إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الخلفاء الراشدون









مقدمة

المبحث الثالث

عثمان بن عفان t

أولاً: اسمه ونسبه

هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي القرشي، يجتمع مع الرسول، r، في عبد مناف، وأمه أروى بنت كريز بن حبيب بن عبد شمس، وأمها البيضاء أم حكيم بنت عبدالمطلب، عمة رسول الله، r، توأم أبيه وشقيقة أبي طالب.

ولد بالطائف بعد ميلاد النبي r، بست سنين، وكان أبوه حائكاً، ثم عمل بالتجارة، وخلف لعثمان مالاً وفيراً وتجارة نامية، زادها عثمان نماءّ، وكثر ماله، واتسعت نعمته. وكان يغدق على قومه عطاءه فأحبوه حباً صار مضرب الأمثال، حتى كانت المرأة من قريش ترقِّص ولدها وتقول:

أحبك والرحمن                                         حب قريش عثمان

وكانت كنيته أبا عمرو، فلما ولدت له رقية عبدالله اكتنى به، ولقبه "ذو النورين" لأنه تزوج رقية وأم كلثوم بنتَي النبي، r، وما عرف رجلٌ تزوج ابنتي نبي غيره.

ثانياً: صفاته t

كان t ربعة من الرجال ليس بالقصير ولا بالطويل، حسن الوجه، مشرف الأنف من أجمل الناس، رقيق البشرة، عظيم اللحية طويلها، أسمر اللون كثير الشعر، ضخم الكراديس (أي رؤوس العظام) بعيد ما بين المنكبين ربما يخضب لحيته. حدث أسامة بن زيد: بعثني رسول الله، r، إلى عثمان في حاجة فوجدته وزوجته فما رأيت زوجين أحسن منهما.

وشُهر بحسن الوجه والجمال حتى في آخر عمره وقد جاوز السبعين. يقول أحد أبناء الصحابي سعيد بن يربوع "انطلقت وأنا غلام في الظهيرة ومعي طير أرسله في المسجد، والمسجد بيننا، فإذا شيخ جميل حسن الوجه نائم، تحت رأسه لبنة أو بعض لبنة! فقمت اُنظر إليه أتعجب من جماله، ففتح عينيه فقال من أنت يا غلام؟ فأخبرته. فإذا غلام نائم قريباً منه، فدعاه فلم يجبه، فقال لي: ادعه فدعوته فأمره بشيء وقال لي أقعد. فذهب الغلام وجاء بحلة وبألف درهم، ونزع ثوبي وألبسني الحُلَة وجعل الألف درهم فيها! فرجعت إلى أبي فأخبرته فقال يا بني من فعل بك هذا؟ فقلت: لا أدري إلا أنه رجل في المسجد نائم لم أر قط أحسن منه! قال: ذاك أمير المؤمنين عثمان بن عفان".

وفيه مع الجمال، التواضع والكرم والحياء والسخاء ولين الجانب والحلم والرأفة، كلها صفات عُرف بها. فهو يتجافى عن السرر والفرش وينام في المسجد. أما الحياء فقد شهد له به رسول الله، r، حين قال: "إن عثمان رجل حييي. وفي رواية ألا استحيي ممن تستحيي منه الملائكة". وقال r، أصدق أمتي حياء عثمان، وبلغ من حيائه أنه لا يضع عنه ثوبه ولو كان خالياً ولا ينصب ظهره مستقيماً من شدة حيائه، وما مس فرجه بيمينه منذ بايع رسول الله، r.

أما سخاؤه وكرمه فكان مضرب الأمثال، فقد اشترى أرضاً وسّع بها مسجد النبي r واشترى داراً وسّع بها المسجد الحرام بعد فتح مكة، واشترى بئر "رومة" من صاحبها اليهودي الذي كان يبيع الماء للمسلمين، فجعلها عثمان صدقة وكانت بئراً عذبة.

ولشراء هذه البئر قصة، موجزها أن المسلمين في المدينة واجهتهم مشكلة مياه الشرب، وكانت هناك بئر ليهودي تدعى (بئر رومة)، تفيض بالماء العذب، وكان يبيع ماءها للمسلمين، وفيهم من لا يجد ثمن ذلك، فتمنى النبي، r، أن يشتريها أحد المسلمين، ويجعلها في سبيل الله: فقال، r:]‏مَنْ يَشْتَرِي ‏ ‏بِئْرَ رُومَةَ ‏ ‏فَيَجْعَلَ دَلْوَهُ مَعَ دِلاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ[ (سنن النسائي، الحديث الرقم 3551).

فسارع عثمان لتلبية رغبة رسول الله، r، طمعاً فيما عند الله من الثواب العظيم. وذهب إلى اليهودي وساومه على شرائها، فأبى عليه، فساومه عثمان على النصف فاشتراه منه باثني عشر ألف درهم، فجعله للمسلمين، على أن تكون البئر لعثمان يوماً، ولليهودي يوماً. فكان المسلمون يستقون في يوم عثمان ما يكفيهم يومين، فلما رأى اليهودي ذلك قال لعثمان، أفسدت عليَّ فاشتر النصف الآخر، فقبل عثمان، واشتراه بثمانية آلاف درهم، وجعل البئر كلها للمسلمين، للغني والفقير وابن السبيل، تفيض بمائها بغير ثمن.

وأصاب الناس قحط في زمان أبي بكر الصديق t فقال الخليفة لهم: إن شاء الله لا تمسون غداً حتى يأتيكم فرج الله. فلما كان صباح الغد، قدمت قافلة لعثمان، فغدا عليه التجار فخرج إليهم، فسألوه أن يبيعهم قافلته. فسألهم كم تربحونني؟ قالوا: العشرة اثني عشر. قال: قد زادني! قالوا: فالعشرة خمسة عشر. قال: قد زادني. قالوا: من الذي زادك ونحن تجار المدينة؟! قال: إنه الله، زادني بكل درهم عشراً فهل لديكم مزيد؟ فانصرف التجار عنه وهو ينادي: اللهم إني وهبتها فقراء المدينة.

وكان من أعلم الصحابة بالمناسك، وبعده ابن عمر، وكان يحيي الليل بالقرآن ويختم به في ركعة.

وجهز ثلث جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيراً وخمسين فرساً، وألف دينار وكانت نفقة عظيمة لم يُر مثلها. وكان رسول الله r يقول ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم.

ثالثاً: إسلامه

كان عثمان، t يتنسم أخبار الخلاص من كدر الحياة الجاهلية، ورأى رؤى وحدثته خالته سعدى بنت كُرَيز، وكانت كاهنة، بما يومئ إلى بعثه محمد بن عبدالله. فكلم أبا بكر الصديق، وكان صديقه فقال له أبو بكر: "ويحك يا عثمان، والله إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل، هذه الأوثان التي يعبدها قومك أليست حجارة صماً لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع؟ قال عثمان: بلى والله إنها لكذلك!" ثم أخذه إلى النبي r وأسلم وشهد شهادة الحق، وكان من الثمانية السابقين للإسلام.

ولما اشتد تعذيب قريش للمؤمنين خرجوا مهاجرين إلى الحبشة، فخرج عثمان بزوجه رقية. وقال النبي r، إن عثمان لأول مَنْ هاجر إلى الله عز وجل بأهله بعد لوط، u وعثمان t صاحب هجرتين، فبعد عودته من الحبشة إلى مكة، مكث قليلاً بها، فلمّا كانت الهجرة الثانية إلى المدينة هاجر إليها مع المسلمين.

رابعاً: دوره في المدينة المنورة

كان عثمان قريباً من الرسول r وشهد معه مشاهده وغزواته، إلا أنه تخلف عن غزوة بدر بأمر الرسول r. وكانت زوجه رقية مريضة فبقي معها يمرّضها حتى توفيت، وجعل له الرسول، r، أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه. وشهد أحداً مع النبي r ولمّا وقعت الكارثة بالمسلمين وتولت طائفة منهم ذعراً وذهولاً لا جُبناً، كان عثمان منهم وقد عذرهم الله عز وجل في قوله: ]إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيم[ (سورة آل عمران: الآية 155).

وكان عثمان سفير رسول الله، r، يوم الحديبية إلى قريش، بعثه لعزته من قريش. فأدى رسالة رسول الله، r. وكانت بيعة الرضوان بسببه إذا أشيع أنه قُتل، فبايع الرسول، r، المسلمين وبايع عن عثمان، فبسط الرسول يده وضرب الأخرى بها وقال هذه عن عثمان، إن عثمان كان في حاجة الله ورسوله. فكانت يد رسول الله، r، لعثمان خيراً من أيديهم لأنفسهم.

وتُوفي رسول الله r، وهو عنه راضٍ، فكان خير وزير لأبي بكر بعد عمر. وقد ائتمنه أبو بكر على عهده بالخلافة الذي كتبه لعمر. خرج عثمان إلى الناس فبلغهّم. كان رفيع المنزلة عند عمر t قريباً منه وكان يقال له "الرديف". وكان لا يجرؤ على سؤال عمر غيره، وغير عبدالرحمن بن عوف، وكان عمر يستشيره، وكانت له آراء مخالفة لأراء من حوله. فكان لا يرى فتح مصر، ولا يرى ذهاب الخليفة بنفسه إلى القدس لعقد الصلح، وقد أهله قربه من عمر للخلافة من بعده.

خامساً: استخلافه

لما طُعن عُمر وحُمل إلى منزله، أمر صهيباً أن يصلي بالناس. واستشار الناسَ في أمر الخلافة، فطلب منه بعض المسلمين أن يستخلف عليهم فقال: إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني (أي أبو بكر)، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني (أي الرسول r). ثم قال: "لا أجد أحداً أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين تُوفي رسول الله r، وهو عنهم راض، فأيهم استخلف فهو الخليفة من بعدي. فسمّى علياً وعثمان وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وكان طلحة غائباً فمتى جاء دخل معهم وإذا تأخر أمضى الأمر من دونه. وقال عمر: لا أتحمل أمرهم حياً وميتاً، وإن يرد الله بكم خيراً يجمعكم على خير هؤلاء، كما جمعكم على خيركم بعد نبيكم، r" .

وكأنما كان عمر بثاقب بصره ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، فقال لهم إن الأمر لن يعدو أحد الثلاثة: علي وعثمان وعبدالرحمن. فأوصى كل واحد منهما ألا يحمل ذوي قرابته على رقاب الناس. وأوصى الخليفة من بعده بعدّة وصايا بالمهاجرين الأولين والأنصار أن يحفظ لهم حقهم، وبالأعراب وأهل الذمة ثم قال: لقد تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة". أي تركتها دولة منظمة تنعم بالعدل التام، مستقيمة أمورها.

وأرسل عمر إلى أبي طلحة الأنصاري قبل أن يموت بساعة، وكان فارساً شجاعاً. وقال له كن في خمسين من قومك من الأنصار مع هؤلاء النفر الستة فقم على الباب فلا تترك أحداً يدخل عليهم، ولا يمضي اليوم الثالث حتى يؤمروا أحدهم، فإن شذ واحد أو اثنان فاضرب أعناقهما، وإن انقسموا ثلاثة ثلاثة، فليحكّموا عبدالله بن عمر، فإن لم يرضوا بحكمه فالحكم للفريق الذي فيه عبدالرحمن بن عوف.

واجتمع المرشحون الستة، وطال الجدل واحتدم يومين، ولم يصلوا إلى حلّ للخلاف. فاقترح ابن عوف اقتراحاً سهّل المهمة وهو أن ينخلع عن الخلافة على أن يوليها أفضلهم، فوافقوا جميعاً إلا علياً t وافق على أن يعطيه عبدالرحمن موثقاً لا يؤثرن الحق ولا يتبع الهوى، ولا يخص ذا رحم، ولا يألو الأمة نصحاً. فوافق عبدالرحمن على أن يعطوه مواثيقهم على أن يكونوا معه على من بدلّ وغيّر ويرضوا بمن يختاره.

وشمّر عبدالرحمن للمهمة الشاقة العسيرة، وجعل يستشير الناس، وانحصر الترشيح بين اثنين عثمان وعلي، ويجمع رأي المسلمين فيهما من المهاجرين والأنصار ورؤوس الجند. وسأل أمهات المؤمنين، سأل الصبيان في المكاتب، ومن يرد من الأعراب والركبان إلى المدينة، فوجد أكثر الناس يميلون إلى عثمان.

ثم خرج عبدالرحمن بن عوف إلى المسجد وقد لبس العمامة التي عممه بها الرسول، r، وجمع الناس، ودعا بعلي وعثمان، وصعد المنبر، ودعا طويلاً ثم قال: أيها الناس، إني سألتكم سراً وجهراً، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين: إما علي وإما عثمان. فقم إليّ يا علي، فقام إليه فوقف تحت المنبر، فأخذ بيده عبدالرحمن فقال له أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه، r، وفِعْلَ أبي بكر وعمر؟

قال: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي. فأرسل يده وقال: قم إليّ يا عثمان، فأخذ بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيّه r وفِعْلَ أبي بكر وعمر؟

قال: اللهم نعم.

فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، فقال: اللهم اسمع واشهد ـ ثلاثاً ـ اللهم إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان، فبايعه عبدالرحمن وبايعه علي بن أبي طالب ثم بايعه المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد وعامة الناس .

تمت بيعة عثمان دون تنافر ولا بغضاء، ولم يرد في الصحاح وعند الثقات من المؤرخين أن علياً تلكأ في البيعة، أو اتهم عبدالرحمن بن عوف بمحاباة عثمان. وكان الإمام أحمد يقول: "لم يتفق الناس على بيعة كما اتفقوا على بيعة عثمان، ولاَّه المسلمون بعد تشاورهم ثلاثة أيام، وهم مؤتلفون متفقون، متحابون، متوادون، معتصمون بحبل الله جميعا".

سادساً: أهم أعماله خلال خلافته

أول ما واجه عثمان بعد بيعته مشكلة عبيدالله بن عمر، الذي ثار بعد قتل أبيه، وقتل جماعة ممن يظن أنهم اشتركوا في قتل أبيه منهم الهرمزان. فحبسه عثمان وشاور الناس في أمره. وأشار بعضهم بقتله، وقال بعضهم لا يُقتل عمر بالأمس ويقتل ابنه اليوم. فجعلها عثمان دية واحتملها من ماله.

ثم إنه أقر عمّال عمر سنة، وزاد في أعطيات الناس مائة درهم على ما فرضه عمر.

1. الفتوحات في عهده

لما تولى عثمان t الخلافة، نقضت كثير من ولايات فارس عهودها. وكان المسلمون يردونها إلى الطاعة، ويواصلون الفتوح، وبلغوا بقيادة الأحنف بن قيس إلى خراسان ففتحوها، وبلغوا حدود الترك بسمرقند. وكان يزدجرد الثالث ملك الفرس المخلوع لجأ إليهم، ولم تفلح محاولاته لجمع فلول قواته حتى قتل في مرو. وسار المسلمون شرقاً حتى وصلوا أفغانستان وبلغوا حدود الهند بقيادة عبدالله بن عامر، وغزوا أذربيجان وأرمينيا عام أربعة وعشرين أو ستة وعشرين بقيادة الوليد بن عقبة.

وفي هذا الأثناء أرسل معاوية بن أبي سفيان إلى الخليفة، يستمده ويخبره بخبر الحشود الرهيبة التي حشدها الروم على حدود الشام. فأرسل الخليفة إلى الوليد بن عقبة أن يمد معاوية برجل موثوق به في الشجاعة والنجدة والبأس، في ثمانية أو تسعة آلاف، فأمده بسلمان بن ربيع الباهلي. وانضموا إلى إخوانهم في الشام وشنوا الغارات على أرض الروم .

ثم إن معاوية استأذن الخليفة عثمان في أن يغزو قبرص من البحر، وكان قد طلب ذلك من عمر بن الخطاب، فلم يأذن له. فكان رد عثمان "لقد شهدت ما رد عليك عمر حين استأمرته في غزو البحر"  أعاد معاوية الطلب فأذن له الخليفة بشرط ألا يُجبر أحداً ولا يقرع بينهم، بل يخيّرهم فمن اختار الغزو طائعاً حمله وأعانه. فأنشأ معاوية أسطولاً ضخماً، وجعل عبدالله بن سعد الجاسي نائباً له في ركوب البحر. واستطاع المسلمون بهذا الأسطول أن يهزموا الروم في أكبر معركة بحرية سميت "بذات الصواري"، خلصت لهم بها السيادة على بحر الروم.

أما في الجبهة المصرية فإن أهل الإسكندرية نقضوا عهدهم واستعانوا بالروم، وقتلوا من بها من المسلمين إلا من فر. وانحدر الروم ينهبون وينصبون، وظنوا أنهم سيستعيدون مصر ثانية، حتى بلغوا "بابليون". فعمد لهم عمرو بن العاص وهزمهم هزيمة منكرة. وطارد المسلمون الروم، يعينهم قبط مصر لِما ذاقوا من بلاء الروم واضطهادهم؛ ولِمَا وجدوا في الفتح الإسلامي من تسامح ومنجاة من الظلم والاضطهاد. وحاصرهم عمرو في الإسكندرية وفتحها مرةً ثانية وأجلى عنها الروم جلاءّ مؤبداً.

بعد هذا الفتح أمر عثمان، t القائد عبدالله بن سعد بن أبي السرح أن يغزو أفريقيا. فسار في جنده حتى بلغ تونس فقابله حاكمها "جويجوري" في قوات ضخمة، فلم يستطع التقدم حتى أمده الخليفة بجيش من كبار المهاجرين والصحابة والتابعين بقيادة عبدالله بن الزبير، الذي استطاع بحيلته وشجاعته أن يهزمهم. وبذلك مُهد الطريق لغزوات باقي شمال أفريقيا.

ثم سار عبدالله بن أبي السرح جنوب مصر في بلاد النوبة حتى بلغ دنقلا وصالح أهلها الصلح الشهير "بالبقط".

2. جمع القرآن

جمع عثمان  الناس على مصحفه الإمام. وسبب ذلك أن حذيفة بن اليمان كان في الجيوش الغازية إلى أرمينيا وأذربيجان، ومنهم طوائف من أهل الشام وطوائف من أهل العراق. فكان أهل الشام يقرأون بقراءة المقداد بن الأسود وأبي الدرداء، وكان أهل العراق يقرأون بقراءة ابن مسعود وأبي موسى الأشعري. وكان في الجند أقوام حديثو عهد بالإسلام، فصاروا يفاضلون بين القراءات، ويتنازعون حتى كفرّ بعضهم بعضاً، وكل يقول قراءتي خير من قراءتك. ففزع حذيفة إلى عثمان وقال له: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في القرآن اختلاف اليهود والنصارى. فجمع عثمان الناس يشاورهم، فسألوه رأيه فقال: أرى أن يجتمع الناس على قراءة، فإِنكم إن اختلفتم اليوم كان مَنْ بعدكم أشد اختلافاً. فأقروه على رأيه. فبعث إلى حفصة يطلب منها أن ترسل له مصحف أبي بكر، وانتدب زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها وقال لهم إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنما بلسانهم نزل. "ثم رد المصحف إلى حفصة وأرسل بمصحف إلى كل مصر من الأمصار: لأهل الشام، ولأهل مصر، وللبصرة، والكوفة، وإلى اليمن، وإلى مكة. وأبقى بالمدينة مصحفاً وأمر بما سواها فأحرقه.

والفرق بين جمع أبي بكر للقرآن وجمع عثمان، أن أبا بكر خشي على ضياع القرآن بموت حملته، فجمعه في موضع واحد في صحائف مُرَتِباً لآياته وسوره على ما وقفهم عليه النبي،  ، بالوجوه والقراءات التي تلقاها الصحابة عن النبي r.

أما جمع عثمان فإنه اقتصر على لغة قريش، وإلغاء ما سواها، والاكتفاء بالقراءات الثابتة عن النبي r ، والأخذ بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته مثبت رسمه. وقد تلقت الأمة هذا العمل بالقبول، ويقال إِن ابن مسعود أبي أن يحرق مصحفه في بادئ الأمر، ولكنه عاد وتبع الإجماع.

وكان علي، t يقول: "يا أيها الناس لا تغلو في عثمان ولا تقولوا له إلا خيراً في المصاحف وإحراق المصاحف، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا معشر أصحاب رسول الله r، ووالله لو وليت لفعلت الذي فعل".

سابعاً: بداية الفتنة ومقتل عثمان t

بدأت الفتنة تظهر في الأمصار، فأول ما بدأت في الكوفة وكان أهلها كلما جُعل عليهم والياً شغبوا عليه ورفضوه. وظهر في البصرة عبدالله بن سبأ، وكان يهودياً من اليمن أظهر الإسلام في أيام عثمان وتنقل في الأمصار مؤلباً عليه وداعياً لأفكار غريبة كقوله برجعة النبي، r. وبدأ أمر عبدالله في البصرة وأُخرج منها وما زال يُطرد من مصر إلى مصر حتى بلغ مصر، وأخذ ينشر أباطيله.

وقد كان الخارجون على عثمان يعيبون عليه أشياء، وكل ما يقولونه زور وبهتان، وكان عبدالله بن عمر يقول: "لقد عتبوا على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عتبوا عليه!". فقد عابوا على عثمان أنه ضرب عمار بن ياسر حتى فتَق أمعاءه، والسبب أن عماراً اختلف مع عباس بن عتبة بن أبي لهب فأدبهما الخليفة. وقد نسي عمار ذلك، وكان من ضمن المدافعين عن عثمان! وقالوا إنه ضرب ابن مسعود، ولم يثبت هذا، فابن مسعود قد تابع عثمان في المصاحف آخر الأمر، وبقي مسؤول بيت المال في الكوفة.

وقالوا إنه أخرج أبا ذر من المدينة، وكان أبو ذر من السابقين إلى الإسلام، زاهداً، جريئاً في قول الحق، وكانت فيه حدة وكان يأمر الأغنياء بالتصدق بفضول أموالهم محتجاً بالآية: ]وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم[ (سورة التوبة: الآية 34). وقد خالفه جمهور الصحابة في ذلك، منهم ابن عمر، وقالوا ما أديت زكاته فليس بكنز، فلما أكثر أبو ذر على معاوية بالشام شكاه إلى عثمان، فاستقدمه عثمان، فاستأذن عثمان في الخروج إلى الربذة؛ وأمر له بِنَعَم من إبل الصدقة فأبى، وطلب إليه عثمان أن يعاهد المدينة ـ أي يعاود زيارتها ـ حتى لا يرتد أعرابياً.

ونقموا على عثمان أنه ولّى أقاربه، وليسوا أهلاً للولاية، فقالوا إِنه ولى معاوية وعبدالله بن عامر بن كريز، ومروان، والوليد بن عقبة. وكان كثيراً ممن ولاهم عثمان ولاة قبله، كمعاوية، وقد ولّى الرسول r، طائفة من بني أمية، وكذلك فعل أبو بكر وعمر، ولقد أثبتوا جدارة وجرأة وشجاعة.

وعابوا عليه أنه لم يشهد بدراً، وانهزم يوم أحد، وتخلف عن بيعة الرضوان. ويرد على ذلك عبدالله بن عمر فيما يروي البخاري فيقول: ]جَاءَ ‏رَجُلٌ ‏حَجَّ ‏ ‏الْبَيْتَ  ‏فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا فَقَالَ مَنْ هَؤُلاءِ الْقُعُودُ قَالُوا هَؤُلاءِ ‏ ‏قُرَيْشٌ ‏ ‏قَالَ مَنْ الشَّيْخُ قَالُوا ‏ابْنُ عُمَرَ ‏‏فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ أَتُحَدِّثُنِي قَالَ أَنْشُدُكَ بِحُرْمَةِ هَذَا ‏ ‏الْبَيْتِ ‏ ‏أَتَعْلَمُ أَنَّ ‏ ‏عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ‏فَرَّ يَوْمَ ‏أُحُدٍ ‏قَالَ نَعَمْ قَالَ فَتَعْلَمُهُ تَغَيَّبَ عَنْ ‏ ‏بَدْرٍ ‏فَلَمْ يَشْهَدْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَتَعْلَمُ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ‏ ‏بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ‏ ‏فَلَمْ يَشْهَدْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَكَبَّرَ قَالَ‏ ‏ابْنُ عُمَرَ ‏تَعَالَ لِأُخْبِرَكَ وَلأُبَيِّنَ لَكَ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ‏ ‏أُحُدٍ ‏فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ‏ ‏بَدْرٍ ‏فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ ‏بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ‏ ‏r‏ ‏وَكَانَتْ مَرِيضَةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ r‏ ‏إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ ‏‏بَدْرًا ‏‏وَسَهْمَهُ وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ ‏‏بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ ‏فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ ‏‏مَكَّةَ ‏‏مِنْ ‏عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ‏‏لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ فَبَعَثَ ‏عُثْمَانَ ‏‏وَكَانَتْ ‏بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ ‏بَعْدَمَا ذَهَبَ ‏عُثْمَانُ ‏إِلَى ‏مَكَّةَ ‏ ‏فَقَالَ النَّبِيُّ ‏‏r ‏بِيَدِهِ الْيُمْنَى هَذِهِ يَدُ ‏‏عُثْمَانَ ‏فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ فَقَالَ هَذِهِ ‏لِعُثْمَانَ ‏‏اذْهَبْ بِهَذَا الآنَ مَعَكَ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 3759).

وعابوا عليه أشياء أخرى، وطالبوه بعزل ولاته. فأرسل الخليفة وفوداً إلى الأمصار يستطلعون آراء أهلها في ولاتهم، فما رأوا إلا خيراً، وطلب من ولاته أن يوافوه بالموسم ليفصل في شكايات الناس.

ولما كانت سنة خمس وثلاثين من الهجرة في رجب، جمع الخوارج جموعهم قاصدين المدينة لحصار عثمان، وأدلوا باتهاماتهم، وكان الخليفة يفندها بصدق ويقين وإيمان، وعفا عن الخارجين فتظاهروا بالعودة إلى بلادهم، ثم ما لبثوا أن عادوا إلى المدينة. ويزعم الثوار من أهل مصر أنه بعث معهم كتاباً مختوماً بختم الخليفة يأمر بقتلهم وصلبهم. فحاصروا الخليفة زهاء عشرين يوماً ومنعوا عنه الماء، ولزم كثير من الصحابة بيوتهم وأمروا أبناءهم بلزوم أمير المؤمنين والدفاع عنه، منهم الحسن والحسين وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمر. وكان عثمان يعزم عليهم ألا يقاتلوا مع إلحاحهم عليه في ذلك. وقد طلب منه القتال ابن الزبير وعلي وأبو هريرة وزيد بن ثابت وقالوا له: هذه الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصاراً لله مرتين فقال عثمان، أما القتال فلا.

وقال له المغيرة بن شعبة: "إِنَّكَ إِمَامُ الْعَامَّةِ وَقَدْ نَزَلَ بِكَ مَا تَرَى وَإِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْكَ خِصَالاً ثَلاَثًا اخْتَرْ إِحْدَاهُنَّ إِمَّا أَنْ تَخْرُجَ فَتُقَاتِلَهُمْ فَإِنَّ مَعَكَ عَدَدًا وَقُوَّةً وَأَنْتَ عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَإِمَّا أَنْ نَخْرِقَ لَكَ بَابًا سِوَى الْبَابِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ فَتَقْعُدَ عَلَى رَوَاحِلِكَ فَتَلْحَقَ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَسْتَحِلُّوكَ وَأَنْتَ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَلْحَقَ بِالشَّامِ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَفِيهِمْ مُعَاوِيَةُ. فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِي اللَّهم عَنْهم: أَمَّا أَنْ أَخْرُجَ فَأُقَاتِلَ فَلَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ خَلَفَ رَسُولَ اللَّهِ r فِي أُمَّتِهِ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ وَأَمَّا أَنْ أَخْرُجَ إِلَى مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَسْتَحِلُّونِي بِهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ يُلْحِدُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ يَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ عَذَابِ الْعَالَمِ فَلَنْ أَكُونَ أَنَا إِيَّاهُ وَأَمَّا أَنْ أَلْحَقَ بِالشَّامِ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَفِيهِمْ مُعَاوِيَةُ فَلَنْ أُفَارِقَ دَارَ هِجْرَتِي وَمُجَاوَرَةَ رَسُولِ اللَّهِ َr".

ثم دخلوا على عثمان وقتلوه شهيداً مظلوماً، وبكى الناس مقتله بكاءً مُرّاً ورثاه حسان بن ثابت رثاءً حاراً، في أبيات صارت مضرب المثل في مواقف مشابهة:

فليأت ماسـدة في دار عثمانا

من سره الموت صِرفاً لا مزاج له

يقطّع الليــل تسبيحاً وقرآنا

ضحوا بأشمط عنوان السجود به

قد ينفع الصبرُ في المكروه أحيانا

صبراً فدىّ لكمُ أمِّي وما ولدت

الله أكـبر يا ثـارات عثمانـا

لتسمعَنَّ وشــيكاً في ديارهـم

وكان مقتله في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين للهجرة لثماني ليالٍ خلت منه يوم التروية، وقيل لليلتين بقيتا من ذي الحجة، وقيل بل لثماني عشرة مضت من ذي الحجة.