاه الحطيئة. فقال له عمر وما قال لك: قال: قال لي:

دع المكارم لا ترحل لبغيتهــا                         واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

فقال عمر: ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة.

فقال الزبرقان: أو لا تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس! والله يا أمير المؤمنين ما هُجيت ببيت قط أشد عليَّ منه. فدعا عمر حسان بن ثابت وسأله: أتراه هجاه؟ قال حسان: نعم وسلح عليه! فحبس عمر الحطيئة، فجعل الحطيئة يستعطفه ويرسل إليه الأبيات، فمن ذلك قوله:

تحنن عليّ هداك المليك                                 فإن لكل مقام مقال

فلم يلتفت إليه عمر، حتى أرسل إليه الحطيئة:

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ                             زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

القيت كاسبهم في قعر مظلمة                            فاغفر عليك سلام الله يا عمر

قال عمر: فإياك والمقذع من القول؛ قال الحطيئة: وما المقذع؟ قال عمر: أن تخاير بين الناس فتقول فلان خير من فلان وآل فلان خير من آل فلان؛ قال الحطيئة: فأنت والله أهجى مني. ثم قال له عمر: والله لولا أن تكون سُنّة لقطعت لسانك. فاشترى عمر منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، وأخذ عليه عهداً ألا يهجو أحداً.

سابعاًً: أزواجه وذريته

تزوج عمر في الجاهلية ثلاث نسوة، منهن قريبة بنت أبي أمية المخزومية أخت أم سلمة (أم المؤمنين). وتزوج في الإسلام خمس نساء منهن أم كلثوم بنت علي، أمها فاطمة الزهراء بنت رسول الله، r، وُلدت في عهد النبي الله r خطبها عمر إلى علي فذكر له صغر سنها فقال عمر: زوجنيها يا أبا الحسن، فإني أرصد من كرامتها ما لم يرصده أحد، فزوجه. فجاء عمر وجلس في الروضة حيث يجلس المهاجرون الأولون فقال: رفئوني، فقالوا بماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجت أم كلثوم بنت علي، سمعت رسول الله، r، يقول كل سبب ونسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري، وكان لي به عليه الصلاة والسلام النسب والسبب فأردت أن أجمع إليه الصهر. تزوجها على مهر أربعين ألفاً، سنة سبع عشرة. وولدت له زيداً الأكبر (زيد بن الخطاب) ورقية.

ومنهن جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح، كان عمر يحبها وتحبه وهي أم ولده عاصم، ومنهن أم حكيم بنت الحارث بن هشام زوج عكرمة، ومنهن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ابنة عمه، وكانت قبله تحت عبدالله بن أبي بكر، ثمّ سبيعة بنت الحارث وهي أول امرأة أسلمت بعد صلح الحديبية، وامتحنها النبي r ورد على زوجها مهر مثلها وتزوجها عمر.

أما ذرية عمر، t تسعة من الذكور وخمس من الإناث. أما الذكور فأجلهم عبدالله، ولد قبل الهجرة بعشر سنين، وشهد المشاهد ابتداء من الخندق والفتوح، واعتزل الفتن، ولزم بيته. وكان ورعاً زاهداً كثير العبادة والصلاة والصيام، حافظاً للحديث متبعاً له. مات وله ثلاث وثمانون سنة. ويروى أن الحجاج دس له رجل فجرحه بحربة مسمومة، عند دفع الناس من عرفة، فمرض منها أياماً ثم قضى نحبه.

ومن أولاده عبيدالله وكان شجاعاً فاتكاً، ولما قُتل عمر عمد عبيدالله إلى الهرمزان وجفينة النصراني وبنت لأبي لؤلؤة فقتلهم. وكان علي، كرم الله وجهه، حريصاً على أن يقتل عبيدالله بالهرمزان، فلما ولي علي الخلافة، هرب عبيدالله إلى الشام. فكان مع معاوية إلى أن قُتل معه بصفين سنة ست وثلاثين للهجرة .

ومنهم عاصم، ولد سنة ست للهجرة، وكان من أحسن الناس خلقاً، وكان عبدالله بن عمر يقول: أنا وأخي عاصم لا نغتاب الناس، ومات سنة سبعين أو ثلاث وسبعين بالربذة. تمثل عبدالله بن عمر لمّا مات عاصم بقول متمم بن نويرة:

فليت المنايا كن خلفن مالكــاً                          فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا

وهو جد عمر بن عبدالعزيز لأمه.

أما بناته فأجلهن حفصة "أم المؤمنين"، لما مات عنها زوجها عرضها أبوها عمر على أبي بكر فسكت، ولم يرد عليه شيئاً، فعرضها على عثمان حين ماتت رقية بنت النبي r، فقال عثمان ساُنظر في أمري، فلبث أياماً فقال: بدا لي أن لا أتزوج اليوم. فشكا عمر للنبي، r، فقال النبي له: يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة. فلقي أبو بكر عمر فقال لا تَجِد عليَّ (لا تغضب) فإن رسول الله، r، ذكر حفصة فلم أكن لأفشي سر رسول الله، r، ولو تركها لتزوجتها.

ثامناً: فضائله

1. هو أول من سُمّي بأمير المؤمنين.

2. أول من كتب التاريخ الهجري سنة ست عشرة للهجرة.

3. أول من جمع الناس على قيام شهر رمضان.

4. أول من ضرب في الخمر ثمانين جلدة.

5. أول من عسّ[11] بالليل في عمله، وحمل الدَّرة وأدب بها. (الدرة عصا قصيرة)

6. أول من وضع الخراج على الأرض، وخط الكوفة والبصرة.

7. أول من استقصى القضاة في الأمصار.

8. أول من دون الدواوين.

9. أول من زاد في مسجد رسول الله r.

10. أول من فرش مسجد رسول الله بالحصى، وكان الناس إذا رفعوا من السجود نفضوا أيديهم من التراب، فخشي أن تكون سنة فألقى فيه الحصى.

11. أول من اتخذ دار الدقيق، يوضع فيها الدقيق والسويق والتمر والزبيب للمنقطع وضيف عمر.

12. أول من اتخذ بيت المال.

13. أول من نهى عن بيع أمهات الأولاد. (من الإماء).

14. أول من أخذ الزكاة في الخيل.

تاسعاً: رسالة عمر في القضاء لأبي موسى الأشعري

تعد هذه الرسالة ذات أهمية خاصة، لأنها تبين كثيراً من نظم القضاء وأصوله، وتُعد بمثابة لائحة داخلية يعمل القضاة بمقتضاها.

"بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عبدالله بن قيس. سلام عليك. أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أُدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له. آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك (الحيف هو الميل في الحكم أي الظُلم)، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً. لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهُديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك (أي تردد في صدرك ولم يستقر) مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أمداً ينتهي إليه، فأن أحضر بينته وإلا استحللت عليه القضية، فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى.

المسلمون عَدُول (العدل من الناس غير المتهم في قوله وحكمه وشهادته) بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً (الظنين المعادي لسوء ظنه، أو سوء الظن به) في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان.

وإياك والقلق والضجر، والتأذي بالخصوم، والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يُعظّم به الله الأجر ويحسّن به الذكر. فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس. ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام".

عاشراً: من أقواله المأثورة

1. إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم، فإن كل محب يخوض فيما أحب.

2. رحم الله امرأ أمسك فضل القول، وقدم فضل العمل.

3. لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني وقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وأن الله تعالى يرزق الناس بعضهم من بعض.

4. لست بخب ولكن الخب لا يخدعني. (الخب المخادع الغشاش).

5. قال له رجل اتق الله يا عمر (وأكثر عليه) فقال له قائل: اسكت فقد أكثرت على أمير المؤمنين، فقال عمر دعه لا خير فيهم إن لم يقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبل.

6. وقال له رجل: إن فلانا رجل صدق. قال: سافرت معه؟ قال: لا، قال: أفكانت بينك وبينه خصومة قال: لا، قال: فهل ائتمنته على شيء؟ قال: لا. قال: فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد.

7. وسئل عن رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها أفضل، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فقال: الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها "أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم".

8. وقيل له فلان لا يعرف الشر. قال ذلك أجدر أن يقع فيه.

9. يا معشر الفقراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح الطريق فاستبقوا الخيرات، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.

10. استعيذوا بالله من شرور النساء، وكونوا من خيارهن على حذر.

11. لقد كنّا أذل أمة، فأعزنا الله بالإسلام، ولو طلبنا العزة في غيره، أذلنا الله.

12. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.

13. من كتم سره كان الخيار بيده.

14. لا يكن حبك كلفاً ولا بُغضك تلفاً.

15. رَحِمِ اللهُ من هداني إلى عيوبي.

16. مَن كَثُرَ ضحِكُهُ قَلت هيبَتُهُ.

حادي عشر: مقتله

قتله أبو لؤلؤة الفارسي، وقصة أبي لؤلؤة أن عمر كان لا يأذن لسبي (أي رقيق) قد احتلم ـ أي بلغ الحلم ـ أن يدخل المدينة، حتى كتب إليه المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة يستأذنه في غلام اسمه فيروز، لديه أعمال كثيرة. فهو حداد ونقاش ونجار، فأذن له عمر وضرب عليه المغيرة كل شهر مائة درهم. فلقي فيروز عمر فكلمه (أي اشتكى من كثرة ما ضُرب عليه من مال) فقال له عمر: ما خراجك بكثير، فانصرف العبد مغضباً وقال: وسع عدله الناس كلهم غيري. وأضمر قتل عمر واتخذ خنجراً له رأسان وسمّه. فلمّا كبَّر عمر لصلاة الصبح طعنه في خاصرته وكتفه، وجعل يطعن يميناً ويساراً حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم سبعة. فطرح عليه عبدالرحمن بن عوف بُرنساً له ليأخذه، فلما أحس أبو لؤلؤة أنه مأخوذ نحر نفسه. وصلى بهم عبدالرحمن بن عوف، وكان عمر مشفقاً أن يكون قتله قد تم بمشورة من المسلمين ورضىً. فكان يرسل ابن عباس ليسأل البدريين والمهاجرين والأنصار، فقالوا: لوَددِنا أن الله زاد في عمره من أعمارنا.

واستأذن عائشة في أن يدفن مع صاحبيه، النبي، r، وأبي بكر، فأذنت له. ويرى كثير من المؤرخين أن مقتله كان مؤامرة يهودية فارسية مدبرة بين كعب الأحبار والهرمزان قائد الفرس، وما أبو لؤلؤة إلا منفذ للجريمة. وقد طُعن يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة، وتُوفي في اليوم الثالث سنة ثلاث وعشرين.

 



[1] الصابئ: صبأ الرجل: ترك دينه واعتنق ديناً آخر.

[2] الفج: الطريق.

[3] تنكب قوسه وضعه في منكبه.

[4] انتضى سهمه: أخرجه من كنانته وحمله في يده.

[5] اختصر عنزته: وضعها في خاصرته. العنزة عصا قصيرة فيها سنان كسنان الرمح.

[6] شاهت: قبحت.

[7] المعاطس: الأنوف.

[8] السفط: الوعاء من الخشب خاصة.

[9] ملجاج: من لج في الأمر إذا لازمه، وأبى أن ينصرف عنه، ومنه اللجاج: التمادي في الباطل.

[10] صرار: موقع على بعد ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق.

[11] عسَّ: طاف بالليل يكشف عن أهل الريبة، وأيضاً لتفقد أحوال الرعية.