مقترحات البحث الأشكال والخرائط الصور المحتويات

مقاتل من الصحراء

القيادة الموازيَة (تابع)

          وكما أسلفت، وجدت أن من واجبي، أو على الأقل أحد واجباتي، للحفاظ على تماسك التحالف، أن أقوم بدور الوسيط الذي يعكس وجهة نظر المملكة. كان علىَّ التأكد من أن جميع الشركاء في التحالف يعملون معاً في وفاق داخل الأراضي السعودية وضمن حدود مقبولة للرأي العام السعودي والعربي والإسلامي. عندئذ، سيصبح صانعو السياسة، في واشنطن والرياض ولندن والقاهرة وباريس ودمشق والأمم المتحدة، قادرين على الاتفاق في شأن الخطوط العريضة للحملة. وباختصار، حرصتُ على أن أكون العروة التي تربط بين أعضاء التحالف ربطاً محكماً وتوحد بينهم في تفاهم تام. إذ لو أبدت المملكة، لسبب أو لأخر، أي تحفظات أو تراجعت عن موقفها، لتراجعت كذلك كل من مصر وسوريا والبلاد الإسلامية ولَفَشِل التحالف كله وانهار. وأعتقد أن هذا الرباط هو ما كان يقصده الفريق السير بيتر دي لابليير sir peter de la billiere حين قال مخاطباً أحد أصدقائي: "من دون خالد لم يكن استمرار هذا التحالف ممكنا، ومن دون هذا التحالف لم يكن خوض هذه الحرب ممكناً أيضاً".

          كان من واجبي أن أضع التوجيهات الحازمة التي تحدد أوجُه السلوك المقبول وغير المقبول من القوات الأجنبية. لم أكن في هذا الشأن متعصّباً أو مفرطاً في الحماسة أو غير معتدل أو غير منطقي، بل كنت فقط أدافع عن عقيدتنا وتقاليد بلادنا.

          كان من أصعب التحديات التي واجَهَتنْي، جَعْل القوات الأمريكية تبدو مقبولة في البيئة السعودية دون الإساءة إلى مشاعر المواطنين. ولأننا نمثِل قلب العالم الإسلامي، ما كان في استطاعتنا أن نبدي من المرونة ما تبديه بعض الدول الأخرى في ما يتعلق بالسلوك العام في المجتمع. فعلى سبيل المثال، تحتِّم تقاليدنا ارتداء المرأة الحجاب في الأماكن العامة والالتزام بمظاهر الحشمة والوقار. وليس ثمة مجالات تمارس فيها المرأة السعودية العمل سوى مجاليْ الطب والتعليم وبعض المجالات النسائية الأخرى. أضف إلى ذلك، أنه لا يُسمح لهن بقيادة السيارات. فكيف نستطيع إذاً التعامل مع عشرات الألوف من المجندات الأمريكيات اللواتي قَدِمْن مع القوات الأمريكية؟

          كانت أولئك المجندات يَعْمَلنَ في مختلف المجالات: سائقات وفنيات وممرضات ومسئوولات عن أعمال الإمداد والتموين وفي كل النواحي الأخرى، باستثناء المهام القتالية. وأعتقد أنهن حَصَلْنَ عام 1993 على ميزة القتال، إن كان القتال ميزة! كانت عربة من كل ثلاث عربات أمريكية تقودها امرأة، فلو حاولت مَنْعَهُنَّ من القيادة في الطرقات، كـما كنت أرغب، تفادياً للمشاكل المحتملة، لأدّى ذلك إلى شل حركة القوات الأمريكية. ولكن المشكلة الحقيقية ليست في هذا الأمر، بل في قيادة العربات خارج أوقات العمل ودون الزي العسكري. لذلك توصلت مع شوارتزكوف إلى حل وسط، فوافقتُ على قيادة النساء للعربات في زيّهِنَّ العسكري وأثناء قيامِهِنَّ بمهام عسكرية فقط، ومَنَعْتُهُنَّ من القيادة بالملابس المدنية وللأغراض غير العسكرية، مثل التسوق وما شابه ذلك. ونجح الاتفاق.

          لم تتمرد النساء الأمريكيات ولا زميلاتهن البريطانيات ( لم يكن هناك نساء فرنسيات ضمن القوات الفرنسية ) على هذه القيود. وأدهشني أنهن كنّ متحمسات لاحترام تقاليدنا احتراماً فاق في بعض الأحيان احترام بعض النساء العربيات أنفسهن لهذه التقاليد.

          أدّت الخطوط الثقافية التي وضعتها إلى مواقف مضحكة أحياناً بسبب سوء الفهم. حدث ذلك في قصة القمصان (تي شيرت) التي ادَّعى شوارتزكوف أنني اعترضت على بيعها إلى الجنود الأمريكيين لأنها تحمل خريطة المملكة مبيَّنة عليها المدن الرئيسية. وينقل عني في كتابه قولي: "إن مواقع مدننا من المعلومات المحظورة". لكن هذه الواقعة محض خيال، ولا أساس لها من الواقع. فالأطالس الجغرافية وخرائط الطرق تملأ المكتبات العامة في الرياض، وهي تبيِّن موقع كل قرية من قرى المملكة، ناهيك من المدن الرئيسية! أمَا النوع الوحيد من القمصان الذي منعت تداوله، وأظن أن لي كامل الحق في ذلك، فهو الذي يحمل خريطة المملكة وفي وسطها الخطوط والنجوم التي تمثِّل العلم الأمريكي، لأن ذلك يشير إلى الولايات المتحدة كقوة احتلال. وهذا ما شعرت بغضب شديد تجاهه، مثلما استاء منه الأمير سلطان.

          ولعل السبب في ادعاء شوارتزكوف في كتابه أن الرياض كانت حتى أواخر السبعينات، بل حتى وصوله شخصياً، مدينة مغلقة أمام الأجانب بشكل خاص، يرجع إلى رغبته في وصف الظروف الصعبة التي واجهَتْه. كتب شوارتزكوف: "عندما تسلمت مهمتي في القيادة المركزية عام 1988، كان يسمح للمسؤول عن بعثة التدريب العسكري وهو ضابط برتبة لواء، بدخول الرياض في الأعمال الرسمية، وكان عليه دوماً أن يغادرها عائداً إلى الظهران قبل حلول الظلام". لكن الواقع الذي لا مراء فيه، أن أعضاء البعثة الأمريكية. وأُسَرهم، وكذلك ممثلي الكثير من الشركات الأمريكية، يُقيمون في الرياض منذ الستينات، وهم جزء من 200 ألف أمريكي وأوروبي، فضلاً عن مئات الألوف من أقطار العالم الأخرى.

          وأعتقد أن من واجبي أن أصحح رواية أخرى لشوارتزكوف في كتابه. فقد أورد أنه حذّرَني، بعد ما اشتكى إلىّ من عدم منح السلطات السعودية الممثلة الأمريكية بروك شيلدزbrooke shields تأشيرة دخول إلى المملكة، قائلاً: "حَذَّرت خالداً من مغبة تكرار ذلك الخطأ بالنسبة إلى جولة الممثل الأمريكي بوب هوب bob hope". ويدّعي أنه ذكّرني بأن السعوديين يغامرون "بإحراز النصر في الحرب وخسارة السلام" مع الولايات المتحدة.

          كنت قد أوضحت، منذ البداية، لشوارتزكوف أن الملك حدّد خطوطاً واضحة لا لَبْس فيها ولا غموض تتعلق بالترفيه عن الجنود الأمريكيين، وأنها تحظر على الفنانين الرقص أو الغناء. وأضفت أن الرئيس بوش نفسه لا يستطيع أن يثنينا عن ذلك.

          جاءني شوارتزكوف، بعد ذلك بفترة، يخبرني أن الممثل الأمريكي بوب هوب bob hope ينوي زيارة المملكة، وفي صحبته الممثلة الأمريكية بروك شيلدز ومجموعة من المغنِّيات والممثلات والمشجعات من تكساس فقلت له: "إننا لا نمانع في قدوم بوب هوب، أمّا الأخريات فلا. هذا هو جوابي الصريح. ولكن لك أن تحاول مع القنوات الأخرى إن شئت، إما من طريق جيمس بيكر في واشنطن أو مباشرة من طريق الأمير سلطان. ولكني أؤكد لك أن الجواب سيكون بالنفي".

          أثار شوارتزكوف الموضوع مرة أخرى في اليوم التالي. وفي هذه المرة، نسب إلى نفسه فضْل اتخاذ القرار باستبعاد المغنيات والممثلات، وقال: "أبلغت واشنطن أن من السخف محاولة إرسال بروك شيلدز. أعرف أن هذا منافٍ لعاداتكم. صدقني يا خالد لقد أنهيت هذا الأمر". ثم أضاف: "ولكن هل لك أن تسدي إليّ معروفاً؟ إنه في شأن بوب هوب. لقد رفضوا منح ابنته تأشيرة لدخول المملكة. خالد، دعني أعرض عليك صورتها، إنها في الخمسين من العمر!".

          ضحكت قائلاً: " إذا ضمنت لي أنها في الخمسين، ضمنت لك تأشيرة الدخول لها!". وكان هذا موجزاً لما حدث.

سابق بداية الصفحة تالي