إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات دينية / الخلفاء الراشدون









مقدمة

المبحث الرابع

علي بن أبي طالب t

أولاً: اسمه ونسبه

هو علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب، ابن عم رسول الله r. وأمه فاطمة بنت أسد ابن هاشم، وهي أول هاشمية تزوجها هاشمي، وولدت هاشمياً، وأول هاشمية ولدت خليفة. أسلمت بعد عشرة أنفس، وهاجرت إلى المدينة، وتوفيت بها، وشهد موتها رسول الله r، وتولى دفنها واضطجع في قبرها. وألبسها قميصه، وأثنى عليها خيراً وقال: "جزاك الله من أم خيراً، فقد كنت أحسن خلق الله صنيعاً إليَّ بعد أبي طالب وأمي".

ولد عليٌّ داخل البيت الحرام بمكة  وسمته أمه أسداً أو حيدراً وهو من أسماء الأسد، وسماه أبوه علياً. ولما بلغ السادسة من عمره أصابت قريش فاقة، وكان أبو طالب كثير العيال فأسرع r، إلى عمه فأخذ علياً ليخفف عنه، عرفاناً بجميله، وأخذ العباس جعفراً وضمه إليه. فعاش علي في بيت النبوة متفتحاً على حياة الحق والعدل، نائياً بنفسه عن لهو الأطفال وعبثهم، فكان أول الغلمان إسلاماً.

ولمّا هاجر النبي، r، إلى المدينة أمر علياً أن يبيت في فراشه، لأن قريشاً أجمعت ليلتها أن تقتل النبي r. فجمعت أربعين شاباً جلداً من بطونها المختلفة ليضربوه r، ضربة رجل واحد، ويتفرق دمه في القبائل. ولكن الله نجاه، وخرج النبي r، وبات عليّ في فراشه وتغطى بثوبه، ثم مكث ثلاثة أيام يرد ودائع النبي r.

ثم إنه لحق بالنبي r، بقباء قبل دخوله المدينة. ولمّا كانت المآخاة بين المهاجرين والأنصار، آخى الرسول r، بينه وبين سهل بن حنيف الأنصاري، وهناك أحاديث تشير إلى أن النبي r، آخى بين نفسه وبين علي، ولكن ضعفها الحافظ بن كثير.

ثانياً: صفاته t

كان ربعة في الرجال إلى القصر أقرب، ضخم المنكبين، ضخم البطن، أصلع كثير شعر اللحية أبيضها كأنها قطن، محافظ على متانة جسمه حتى الستين. وكان يقال له "الأنزع البطين"، تحاكي مشيته مشية النبي r، كان قوياً إذا أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس، إذا مشى للحرب هرول، ما بارز فارساً إلا غلبه، مع خلق رفيع. ففي غزوة الأحزاب لما ضرب فارس العرب عمرو بن عبد ود، اتقاه عمرو بسوأته، فولى علي عنه راجعاً فقال له عمر بن الخطاب: هلا استلبته درعه، فإنه ليس للعرب درع خير منها، فقال علي: ضربته، فاتقاني بسوءته، فاستحييت ابن عمي أن أسلبه. وصارت القصة مثلاً في الشعر قال أبو فراس ابن عم سيف الدولة بن حمدان:

ولا خير في دفع الردى بمذلّـة                          كما ردَّها يوماً بسوءته عَمْرُو

وكان كريماً زاهداً يؤثر المساكين على نفسه وأهل بيته، وفيه وفي أهل بيته نزلت الآيات: ]وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا[ (سورة الإنسان: الآية 8) وكان كثيراً ما يقول: "يا دنيا غري غيري قد بتتك ثلاثا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير"

وكان من أعلم الصحابة، ساعده على ذلك، كما ورد في وصفه: قلب عقول ولسان سؤول. وكان يقول سلوني، فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فو الله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، في سهل أم جبل!.

ثالثاً: دوره في المدينة

في السنة الثانية من الهجرة زوّجه النبي r، فاطمة، وكان رغب فيها أبو بكر وعمر، فاعتذر إليهما النبي r، وخطبها علي فزوجه إياها وعمرها خمسة عشر عاماً. وقال لها النبي r، ما ألوت أن أزوجك خير أهلي، وأصدقها أربعمائة درهم كانت ثمن درعه الحطمية التي سَلّحه بها النبي r.

وقد عرف عليّ قدر فاطمة الزهراء، ومكانتها من قلب النبي r، فلم يتزوج عليها حتى ماتت. ولقد أراد أن يتزوج ابنة أبي جهل، فأبى النبي r، إباءّ شديداً فترك علي ذلك.

شهد علي المشاهد كلها مع النبي، r: شهد بدراً وكان معلّماً بصوفة بيضاء، وكان يحمل راية المهاجرين فكان هو وحمزة بن عبدالمطلب وعبيدة بن الحارث أول المبارزين، وقتل عليّ الوليد بن عتبة. وكان علي صاحب اللواء بعد مصعب بن عمير يوم أحد، وثبت حين انهزم الناس فيمن ثبت، وقاتل قتال المستميت حتى أصابه ست عشرة ضربة.

وفي يوم الخندق عندما برز عمرو بن عبد ود، وكان فارساً صنديداً يقوّم بألف رجل ينادي للمبارزة، فقال علي للنبي: أنا لها يا نبي الله، فقال r: "إنه عمرو، اجلس"! مرتين، ونادى الثالثة مرتجزاً:

ولقد بُحِحْتُ من النـــــداء                         لجمعهم هل من مبـــــارز

ووقفت إذ جَبُن المشــــجع                          موقف القرن المناجــــز

ولذاك إنـــي لــــم أزل                         متسرعاً قبل الهزاهـــز

فأذن الرسول r، لعلي فخرج وهو يرتجز:

لا تعجلن فقد أتــــــاك                           مجيب صوتك غير عاجز

في نية وبصيــــــرة                             والصدق منجي كل فائـز

إني لأرجو أن أقيـــــم                            عليك نائحة الجنائـــز

ثم تصاولا فقتله علي بضربة.

وسلمه النبي r، الراية يوم خيبر سنة سبع من الهجرة، وكان النبي r، قد قال ]لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلاً يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 4423) فأعطاها علياً ففتح الله عليه.

وخلّفه الرسول r، على المدينة في غزوة تبوك، فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلاّ استثقالاً له، وتخففاً منه. فلما سمعها علي لحق النبي r، بالجُرف فأخبره، فقال له النبي r:]‏أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ ‏هَارُونَ ‏مِنْ ‏مُوسَى[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 3430) إلا أنَّه لا نبي بعدي.

وبعثه النبي r، على رأس عدد من السرايا، حتى إذا جاء موسم الحج سنة تسع، أمرّ أبا بكر على الحج وبعث علياً ليبلغ عنه أوائل سورة براءة، وقال:‏ ‏]لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يُبَلِّغَ هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي فَدَعَا عَلِيًّا فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 3015).

ولما تُوفي الرسول r، كان علي آخر الناس عهداً به، r، وهو الذي تولى غسله وأنزله مع عمه العباس بن عبدالمطلب في لحده. ولمّا عقُدت البيعة لأبي بكر الصديق، يذكر كثير من المؤرخين أنه تأخر عن بيعته أياماً وقيل سبعين ليلة ، ودفع علي t عن نفسه تهمة أنه كان كارهاً بيعة أبي بكر قائلاً لأبي عبيدة: "والله ما قعدت عن صاحبكم كارهاً له، ولا أتيته فرقاً، ولا أقول ما أقول تعله، وأني لأعرف منتهى طرفي".

وكان أبو بكر يستشيره في جلائل الأمور مع كبار الأصحاب من أهل الشورى، وكان عمر ينزله المنزلة الكبرى من التكريم، وتزوج ابنته أم كلثوم، وكثيراً ما استخلفه على المدينة في غيابه، وله فتاوى كثيرة في عهد عمر وكان عمر يستعيذ من قضية "لا أبا حسن لها".

ومن أمثلة أقضية أبي الحسن قال ما يروى أن عمر بن الخطاب t أرسل إلى امرأة فقيل لها: أجيبي عمر، فقالت: يا وِيْلها ما لها ولعمر؟ فبينما هي في الطريق فزعت فضربها الطلق، فدخلت داراً فألقت ولدها، فصاح الصبي صيحتين ثم مات. فاستشار عمر أصحاب النبي r، فأشار عليه بعضهم أن ليس عليك شيء إنما أنت وال ومؤدب، وصمت علي. فقال له عمر: ما تقول! قال: إن كانوا قالوا برأيهم، فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك، فلم ينصحوا لك. أرى أن ديته عليك فإنك أنت أفزعتها، وألقت ولدها في سبيلك. فأمر علياً أن يقسّم ديته على قريش.

وكذلك كان علي t في عهد عثمان يبذل له النصح، ولما حصره المارقون استأذنه علي في الخروج إلى خيبر، فأرسل له عثمان كتابه الشهير يقول فيه:

فإن أكُ مأكولاً فكن خير آكلي                           وإلا فأدركني ولمّا أُمـــزَّق

فعاد عليّ وعرض أن يُقاتل دون الخليفة، فأبى عثمان t كما سبق في سيرة عثمان. فقُتل عثمان واستولى الثوار على المدينة، وجاء الناس إلى علي ليبايعوه فقال: ليس ذلك إليكم، وإنما هو لأهل الشورى وأهل بدر، ولما خاف علياً الفتنة خرج إلى المسجد فبايعوه، وتخلف عن بيعته جماعة منهم سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك من الأنصار وغيرهم. وكانت بيعته في الثالث والعشرين من ذي الحجة سنة 35هـ.

رابعاً: سياسته t

واجهت علياً t بعد بيعته قضية قَتَلة عثمان. فأشار عليه بعض الصحابة بالاقتصاص منهم، ولكنه أرجأ ذلك الأمر حتى تهدأ الأحوال، فقد كان الثوار يسيطرون على المدينة، وبأيديهم القوة والطول.

وعزم عليّ على تغيير عمال عثمان على الأمصار، واستأذنه طلحة والزبير في الخروج إلى مكة، ومن هناك خرجوا إلى البصرة في جيش مع السيدة عائشة يطالبون بدم عثمان. فخرج إليهم الإمام علي وانضم إليه أهل الكوفة. وحاول الإصلاح فأرسل القعقاع بن عمرو، وكان رجلاً عاقلاً، إلى معارضيه، فاستطاع أن يقنع عائشة وطلحة والزبير بالصلح ونبذ القتال. ولكن قتلة عثمان، وعلى رأسهم أصحاب عبدالله بن سبأ، لم يرضوا ذلك. فبدأوا القتال مع الفجر، فظن أصحاب الجمل، طلحة والزبير وعائشة، أن علياً قد غدر بهم، وظن علي أنهم غدروا به. ودارت رحى المعركة حتى عُقر الجمل، وخرج الزبير من المعركة نادماً فتبعه عمرو بن جرموز فقتله. وانتهت المعركة بانتصار علي، وقُتل من الفريقين عشرة آلاف، خمسة آلاف من كل فريق، وكانت المعركة لعشر ليال خلون من جمادى الآخرة سنة 36هـ.

ثم جهز الإمام عليّ عائشة وشيعها إلى المدينة، وكانت هذه المرة الأولى التي يلتقي فيها المسلمون يقاتل بعضهم بعضاً، وقد وقف علي t موقفاً كريماً من خصومه، فأمر إلا يقتل مُدبر ولا يقضى على جريح، ولا يكشف ستر، ولا يؤخذ مال، وصلى على شيعته ومخالفيه.

موقعة صفين

سار علي بعد فراغه من موقعة الجمل إلى الكوفة فدخلها. وأرسل إلى معاوية بن أبي سفيان جرير بن عبدالله البجلي يدعوه إلى البيعة، كما بايع أهل المدينة ومكة والبصرة والكوفة وغيرهم. فأبى معاوية، فخرج عليَّ في جيشه وخرج معاوية والتقوا في ناحية صفين. وعبر الإمام علي الفرات بجيشه، وبدأت المناوشات يوم الأربعاء الأول من صفر سنة 37هـ، واستمرت أسبوعاً، ثم تلاحم الجيشان في قتال ضار صبيحة اليوم الثامن حتى المساء، وأعادا الكرة في اليوم التالي واتصل القتال بالليل، وكانت تسمى "ليلة الهرير"[1]، وفيها قتل عمار بن ياسر. وكان معاوية يقول: أردت في هذا الوقت أن انهزم، فذكرت قول ابن الإطنابة:

أبت لي عفتي وأبي بلائــي                           وأخذي الحمد بالثمن الربيــح

واعطائي على المكروه مالـي                          وضربي هامة البطل المشـيح

وقولي كلما جشأت وجاشـت                           مكانك تحمدي أو تستريحــي

فمنعني من الفرار.

ثم رفع أهل الشام المصاحف يطالبون بتحكيم كتاب الله، ودار جدل طويل بين علي وأصحابه. فكان من رأي علي أن يمضي في القتال، لأن هذه خدعة، ولكن أصحابه أبوا عليه فقبل التحكيم، وكتبوا بذلك كتاباً. واختار علي أبا موسى الأشعري، واختار معاوية عمرو بن العاص. واجتمع الحكمان في رمضان العام نفسه، واتفقا على عزل عليّ ومعاوية ورد الأمر شورى بين المسلمين، فرفض عليّ حكمهما ورده عليهما.

وفي هذا الوقت كان جماعة القراء في جيش علي قد كرهوا التحكيم وعدوه كفراً، وكانوا يقولون "لا حكم إلا لله" فقال علي: "كلمة حق يراد بها باطل". واجتمعت الخوارج في منزل عبدالله بن وهب الراسبي وبايعوه في شوال سنة سبع وثلاثين، وخرجوا في ثمانية آلاف. فبعث الإمام علي عبدالله بن عباس فناظرهم، وعاد منهم أربعة آلاف، وخرج الباقون واجتمعوا بالنهروان وعاثوا في الأرض فساداً، وقتلوا عبدالله بن خباب بن الأرت، وبقروا بطن امرأته وكانت حاملاً.

فخرج إليهم الإمام علي t ووعظهم وحذّرهم وكانوا يتنادون: "الرواح الرواح إلى الجنة"، وتأهبوا للقتال. وأمر عليّ أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج وينادي: "من انضم إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن..." فانصرف منهم طوائف كثيرة، فقاتل الإمام الباقين وقضى عليهم في شوال سنة ثمان وثلاثين للهجرة، ولم ينج منهم إلا دون العشرة، وقتل من جيش علي دون العشرة، وهذا مما بشر به النبي r، علياً.

ثم إنّ علياً t حث جنوده لقتال أهل الشام، فتخاذلوا عنه، فدخل الكوفة. وبعث الأشتر النّخعي عاملاً على مصر إذ شغب أهلها على عامله محمد بن أبي بكر، فمات الأشتر مسموماً في الطريق بإيعاز من معاوية بن أبي سفيان ، وجهز معاوية جيشاً بقيادة عمرو بن العاص وسيره إلى مصر. ولم يزل الإمام علي يحث الناس على الجهاد وهم يتخاذلون عنه، حتى ملَّهم، وكثيراً ما كان يقول "ما يحبس أشقاها؟ ما له لا يقتل" وكان النبي، r، قد أخبره أنه سيقتل، قال له رسول الله r، ]من أشقى الأولين؟ قال: عاقر ناقة صالح، قال: فمن أشقى الآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم قال: الذي يضرب هذه فتتخضب هذه بالدم. وأشار إلى رأسه ولحيته[.

خامساً: أزواجه وذريته

تزوج t بعد وفاة فاطمة بعدد من النساء منهن: أمامة بنت أبي العاص بن الربيع وأمها زينب بنت رسول الله r، وهي التي حملها النبي r، في الصلاة. ومنهن خولة بنت جعفر، وليلى بنت مسعود بن خالد، وأم البنين بنت حزام بن خالد، وأسماء بنت عميس.

وله عدد من الأولاد اختلف في عددهم، فأجل أبنائه الذكور الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية، كما سمى عدداً من أولاده بأسماء الخلفاء قبله. فسمى أبا بكر، وعمر وعثمان. وأما البنات فمنهن: أم كلثوم، التي تزوجها عمر بن الخطاب، وزينب، وهما ابنتا فاطمة الزهراء، وزينب هي التي بقي عقبها من جميع بناته.

سادساً: من أقواله المأثورة

كان الإمام علي خطيباً مفوهاً، وله خطب كثيرة وردت في كتب الأدب، وجمعت في كتاب "نهج البلاغة"، لكن فيها كثير من المنتحل المنسوب إليه. ومن خطبه لما أغار سفيان بن عوف الأسدي على الأنبار في خلافته، وعليها عامله حسان البكري، فقتَل سفيانُ حسانَ، وأزال الخيل عن ثغورها، خطب الإمام علي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل، وأشمله البلاء وألزمه الصغار، وسامه الخسف، ومنعه النِّصف[2]. إلا وإني دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فو الله ما غُزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم وثقل عليكم قولي، فاتخذتموه وراءكم ظهرياً، حتى شنت عليكم الغارات، هذا أخو غامد قد بلغت خيله الأنبار، وقتل حساناً البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها[3]، وقتل منكم رجالاً صالحين. وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينزع حجلها وقُلبها ورعاثها[4]، ثم انصرفوا وافرين ... فوا عجباً من جِدِّ هؤلاء في باطلهم، وفشلكم عن حقكم! فقبحاً لكم وترحاً[5]! حين صرتم غرضاً يرمى، يُغار عليكم ولا تغيرون، وتُغْزون ولا تَغْزون، ويعصى الله فيكم وترضون، فإذا أمرتكم بالمسير إليهم في أيام الحر قلتم: حمارَّة القيظ ... وإذا أمرتكم بالمسير إليهم ضحى في الشتاء: قلتم أمهلنا حتى ينسلخ عنا هذا القرِّ، كل هذا فراراً من الحر والقرُ،  فأنتم والله من السيف أفر. يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام الأطفال ويا عقول ربات الحجال، وددت أن الله أخرجني من بين أظهركم، وقبضني إلى رحمته من بينكم، وأني لم أراكم ولم أعرفكم، معرفة والله جرَّت وهَنْاً، وريتم والله صدري غيظاً، وجرعتموني الموت أنفاساً، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: إن ابن أبي طالب شجاع، ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم! وهل منهم أحد أشد لها مراساً وأطول لها تجربة مني! لقد مارستها ابن عشرين فهاأنذا الآن قد نيَّفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يُطاع" .

وله شعر كثير جُمع في ديوان، ودخل فيه كثير من المنتحل. ومما يروى من شعره:

إذا المرء لم يحفظ ثلاثـــاً                            فبعه ولو بكفٍ من رمــاد

وفاء للصديق وبذل مـــالٍ                           وكتمان السرائر في الفؤاد

ومن أقواله المأثورة كذلك

1. الناس أشبه بزمانهم منهم بآبائهم.

2. قيمة كل امرئ ما يحسنه.

3. من عَرفَ نفسه فقد عَرفَ ربه.

4. من عَذُبَ لسانه (أي صار عَذْباً) كثر إخوانه.

5. بالبر يستعبد الحر.

6. بشّر مال البخيل بحارس أو وارث.

7. إذا تم العقل نقص الكلام.

8. قُوتُ الأجْسَامِ الغِذاءُ، وَقُوتُ العُقُولِ الحِكمَةُ.

9. صاحبْ الخيار، تأمنْ الأشرارَ.

10. كفاك أدباً لنفسك اجتناب ما تكرهه من غَيرك.

11. غَايَةُ الأَدَب أن يَستْحِي الإنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ.

12. لاَ تَفْرَحْ بِسُقُوطِ غَيرِكَ، فَإنَّك لا تَدرِي ما تضْمِرُ لك الأيّامُ.

13. لاَ تُكْرِهُوا أَولاَدَكُمْ عَلَى أخلاقكم، لأَنَّهُمْ مَخلُوقُونَ لِزَمَانٍ غَيِر زَمَانِكُمْ.

14. إِنَّهُ لاَ غَنَاءَ فِي كَثْرةِ عَدَدِكُمْ مع قِلَّةِ اجتْماعِ قُلُوبِكُمْ.

15. شَتَّانَ مَا بَينَ عَمَليْنِ، عَمَل تَذْهَبُ لَذَّتُهُ، وتَبقَى تَبِعَتُهُ، وعَمَل تَذْهَبُ مَؤُونَتُهُ، ويَبَقى أجْرُهُ.

16. أَحْسِنْ كَمَا تُحِبُ أَن يُحْسَنَ إِليْكَ.

17. اتَّقِ دعوة المظلوم.

18. مَنْ بَاَلَغَ فِي الخُصُومَةِ أَثِمَ.

19. أعقَلُ الناسِ أعذَرُهُمْ للناسِ.

20. منع الجود سوء ظن بالمعبود.

21. لا تتكل على المُنى فإنها بضائع النوكى (الحمقى).

22. قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك، هذا ينفّر الناس بتهتكه، وهذا يضل الناس بتنسكه.

23. وعن ابن عباس  قال: ما انتفعت بكلام بعد رسول الله r، كانتفاعي بكتاب كتبه إليّ أمير المؤمنين علي t فإنه كتب إليَّ: "أما بعد، فإن المرء يسوؤه فوت ما لم يدركه، ويسره إدراك ما لم يكن ليفوته، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك، وليكن أسفك على ما فات منها، وما نلت من دنياك فلا تكن به فرحاً، وما فاتك منها فلا تأس عليه، وليكن همك لما بعد الموت والسلام".

وقال t لعمر بن الخطاب t إن أردت أن تلحق بصاحبيك فاقصر الأمل، وكُل دون الشبع، وارقع القميص، البس الإزار واخصف النعل تلحق بهما.

وكان يطبق هذا الكلام على نفسه قبل خلافته وبعدها، t وأرضاه.

سابعاً: مقتله t

اجتمع ثلاثة من الخوارج، عبدالرحمن بن مُلْجَم المرادي، والبُرَك بن عبدالله التميمي، وعمرو بن بكر التميمي، في مكة وذكروا قتلى النهروان فتعاقدوا على قتل الثلاثة: علي ومعاوية وعمرو بن العاص. فخرج البُرَك إلى الشام وعمرو بن بكر إلى مصر، وابن مُلْجَم إلى الكوفة. فأما البُرَك فلم يستطع قتل معاوية بل ضربه على فخذه، وأما عمرو بن العاص فإن الله أنجاه بمرض أصابه فأناب للصلاة عنه خارجة بن حذافة صاحب شرطته، فضربه الخارجي فقتله، وقال كلمته المشهورة "أردت عمراً وأراد الله خارجة".

وأما ابن مُلْجَم فدخل الكوفة، وكتم أمره حتى عن أصحابه من الخوارج. وبينما هو جالس في قوم من بني الرباب يتذاكرون قتلاهم يوم النهروان، أقبلت امرأة منهم يقال لها قطام بنت الشِّجْنة، قُتل أبوها وأخوها يوم النهروان، وكانت جميلة فأعجب بها ابن مُلْجَم وخطبها. فاشترطت عليه ثلاثة آلاف وخادماً وقينة (أي جارية)، وأن يقتل علياً. فأجابها قائلاً هو لك، والله ما جئت هذه البلدة إلا لقتله. فتزوجها، فجعلت تحرضه، واتفق معه رجلان من الخوارج وكمنوا لعلي t ليلة الجمعة خمس عشرة من رمضان. وكان من عادة الإمام أن ينادى الناس للصلاة إذا خرج. فضربه ابن مُلْجَم على رأسه فسال دمه على لحيته كما أخبره الرسول r. وحُمل إلى منزله، وقُبض على ابن مُلْجَم وأتُي به مكتوفاً. أما صاحباه فقتل أحدهما، أدركه رجل من حضرموت فقتله، وأما الآخر فنجا.

ولما جيء بابن مُلْجَم قال لهم علي t أحسنوا نُزُله، وأكرموا مثواه، فإن أعشْ فأنا أولى بدمي قصاصاً أو عفواً، وإن أمت فألحقوه بي، أخاصمه عند رب العالمين ولا تقتلوا بي سواه، إن الله لا يحب المعتدين.

وتُوفي t يوم الأحد لسبعة عشر من رمضان سنة 40هـ ، وكان أصحابه قد طلبوا منه أن يستخلف عليهم فأبى ذلك وقال: "إن يرد الله بالناس خيراً فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم" وكان عمره ثلاثاً وستين سنة، ومدة خلافته أربع سنين وعشرة أشهر.



[1] الهرير: صوت الكلب إذا نبح وكشّر عن أنيابه، وقد يُطلق على صوت دوران الرحى.

[2] النصف: الانتصاف.

[3] المسالح: الثغور.

[4] القلب: السوار، والرعاث: القرط.

[5] الترح: عدم السرور.