مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

الفصل السادس عشر

مُبَارزة مع شيفنمان

          تبيَّن لي، مما لاحظته عن الشخصية الفرنسية، أن الفرنسيين يمتازون بخصلتين هما وجهان لعملة واحدة: ذاتية الاستقلال، وكراهية التبعية. وهذا ما يدفعهم إلى محاولة التفوق على الدوام. وهو موقف أتفهمه تماماً وأحترمه. غير أن هذه الشخصية تسببت بعددٍ من المشاكل إبَّان أزمة الخليج. وهي، على كل حالٍ، مشاكل متوقَّعة في مثل تلك الظروف.

          لم يسلم من الجدال أي أمر من الأمور المتعلقة بالقوات الفرنسية، التي وصلت إلى المملكة تحت اسم ( قوات داجية ) les forces daguet، سواء أَتَعلق الأمر بمواقع نشْر القوات البرية والمقاتلات الفرنسية، أم بمن سيتولى السيطرة عليها، أم بمغامرات دورياتها الاستطلاعية، أم بالترفيه عن جنودها، أم بالموقف المتردد من الحرب الذي أبداه في باريس جان بيير شيفنمان jean-pierre chevenement وزير الدفاع الفرنسي.

          وعلى كل حال، عليَّ أن أذكر في الوقت نفسه، أن القوات الفرنسية بذلت من الجهد في التدريب الشاق المستمر، أكثر مما بذلته القوات الأخرى. وكذلك بذل المورَّدون الفرنسيون جهوداً استثنائية لتزويدنا بقطع الغيار التي كنّا في أَمَسّ الحاجة إليها لأسلحتنا الفرنسية الصنع. فكانوا ينجزون أعمالهم والتزاماتهم بدقة واقتدار، لمجرد أن تتم تسوية خلافاتهم معنا. وتبيَّن لي أن التعامل مع القادة العسكريين الفرنسيين لا يختلف كثيراً عن التعامل مع رجال الصناعة الذين عرفتهم عندما كنت أُجري معهـم المفاوضات في شأن عقود الدفاع الجوي. كانوا مفاوضين عنيدين لا يعرفون الهوادة، إلاّ أنهم يلتزمون بتنفيذ بنود العقود بدقة بعد الاتفاق عليها.

          أسهمت فرنسا في قوات التحالف بعدد 54 طائرة مقاتلة من نوع جاجوار jaguar وميراج f-1 وميراج 2000، وبعدد 60 طائرة عمودية هجومية، وبعدد من القطع البحرية، وبفِرقة مدرعة خفيفة مجهزة بدبابات amx - 10 rc المدولبة ( أي ليست مجنزرة بل تسير على عجلات )، وهي قوة مدرَّبة ذات خفة حركة عالية يفتخر بها كل قائد عسكري. ولم يكن من مهام هذه الفرقة احتلال الدفاعات الثابتة، أو عبور الموانع الكثيفة، أو اختراق المواقع الدفاعية الحصينة المعادية؛ لأنها تتميز بالقدرة على التحرك لمسافات طويلة، وبسرعات عالية، وتُكَلَّف عادة بتوجيه ضربات قوية ومفاجئة إلى أجناب ومؤخرة العدو. ويتلخص شعارها في: "خفة الحركة والمفاجأة". أُسندت قيادة القوات الفرنسية، وقوامها 16500 جندي في مسرح العمليات، إلى الفريق ميشيل روكجوفر michel roquejeoffre، وهو رجل نحيف البنْية، محنك وبالغ الصرامة، حتى إن ضباط أركاني أطلقوا عليه اسم "نابليون الثاني ".

          شهدتُ، ذات مرة، تدريباً على عملية الاستجابة السريعة، اشتركت فيه عربات مدرعة وطائرات عمودية من أحد ألوية الفِرقة الفرنسية، فأُعجبتُ بصلابة الوحدات واستعدادها القتالي كل الإعجاب. وبعد انتهاء التدريب، دُعيتُ إلى تناول وجبة خفيفة مع الضباط الفرنسيين.

          وهناك، وسط الغبار وعويل الرياح في الصحراء القاحلة، اصطفَّت لتحيتي ثُلَّة من حرس الشرف بأرديتهم البيضاء وسيوفهم المشرعة، حتى المُضيف، الذي قدّم إلينا الشاي، كان يعلق أوسمته الحربية على صدره!

          وقبل أن أبدأ سرد بعض التفاصيل عن المصاعب التي وَاجَهْتُها مـع الفرنسيين، أعتقد أنه من الضروري إعطاء لمحة عن المواقف السياسية التي اتخذها الفرنسيون إزاء الأزمة. إذ إن تلك المواقف تشكل خلفية للمناقشات التي دارت بيني، من جهة، وبين وزير الدفاع والقادة العسكريين الفرنسيين، من جهة أخرى.

          ظلت فرنسا مورد الأسلحة الرئيسي إلى العراق منذ عام 1974، وحليفته على مدى 16 عاماً قبل غزو الكويت وكان شيفنمان، وهو عضو يساري متشدد في الحزب الاشتراكي، وعضو قياديّ بارز في جمعية الصداقة الفرنسية - العراقية، يسعى علناً إلى إسناد دور بارز إلى العراق في الشرق الأوسط. كان يرى في نظام صدّام البعثي العلماني، حاجزاً منيعاً أمام التيار الإسلامي. وليس ثمة ما يدعو إلى الاستغراب حول العلاقات الفرنسية الوطيدة مع بغداد إذ أَبْرَمَتْ فرنسا مع العراق عقوداً ضخمة لتزويده بالأسلحة عام 1974 ثم في أعوام 1977 و1982 و1985 و1987. وعندما وجد العراق نفسه في وضع حرِج أثناء حربه على إيران عام 1983، قدّمت فرنسا إلى القوات الجوية العراقية طائرات من نوع super-etendard المزوَّدة بصواريخ أكسوست من أسطولها الجوي الخاص. لذلك، كانت العلاقات العراقية - الفرنسية الحميمة، التي توطدت على مدى السنين والتي انطوت على عقود بمليارات الدولارات، حقيقة سياسية واضحة في المنطقة. وكانت تلك العلاقة تماثل العلاقات التي تربط بريطانيا بعدد من دول الخليج، أو العلاقة التي تربط المملكة بالولايات المتحدة. وغنيّ عن البيان أننا نرتبط أيضاً مع فرنسا وبريطانيا بعلاقات وثيقة.

          وَلمّا كان شيفنمان متعاطفاً "أيديولوجياً" مع صدّام ومعارضاً للتعاون مع الولايات المتحدة، ولا يُكِنّ محبة كبيرة لقادة دول الخليج، فقد تعذر عليه أن يحذو حذو واشنطن ويناصب صدّام حسين العداء السافر بعد غزوه الكويت كان ميالاً إلى تبرئة صدّام بحجة عدم وجود أدلة كافية ضده. وهذا ما أكده في كتاب له نُشر بعد الأزمة. ذكر في ذلك الكتاب أن الولايات المتحدة ربما تعمدت أن تدفع العراق إلى غزو الكويت بهدف التخلص من صدّام حسين ؛ لتصورها أنه كان يهدد السوق النفطية، وأمن إسرائيل واستقرار المنطقة بكاملها. وبعبارة أخري، كان شيفنمان يعتقد أن صدّام حسين لم يكن معتدياً، بل كـان ضحية مؤامرة .

          وَلمّا كان شيفنمان مقتنعاً بمثل هذه الآراء، فقد عارض، منذ البداية، القيام بأي عمل هجومي ضد العراق وظل يضغط من أجْل استمرار المفاوضات مع بغداد حتى اللحظة الأخيرة. وأصرّ على أن يكون الهدف الوحيد من الحرب هو الدفاع عن المملكة. ومع أنه اقتنع، أخيراً، بضرورة تحرير الكويت إلاّ أنه لم يقبل أن يؤدّي ذلك إلى تدمير قدرات العراق العسكرية. وعندما كانت قوات التحالف تضع اللمسات الأخيرة على خطة عمليات عاصفة الصحراء، اعترض شيفنمان على الحملة الجوية الإستراتيجية المقترحة ضد الأهداف العراقية، وعلى المناورة بالالتفاف من جهة الغرب ( المسماة الخطاف الأيسر ) التي كانت تهدف إلى تطويق فِرَق الحرس الجمهوري العراقي خارج الكويت وتدميرها. وعلى النقيض من ذلك، كان الرئيس الفرنسي ميتران مقتنعاً، منذ البداية، أن الموقف قد يتطلب حلاًّ عسكرياً فبعد الغزو بأربعة أيام، كان أول رئيس غربي يعلن أن الأزمة دخلت مرحلة قد تقود إلى حرب "une logique de guerre" على حد تعبيره. كما أعطى إشارة مماثلة، عندما دفع بحاملة الطائرات كليمنصو clemenceau إلى المنطقة، وعلى متنها طائرات عمودية هجومية قادرة على إسناد القوات البرية الفرنسية، إذا دعت الضرورة إلى نشْرها. كما أن اقتحام العراقيين ونهْبهم مقر إقامة السفير الفرنسي في الكويت في شهر سبتمبر، زادا من تشدُّد موقف الرئيس الفرنسي.

          بعد نشْر القوات الفرنسية، ازدادت العلاقة توتراً بين شيفنمان، وزير الدفاع الفرنسي، و الرئيس ميتران كان الوزير حريصاً على ألاّ تتخذ القوات الفرنسية مواقـع قريبة من القوات الأمريكية، أو تشترك معها في القواعد الجوية، أو تعتمد عليها. ويُعْزى السبب في ذلك إلى خشيته من أن يتورط الفرنسيون في عمليات هجومية على العراق من دون موافقة مسبقة من الحكومة الفرنسية. فلم يكن هناك شيء يتعلق بالمشاركة الفرنسية في التحالف يمكن اتخاذه بصورة آلية؛ لأن شيفنمان كان يريد التفاوض تفصيلياً في شأن شروط وبنود كل إجراء مشترك والموافقة عليه مقدماً.

          ومنذ بداية الأزمة في شهر أغسطس 1990، شَرَعْتُ أجري حواراً طويلاً، صعباً وشاقاً أحياناً، مع كلٍّ من السفير الفرنسي جاك بيرنيير jacques berniere، والملحق العسكري الفرنسي، وضابط برتبة لواء من البعثة العسكرية الفرنسية. وهو الحوار الذي تابعته مع الفريق أول موريس شميت maurice schmitt، رئيس هيئة الأركان الفرنسي، ومع الفريق ميشيل روكجوفر لدى وصوله إلى المملكة في 19 سبتمبر عام 1990 ليتولى قيادة القوات الفرنسية. وبعد ذلك بثلاثة أيام، أي في 22 سبتمبر، التقينا في ينبع، على ساحل البحر الأحمر، لاستقبال طلائع "فِرقة داجية" وبعض أطقم الطائرات العمودية الفرنسية، التي جاءت من حاملة الطائرات كليمنصو، الراسية في البحر الأحمر. [وعلمت، مصادفة، أن كلمة "داجية" وهو الاسم الكودي ( الرمزي ) الذي اختير عشوائياً للقوات الفرنسية المشاركة في التحالف، تعني بالفرنسية "الأيَّل" أو "الشادِن" ( وهو مسمى الغزال الصغير الذي لم تنبت قرونه بعد)]

          رافقني الفريق روكجوفر أثناء عودتي جواً إلى الرياض. وحاول، أثناء الرحلة، أن يبرز لي الميزات الخاصة التي تتمتع بها قواته، لا سيما خفة الحركة. كان يعارض أن تحتل قواته مواقع دفاعية ثابتة، ويرغب في أن تُسْتغَل خفة حركتها وقدرتها على المناورة السريعة في توجيه الضربات يميناً ويساراً على جبهة واسعة إلى أي تهديد محتمل. وهي وجهة نظر منطقية؛ لأنها تتفق مع العقائد القتالية لاستخدام الوحدات والتشكيلات المدرعة. كانت فكرته تنطوي على السماح للقوات العراقية، في حال هجومها، بالتقدم إلى داخل المواقع الدفاعية، ثم إيقافها وصدِّها عند خط معين، وتوجيه ضربات مضادة إلى أجنابها ومؤخرتها. وهي أفكار تكتيكية صحيحة، وافقت أفكاري منذ البداية، عندما قررت أن يكون الحد الأمامي للدفاعات عند رأس مشعاب، لجذب القوات العراقية إلى "منطقة قتل"، وتعريضها للقصف الجوي والضربات المضادة.

          تركزت المناقشات، التي أجريتها مع الفرنسيين، على عدد من القضايا المتداخلة التي كانت العلاقات القيادية أشدها تعقيداً وأكثرها صعوبة. إذ لم يكن الفرنسيون راغبين في العمل تحت القيادة الأمريكية، خلافاً للبريطانيين. وفي الوقت نفسه، كانوا يعارضون الانضمام إلى المصريين أو السوريين أو المغاربة أو التشيكوسلوفاكيين أو غيرهم من القوات التي كانت تحت قيادة القوات المشتركة. كانوا يرغبون في إنشاء قيادة مستقلة خاصة بهم على قدم المساواة مع قيادة شوارتزكوف وقيادتي.

          أخبرت المبعوثين الفرنسيين أن عليهم الاختيار بين قيادتي أو قيادة شوارتزكوف، مع يقيني أنهم لن يختاروا قيادة شوارتزكوف. وشرحت لهم أننا في حاجة إلى هيكل قيادي واضح لتسيير الأمور في ميدان المعركة وحماية أرواح الجنود، إذ لا يمكننا تعريض حياتهم للخطر بسبب النزاعات حول العلاقات القيادية.

          قال لي السفير الفرنسي: "أريدك أن تعرف أن القوات الفرنسية لا تعمل إلاّ تحت سلطة القيادة الوطنية الفرنسية، أي الحكومة الفرنسية". فأجبته قائلاً: "هذا المبدأ ينطبق كذلك على كل القوات الموجودة على أرضنا. على كل حال، ما دامت حكومتكم قد وافقت على مساندة الدفاع عن المملكة، ودخلت قواتكم مسرح العمليات، فقد أصبحتم جزءاً من هيكل القيادة المحلية التي لا شأن لها بالسياسة. وهذا المبدأ لا ينطبق على القوة الفرنسية فحسب، بل على كل القوات التي جاءت لمساندتنا".

          ومما زاد الأمر تعقيداً إصرار شيفنمان على ألاّ تتحرك القوات الفرنسية في المنطقة، من دون الرجوع إليه شخصياً في باريس. بينما كانت لدى القائد البريطاني السير بيتر دي لابليير الصلاحيات من لندن، ليفوض الأمريكيين السيطرة العملياتية على قواته، إن وجد ذلك ملائماً. أمّا روكجوفر، فلم يكن يتمتع بمثل تلك الصلاحيات. فكلما طلبنا منه تنفيذ أمر ما، كان عليه الاتصال بقيادته العليا للحصول على موافقتها قبل تلبية طلبنا. وهكذا أخذت الاستفسارات والتعليمات تطير جيئة وذهاباً، مُؤخِّرةً اتخاذ القرارات.

          وبناء على تعليمات من باريس، أراد روكجوفر أن يضع قيوداً مُحكَمَة على المشاركة الفرنسية. فطلب إلينا أن نُعِدّ ما يشبه العقد ونوقِّعه معاً، محددين فيه مهمة قواته ضمن محدّدات زمانية ومكانية. وحينئذ فقط، يستطيع أن يضع قواته تحت سيطرتي العملياتية. كما أرادت باريس أن تحتفظ لنفسها بحق سحب القوة في أي وقت تشاء، إن هي رأت أن العقد قد انتُهك. وبدا كأن الفرنسيين يسعون إلى الاحتفاظ بحقهم في عدم الاشتراك في القتال، فشروطهم هذه توحي بعدم الثقة بنا، فضلاً عن أنها لا تتناسب مع الأحداث الطارئة والسريعة التغير أثناء الحرب. فماذا لو شنّ العراقيون هجوما علينا؟ فهل يتسع الوقت عندئذٍ لمناقشة مثل هذه الصغائر الشكلية، والتفاصيل القانونية؟ عند ذلك، اعترضتُ قائلاً: "إنكم تريدون مساندتنا في الدفاع عن أنفسنا، ولكنكم، في الوقت نفسه، غير مستعدين للعمل تحت قيادتنا!".

          أخبرت الفريق روكجوفر والسفير الفرنسي أنه لو أصرّ الفرنسيون على أن تكون لهم قيادة مستقلة، فلهم مطلَق الحرية في البقاء خارج مسرح العمليات، وعدم الاشتراك في القتال. لذلك، كانت مسألة القيادة، تابعة أو مستقلة، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمواقع انتشار القوات الفرنسية، داخل مسرح العمليات أو خارجه.

          سألني الفرنسيون إن كان في استطاعتهم اتخاذ تبوك قاعدة لفِرقتهم، وهي من قواعدنا الرئيسية في الشمال الغربي من المملكة. كانت تبوك، في ذلك الحين، مكتظة؛ لأنني كنت قد خصَّصتها للبريطانيين الذين أبدوا في تلك المرحلة التزاماً بالمشاركة في الصراع أكثر من الفرنسيين. إذ كان البريطانيون يخططون للاشتراك بقوة ضاربة رئيسية من طائرات تورنيدو. وكان الأمريكيون كذلك موجودين في قاعدة الملك فيصل الجوية في المنطقة الشمالية الغربية في تبوك. وأدركت أن المتاعب ستنشأ، لا محالة، إذا انضم الفرنسيون إليهم. وكان في تقديري، أني إذا وضعتهم بصفة مؤقتة فيها، فإنهم لن يغادروها بسهولة. لذلك، رفضت إرسالهم إلى تبوك. سألوا، بعد ذلك، إن كان في استطاعتهم اتخاذ مدينة "الوجه"، وهي مدينة صغيرة على البحر الأحمر، قاعدة لطائراتهم العمودية، حتى تكون قريبة من حاملة الطائرات كليمنصو. ولكني كنت أرى أنه إذا كانت مهمة هذه الطائرات هي تقديم الإسناد الجوي إلى قواتهم البرية، فمن الأفضل أن تتمركز الطائرات في مواقع أقرب ما تكون إلى جبهة القتال.

          كنت أفضِّل أن أنشر القوات الفرنسية في منتصف مسرح العمليات، على مقربة من مدينة الملك خالد العسكرية ومن حفر الباطن، حيث وعدتهم بتخصيص منطقة خاصة بهم في قطاع مسؤوليتي، إذا هم وافقوا على العمل تحت قيادتي. لكن رفْضهم لهذا العرض أوصلنا إلى طريق مسدودة.

          اقترحت على السفير الفرنسي خلال احتدام المناقشات، على سبيل الدعابة، أن تستخدم القوات الفرنسية ميناء ينبع على البحر الأحمر، وتتخذ منه قاعدة رئيسية لها، إلى أن نتفق فيما بعد على مواقع انتشارهم. ولم يكن لهذا الاقتراح معنى من الناحية العسكرية، فهو مثل قولي لهم "ابقوا في القاهرة" لأنهم سيكونون بذلك بعيدين عن مسرح العمليات. فما داموا سيبقون خارج هذا المسرح، فإن معضلة التبعية القيادية لن تطفو على السطح.

          وكم كانت دهشتي كبيرة حين وافق السفير الفرنسي على اقتراحي، بل تشبَّث به فوراً! ولا عجب في ذلك، فالرجل ليس عسكرياً. وقال: "أجَل، يود الفرنسيون لو اتخذوا من ينبع قاعدة لهم".

          وسألته: "هل جئتم لقتال العراقيين، أم جئتم لأسباب سياسية؟"

          وطلبت إليه التشاور مع المخططين العسكريين أولاً، إذ سيشرحون له، بالتأكيد، أن القوات الفرنسية لن تستطيع الاشتراك في الحرب وهي متمركزة في ينبع! ولن يكون في الإمكان إسناد أية مهمة قتالية إليها. وفي هذه الحال، سيكون إسهام فرنسا إسهاماً سياسياً فقط. وأكدتُ له أننا، في جميع الأحوال، سنقدم إلى قواته كل ما في وسعنا من مساندة.

          أجابني السفير: "إن ما يهمنا الآن هو أن يفهم الآخرون ( ولم يحدد من هم أولئك "الآخرون" ) أن فرنسا ليست بعيدة عن هذه المنطقة، بل لها حضور فيها. فإذا تعرّضت المملكة للهجوم، فسوف نتخذ خطوات أخرى في حينه". قلت له: "أريدك أن تؤكد لحكومتك أنني هنا لتسوية المشاكل، وليس لإثارتها. وأن لديّ مهمة قتالية محددة يجب إنجازها. فأنا أَعْرِف، وعلى ثقة بأنك تَعْرِف أيضاً، أنه يصعب خوض الحرب بقائدين، فما بالك بثلاثة؟!".

          وإزاء هذه المشكلة، ظلت طلائع القوة الفرنسية في ينبع وحدها طوال ستة أسابيع، تنتظر، من دون شك، وصول توجيهات صريحة واضحة من باريس.
          حتى شوارتزكوف لم يُخفِ دهشته، وقال: "يا إلهي، لِمَ وافقتَ على تمركزهم في ينبع؟".
          فأجبته "دع الأمر لي، سيكون كل شيء على ما يرام في النهاية".

          ومع أن الرأي العام الفرنسي كان يزداد نقمة على العراق إلاّ أن شيفنمان لم يكن قد قَرّر بعْد إلى أي مدى ستشارك القوات الفرنسية في الخطط الحربية للتحالف.

          استقبلت ذلك الوقت، أواخر شهر سبتمبر 1990، عدداً من أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي برئاسة جان لوكانويه jean lecanuet ، الذي كان حينذاك رئيساً للجنة الشؤون الخارجية والدفاع والقوات المسلحة في المجلس. وشعرت من أسئلته الدقيقة أنه كان يختبر قدرة المملكة، وقدرتي شخصياً، على قيادة القوات الفرنسية. ونظراً إلى أنني كنت على خلاف مع القائد الفرنسي، فقد بذلتُ كل ما في وسعي لأكون في غاية الأدب واللباقة مع أعضاء الوفد. وحرصت على تأكيد الأهمية البالغة التي نُعلقها على المشاركة الفرنسية. وأوضحت لهم أن غزو العراق الكويت لا يهدد المنطقة الشرقية من المملكة وحدها، بل يهدد كذلك جميع دول الخليج، التي يمكن أن تسقط، الواحدة تلو الأخرى، أمام اجتياح صدّام.

          لم يكن ما ذكرته للوفد الفرنسي عن التهديد العراقي صحيحاً 100%، إذ تبيَّن بعد منتصف سبتمبر، أن خطر التعرض لهجوم عراقي، والذي كان شبه مؤكد في البداية، آخذُ في الانحسار، يوماً بعد يوم، بينما تنمو قوتنا وتزداد صلابة. أكد هذه الحقيقة، علمي أن العراقيين بدأوا زرع الألغام لتحسين دفاعاتهم في الكويت مما لا يمكن أخذه على أنه من مؤشرات النية على الهجوم. لم أخبر لوكانويه بذلك لئلا يعتقد أن التهديد في طريقه إلى الزوال، وأننا لم نَعُد في حاجة إلى القوات الفرنسية. وعلى كل حال، حتى لو كنّا في مأمن من الهجوم، فإن مشكلة إخراج العراق من الكويت وتحريرها، كانت لا تزال قائمة.

          فضلاً عن ذلك، كان سجل صدّام حافلاً بالسوابق، إذ اعتاد على مفاجأتنا بما يصعب التنبؤ به. فعلى الرغم من ازدياد الدلائل على اتخاذه مواقع دفاعية، لم نستبعد قطّ وقوع هجوم مفاجئ علينا، أو تعرّضنا لهجمات انتحارية من جانبه. ففي حربه على إيران، استطاع استعادة شبه جزيرة الفاو حين شَنّ هجوماً مباغتاً على القوات الإيرانية. فبعد أن حَصّن مواقعه، وجعل كل شيء يبدو وكأنه استعدادات دفاعية، دفع قوات الحرس الجمهوري، نسقه الثاني، إلى المعركة في خطة مُحكَمة. فتلك سابقة كان علينا أن نَعِيَهَا وألا تغيب عن أذهاننا. وهذا ما أوضحته لأعضاء الوفد الفرنسي الزائر.

          وما أن غادر أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي، حتى زارني الفريق أول موريس شميت رئيس الأركان الفرنسي، وهو رجل طويل القامة أشيب الشعر، يتكلم بهدوء وتؤدة. وبدا لي أن المداولات الفرنسية الداخلية قد توصلت إلى حل، إذ أخبرني أن فرنسا مستعدة لوضع فِرقتها المدرعة الخفيفة في مكان صحراوي شمال طريق التابلاين، على مسافة 70 كيلو متراً من مدينة الملك خالد العسكرية، في مسرح عمليات قيادة القوات المشتركة، أي تحت قيادتي. وبذلك انتهى النزاع.

          وصلتْ إلى ميناء ينبع، بعد فترة من الزمن، بقيةُ الفِرقة الفرنسية مع كامل العتاد والمؤن. وانتقَلَتْ مسافة 1500 كيلو متر عبر الصحراء إلى موقعها بالقرب من مدينة الملك خالد العسكرية، وكانت تتلقى منّا كل مساندة خلال رحلتها إلى مواقع انتشارها.

ذ

          كان العثور على مكان يصلح قاعدة للطائرات المقاتلة الفرنسية مشكلة أكثر صعوبة. اقترحنا، أول الأمر، أن ترابط تلك الطائرات في قاعدة الملك عبد العزيز الجوية في الشرقية، وهي قاعدة مجهزة تجهيزاً حديثاً، وكنّا على استعداد لتخصيص مكانٍ لها إلى جانب الطائرات الأمريكية. وعلمنا أن الرئيس الفرنسي ميتران لم يبدِ معارضة في شأن مرابطة القوات الجوية الفرنسية في الظهران. لكن شيفنمان، وللأسباب التي ذكرتها آنفاً، كان لا يريد وضع الطائرات الفرنسية إلى جوار الطائرات الأمريكية. وبعد بحث طويل، خصَّصنا لها مطاراً مدنياً صغيراً في الأحساء، شرقي الرياض وجنوبي الظهران. كان في المطار برج للمراقبة، لكن المَدْرَج لم يكن بالطول الكافي، كما لم يكن هناك عدد كافٍ من الممرات الجانبة للطائرات، أو أماكن لوقوفها، إلاّ أننا استطعنا، بسرعة فائقة وكلفة باهظة، تحويل المطار إلى قاعدة عسكرية كاملة التجهيز. وكان الفرنسيون قد أحضروا معهم دفاعاتهم الجوية، وأجهزة الرادار، والتجهيزات الأساسية العسكرية للمطارات التي كانوا في حاجة إليها، إضافة إلى المهندسين والفنيين والذخائر. ودفعنا تكاليف ذلك كله. ولكن الفرنسيين أضحوا سعداء بهذه الترتيبات وبتخصيص هذا المطار لهم وحدهم. وبدأوا بإشراك طائراتهم في "دوريات جوية مقاتلة" مع السعوديين والأمريكيين، وأيضاً في التدريب على الحملة الجوية.

          ومما أذكره أن الفرنسيين أرادوا تطبيق قواعد الاشتباك الجوي الخاصة بهم. كما كان مفهومهم عن "الإسناد الجوي القريب" يختلف عن مفهوم الأمريكيين له. وكتبوا إلي مرتين بصفة رسمية، يطلبون استخدام قواتهم الجوية بصورة مستقلة لإسناد قواتهم والدفاع عنها. وأرسلت الرد مرتين، بصفة رسمية كذلك، إلى الفريق أول شميت، أطالبه باستخدام "قواعد الاشتباك" نفسها ومفهوم "الإسناد الجوي القريب" الذي تستعمله بقية القوات الجوية في التحالف. لكن الفرنسيين لم يرحِّبوا بذلك إذ لم يكونوا معتادين على صيغة "أوامر العمليات اليومية" الأمريكية ota.

          كان علينا أن نوضح للفرنسيين أننا نسعى إلى ضمان السلامة العملياتية، من خلال توحيد إجراءات الدفاع الجوي، لمنع حدوث خسائر بسبب نيران القوات الصديقة، نظراً إلى أن العراق يستخدم النوع نفسه من طائرات ميراج 1-f الفرنسية الصنع. واستغرق ترتيب هذه الأمور أسابيع عدة، إلى أن تم، أخيراً، إلحاق أطقم "سيطرة جوية تكتيكية" أمريكية على الوحدات الفرنسية.

          ما أن ذُلِّلَتْ هذه الصعاب كلها،حتى أبدى الفرنسيون استعدادهم الكامل للتعاون معنا. وثبت أن الفريق روكجوفر قائد ممتاز، وكان يزورني دوماً ولا يدخر وسعاً في إطلاعي على كل ما يجري بوضوح تام. وهذا ما درجنا عليه في مرحلة درع الصحراء، إلى أن انتقلت الفرقة الفرنسية إلى السيطرة العملياتية لشوارتزكوف استعداداً لعملية عاصفة الصحراء.

سابق بداية الصفحة تالي