الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة    

 
كنعان قبل قيام إسرائيل
فلسطين في عهد الملوك
سوريا في عهد الأشوريين
سوريا في العصر اليوناني
سوريا في العصر البيزنطي
سوريا في العصر الإسلامي
التقسيمات العثمانية في سوريا
الموستوطنات في فلسطين
اتفاقية سايكس / بيكو
الحدود في مؤتمر الصلح
حدود فلسطين تحت الانتداب
مشروع لجنة بيل
تقسيم فلسطين
تقسيم فلسطين الأمم المتحدة
مسرح عمليات فلسطين
تعبئة مسرح العمليات
أهداف القوات العربية
اتجاهات تقدم الجيوش العربية
محصلة الجولة الأولى
طريق تل أبيب - القدس
العملية تخشون
العملية يبوس
العملية مكابي
معركة مشمار هاعميك
العملية مسباريم
العملية شاميتز
العملية يفتاح
العملية يفتاح (2)
العملية بن عامي
العملية بن عامي (2)
الاستيلاء على عتصيون
أوضاع الألوية الإسرائيلية
معارك المالكية
معركة وادي الأردن
معركة مشمار هايردن
معركة جيشر
معركة جنين
دخول الفيلق الأردني القدس
معركة القدس
معركة اللطرون
معركة اللطرون (2)
القوات المصرية في فلسطين
معركة يدمردخاي
معركة أسدود
معركة نيتسانيم
القوات المصرية في الأولى
الموقف في الفترة الأولى
العملية "باروش"
العملية "ديكيل"
العملية "داني"
القتال المصري الإسرائيلي
معركة "نجبا"
معركة "جلؤون"
معركة "بئروت بتسحاق"
العملية "مافيت لابوليش"
الموقف في عراق سويدان
معركة "العسلوج"
أوضاع المحور العرضي
العملية "يؤاف"
العملية "يؤاف" (2)
العملية "هاهآر"
العملية "حيرام"
القتال في الفالوجا
العملية أساف
العملية حوريف
القتال في المحور الشرقي
العملية "عوفدا"

ثالثاً: فلسطين في العصور الإسلامية (636 ـ 1917.م)

1. الملامح الرئيسية لفلسطين خلال العصور الإسلامية

بدأت العصور الإسلامية في فلسطين بإنهاء سيطرة الدولة الرومانية (البيزنطية) عليها في العقد الرابع من القرن السابع الميلادي (636م). وكانت فلسطين طوال العهود العربية والإسلامية جزءاً لا يتجزأ من الدولة الإسلامية الكبرى خلال عهود الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين، وفي مرحلة اضمحلال الدولة العباسية تبعت فلسطين الطولونيين، فالإخشيديين، فالفاطميين، ثم السلاجقة والأيوبيين فالمماليك. وكان العهد العثماني هو آخر عهود الحكم الإسلامي في فلسطين حتى ما بعد منتصف العقد الثاني من القرن العشرين (1917م).

وقد واكبت عملية الفتح الإسلامي لفلسطين عملية نزوح للقبائل العربية إليها. ولم تتوقف عملية الانتقال من الجزيرة إلى فلسطين والبلاد الأخرى التي تم فتحها بعد ذلك، بل إنها اشتدت في بعض العهود كما حدث في عهد هشام بن عبدالملك (في الدولة الأموية). ومنذ بداية العصر الإسلامي في فلسطين حتى عهد عبدالملك بن مروان أصبحت اللغة العربية هي لغة السكان جميعهم عدا البيزنطيين الذين أجبرهم عبدالملك على التحدث بها، وفي عهد الأخير تم بناء المسجد الأقصى تأكيداً للوجه العربي والإسلامي في مقابل الوجه البيزنطي السابق للمدينة.

وبغض النظر عن شكل الحكم في العصور الإسلامية السابقة، خلافة كانت أم إمارة، وبالرغم من الانقسامات والخلافات التي سادت في بعض تلك العصور، فقد استمرت عملية بناء المجتمع في فلسطين عربي الانتماء والحضارة، وكانت فلسطين أسرع الأمصار في الانتقال من العهد البيزنطي إلى العهد العربي (تقبل الإسلام والتعريب) لكثرة القبائل العربية التي كانت قد هاجرت إليها في عصور ما قبل الإسلام واستمرار تلك الهجرة بعده حتى أصبح العرب يمثلون الأغلبية الساحقة للسكان.

وعلى الصعيد الإداري كانت فلسطين في جميع العصور الإسلامية السابقة حتى العصر العثماني تذكر بالاسم، كما ذكرت في عهد الفتوحات بأرض فلسطين أو فلسطين. ولما اتسعت الدولة الإسلامية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، قسمت البلاد أقساماً إدارية كبيرة ليسهل حكمها وبقت فلسطين قسماً قائماً بذاته يحكم بأحد عمال أو ولاة الخليفة الذي يجمع به السلطتين التنفيذية والقضائية المستمرة من الخليفة نفسه.

وفي العهد المملوكي قُسمت البلاد داخلياً إلى مناطق سُميت بالممالك، فكانت منها المملكة الغزية من حيفا حتى رفح، ومملكة صيفد إلى الشمال من حيفا.

أما في العهد العثماني فقد عادت فلسطين لتعرف باسم سورية الجنوبية وقسمت داخلياً إلى ثلاث متصرفيات: متصرفية القدس المستقلة التي أصبحت تتبع الباب العالي مباشرة في الأستانة منذ عام 1874 لمكانتها الدينية، ومتصرفية عكا، ومتصرفة نابلس، وقد ألحقت الأخيرتان بولاية الشام حتى عام 1883م.

ولم يكن للتقسيمات الإدارية الأخيرة أي أثر سواء في طبيعة المجتمع وتركيب السكان أو في تاريخ فلسطين كجزء من المنطقة.

2. الغزوات الصليبية لفلسطين

تعرضت فلسطين خلال عهود الفاطميين والسلاجقة والأيوبيين لعدة حملات صليبية امتدت عبر مائتي عام تقريباً، وقد تعددت دوافع هذه الحملات المتعاقبة: فمنها الدافع الديني، والرغبة في التوسع، وتوجيه القوى نحو حروب خارجية للحد من الحروب الداخلية والكسب المادي. وهكذا تفاعلت هذه العوامل لتأليف الحملة تلو الأخرى من النبلاء والفلاحين والمعدمين.

وانقسمت الحملات الصليبية من الناحية الزمنية إلى ثلاث مراحل أساسية: المرحلة الأولى التي استولى فيها الصليبيون على القدس وأسسوا المملكة اللاتينية في فلسطين وبعض أجزاء من ساحل سورية (الجزء الجنوبي من ساحل لبنان)، واستمرت هذه المرحلة من عام 1099 حتى عام 1144م. والمرحلة الثانية التي ابتدأت برد الفعل الإسلامي بقيادة عماد الدين زنكي وانتهت بانتصارات صلاح الدين الأيوبي، والمرحلة الثالثة هي مرحلة المناوشات والحروب الصغيرة في القرن الثالث عشر، وقد انتهت بخروج الصليبيين نهائياً من البلاد.

وطوال مدة حكمهم كانت علاقات الصليبيين بالسكان تختلف من وقت لآخر وفقاً لعوامل متعددة. ففي الوقت الذي أحرقوا فيه من وجدوه من اليهود في معبدهم عند فتح القدس عام 1099م فقد أقام الصليبيون علاقات ودية مع المسيحيين الموارنة خلال الحملة الأولى، كما كانت بعض المدن الداخلية المسلمة ـ تطلب مساعدة المملكة اللاتينية ضد مسلمين آخرين وفي فترات السلم كان الفريقان ينصرفان إلى الزراعة وتبادل التجارة، ويفسر شكل العلاقات السابقة أسباب نجاح الصليبيين خلال المرحلة الأولى، حيث يعود بدرجة كبيرة إلى ما كان عليه سكان البلاد من تفكك وضعف بأكثر مما يعود إلى قوة الصليبيين.

وعندما انقسمت المملكة اللاتينية بعد وفاة بولدوين في الوقت الذي توحد فيه المسلمون بدأ العد التنازلي لنهاية الصليبيين في فلسطين، حيث بدأ صلاح الدين حروبه لتحرير البلاد أواخر عام 1177م. وفي 2 أكتوبر 1187 أتم تحرير القدس وسمح لليهود بالعودة إليها بعد ثمان وثمانين سنة من الاحتلال الصليبي، ثم تلاحقت انتصاراته بعد ذلك من "الشوبك" (في الأردن) جنوباً حتى قلعة السقيف (في لبنان) شمالاً.

وقد أدى استرداد صلاح الدين للقدس إلى الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا. وقد فشلت تلك الحملة في الاستيلاء على القدس، وانتهت بتوقيع صلح عام 1192 اعترف فيه صلاح الدين بسيادة الإفرنج على قسم من الساحل، وحرية الحج إلى بيت المقدس.

وقد استمر وجود الإفرنج قرناً من الزمان بعد صلاح الدين، وهي المرحلة التي اتسمت بالحروب الصغيرة المتواصلة، وتقلص فيها وجود الإفرنج في شريط ساحلي ضيق، وانتهت بخروجهم نهائياً في عهد المماليك عام 1291م. وطوال وجودهم في فلسطين كان الصليبيون نبتاً غريباً في تربة البلاد. وبالرغم من أنهم تركوا بصماتهم على فن العمارة في فلسطين وخلفوا بعض آثارهم فيها، إلا أنهم فشلوا في تغيير الوجه العربي للبلاد الذي استمر حتى القرن العشرين عندما تعرضت فلسطين مرة أخرى لغزوة صهيونية شرسة.

3. أوضاع اليهود في فلسطين خلال عهد العصور الإسلامية

عاش اليهود خلال الدولة الإسلامية موزعين بين بلاد الرافدين وشمال أفريقيا والأندلس، وكان تجمعهم الرئيسي في الأخيرة حتى أواخر القرن الخامس عشر، حيث نعموا بحياة آمنة خلاقة وتولوا العديد من المناصب الرفيعة في الدولة وعملوا في مختلف الميادين، وكثيراً ما كان اليهود ينتقلون من المقاطعات المسيحية في أسبانيا إلى الأندلس الإسلامية ينشدون حرية الفكر والكتابة. ولم تكن مساهمتهم الحضارية كمجتمع يهودي منفصل فكرياً وفلسفياً، وإنما كانوا ينهلون ويصبون في نبع الحضارة الإسلامية، وكتبوا باللغة العربية كما كتبوا بلغتهم وشاركوا بقسط كبير في نقل الفكر اليوناني من اليونانية إلى العربية، كما نقلوا من العربية إلى العبرية. وترك اليهود بصماتهم واضحة في تراث الأندلس العلمي والثقافي وخاصة مجالات الطب والفلسفة.

وبتزايد موجات الاضطهاد، في أوروبا وأسبانيا وسقوط الدولة العربية في الأندلس في أواخر القرن الخامس عشر، هاجر عدد كبير من يهود أسبانيا إلى الولايات العربية في شمال أفريقيا كما هاجر بعضهم إلى فلسطين وتركيا.

وقد نشأت التجمعات اليهودية في فلسطين قبل عام 1882 نتيجة هجرات منعزلة لأغراض دينية أو هرباً من الاضطهاد في أوروبا، مثلما حدث في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وفي عهد الإدارة المصرية لسورية (1831 ـ 1840) تحسنت أحوال اليهود الاجتماعية والاقتصادية، فقد أعفاهم الحكم المصري من المغارم التي كان العثمانيون يفرضونها عليهم. وفي أواخر الحكم المصري كان عدد اليهود في فلسطين قد بلغ تسعة آلاف نسمة (منهم 5500 في القدس، و750 في الخليل و150 في نابلس).

4.فلسطين في أواخر الحكم العثماني (1841 ـ 1882)

أ. الأوضاع العامة

بعد حكم محمد على لسورية (بما فيها فلسطين) الذي استمر ثماني سنوات (1832 ـ 1940) حاول فيها والي مصر تكوين دولة عربية موحدة من البلدين بعيداً عن سيطرة الدولة العثمانية، نجحت الأخيرة في استرداد سيطرتها على سورية بمعاونة الدول العظمى في ذلك الوقت (بريطانيا، روسيا، النمسا، بروسيا، فرنسا)، التي رأت في طموحات محمد علي ما يخل بتوازن القوى في المنطقة ويهدد مشاريعها في وراثة "الرجل المريض".

وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر تزايد اهتمام الدولة العثمانية بتشديد قبضتها على ولاياتها وتوثيق أواصر تبعيتها للحكومة المركزية في الأستانة (إستانبول) والأخذ بسياسة الإصلاح والتجديد. وتماشياً مع هذه السياسة أولت الدولة العثمانية لواء القدس اهتماماً خاصاً عن سائر ألوية الشام لأهميته الدينية وتنافست الدول الأوروبية على تأسيس قنصليات فيه، والحصول على الامتيازات فيما يتعلق بالأماكن المقدسة، وحرصاً من السلاطين العثمانيين على حسن سير الأمور في لواء القدس والحد من التدخلات الأجنبية، حُوِّل هذا اللواء إلى متصرفية مستقلة (سنجق) تبعت الأستانة مباشرة اعتباراً من عام 1874، وبذلك استقل متصرفوا القدس عن ولاية سورية.

وتكونت متصرفية القدس من أقضية القدس ويافا والخليل وغزة ثم ضُم عليها قضاء الناصرة اعتباراً من عام 1906، بعد فصله عن لواء عكا الذي كان تابعاً لولاية بيروت. وفي عام 1899 ضُم على متصرفية القدس قضاء جديد هو قضاء بئر السبع بينما بقي شمال فلسطين كجزء من ولاية بيروت.

وقد وجدت الدولة العثمانية بعد عودتها إلى سورية من جديد أن نظام الحكم المصري الذي كان قائماً فيها مثالاً يُحتذى وتجربة ناجحة في الحكم المركزي، وفي إطار سياسته الإصلاحية أمر السلطان عبدالمجيد بإجراء القرعة العسكرية وجباية الأموال بمقتضى الشريعة الإسلامية وإلغاء نظام الالتزام لجباية الأموال، وحاول إصلاح أجهزة الحكم التي ساد فيها الفساد والرشوة لقلة الرواتب. كما شمل الإصلاح تطبيق مبدأ المساواة القانونية والمدنية لكافة رعايا الدولة.

وبالنسبة لغير المسلمين شملت التوجهات الإصلاحية للسلطان عبدالمجيد عام 1856على ما يلي:


(1)

إقرار امتيازات الطوائف غير الإسلامية بعد أن تُقدم كل طائفة مقترحاتها للإصلاح إلى الباب العالي.

(2)

السماح للطوائف غير الإسلامية بالحرية في ممارسة شعائرها الدينية وبناء معابدها بشروط يتوفر فيها التسامح.

(3)

المساواة التامة بين جميع رعايا الدولة في الحقوق والواجبات والسماح للأجانب بالتملك في أراضي الدولة العثمانية.

(4)

إنشاء محاكم مختلطة للفصل في القضايا المدنية والجنائية. أما الدعاوى الخاصة بالأحوال الشخصية والإرث فتحال إلى المحاكم الطائفية لغير المسلمين.

(5)

إشراك الجماعات والطوائف غير المسلمة في مناقشات المجلس العالي المتعلقة بشؤونهم.

ب. الهجرة اليهودية إلى فلسطين وموقف الدولة العثمانية منها

بدأ الاستيطان الصهيوني في فلسطين مع أوائل النصف الثاني من القرن التاسع على استحياء ثم بدأ يتزايد في شكل موجات كبيرة ابتداء من العقد التاسع للقرن التاسع عشر. ومن وجهة النظر الاستعمارية البريطانية استهدف ذلك الاستيطان في البداية تحويل فلسطين إلى دولة يهودية تكون حاجزاً بين مصر وسورية يمنع توحد البلدين في دولة عربية قوية تهدد الدولة العثمانية ومخططات الدول الأوروبية لوراثتها. أما من وجهة النظر الصهيونية فكان لتجميع اليهود المشتتين في أنحاء العالم في وطن خاص بهم لإحياء القومية اليهودية وأمجادها القديمة، في عهد داود وسليمان، حيث كانت فلسطين تمثل في نظرهم نقطة الارتكاز الحقيقية لكل قوى العالم.

وقد بدأ الطريق إلى تحقيق كل من الأهداف البريطانية واليهودية بالخطوات التالية على الترتيب:

(1)

قيام الحكومة البريطانية وكبار اليهود بالتمهيد لدى السلطات العثمانية للسماح بالهجرة اليهودية إلى فلسطين متذرعين بدوافع إنسانية.

(2)

قيام أغنياء اليهود بتمويل الهجرة اليهودية إلى فلسطين وشراء الأراضي لاستيعاب المهاجرين.

(3)

تنظيم الهجرة إلى فلسطين بواسطة جمعيات ومنظمات خاصة بهذا الشأن.

وقد تمكن اليهود حتى أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر من إنشاء ثماني مستعمرات زراعية في فلسطين، خمس منها في متصرفية القدس وثلاث في لواء عكا (التابع لولاية بيروت). وقد لاقت هذه المستوطنات عدة صعوبات محلية بالإضافة إلى معارضة السلطات العثمانية، وكانت دائماً في حاجة إلى دعم مالي باستثناء مستعمرتين تمكنتا من تحقيق الكفاية الذاتية. وزاد من مشاكل هذه المستوطنات تجنب المستوطنين الاندماج مع السكان العرب وعاملوهم بتعال وغلظة، ولعل ما كتبه "أشر زفي جينزبيرج" أحد رواد الفكر الصهيوني آنذاك خير شاهد على أحوال المستوطنين وعرب فلسطين في ذلك الوقت، حيث كتب ينتقد موقف المستوطنين الجدد من عرب فلسطين قائلاً:

"لقد اعتدنا على التفكير والتصرف وكان جميع العرب قوماً بدائيين يعيشون في الصحراء ولا يرون ولا يفهمون حقيقة ما يجرى حولهم. وهذا خطأ فادح لأن العرب، وخاصة سكان المدن منهم، يرون ويفهمون ما نفعله في فلسطين، وإذا كانوا لا يقابلون عملنا بفعل مضاد ويتظاهرون بأنهم لا يلاحظون شيئاً، فذلك لأنهم في الوقت الحاضر لا يرون فيما نفعله الآن تهديداً لمستقبلهم، ولكن إذا ما تطورت الأمور وبدأ زحفنا الكبير إلى فلسطين، فإن العرب لن يتخلوا عن مواقعهم بسهولة. إن المستوطنين اليهود الجدد في فلسطين كانوا عبيداً في التيه، وفجأة وجدوا أنفسهم وسط حرية بلا حدود، بل وسط حرية بلا رادع لها، وقد أحدث هذا التحول المفاجئ في نفوسهم ميلاً إلى الاستبداد كما هو الحال عندما يصبح العبد سيداً. وهم يعاملون العرب بكثير من العداء والشراسة ويمتهنون حقوقهم بصورة فجة وغير مقبولة، ثم يوجهون إليهم الإهانات دون مبرر كاف، ويفاخرون بما يفعلون ويتصرفون وكأن العرب كلهم همج متوحشون يعيشون كالحيوانات دون فهم لحقيقة ما يجرى حولهم".

وإذا كان السكان العرب المسالمون قد غضوا الطرف عن تواجد المستوطنين اليهود وغلظتهم في البداية فإنه لم يكن يشكل خطورة على وجودهم في ذلك الوقت كما قال جينزبرج إلا أنه مع اتخاذ الهجرة اليهودية شكلاً جماعياً فيما بعد بدأ العرب يتحركون، وانحصر تحركهم في البداية في الشكوى إلى السلطات العثمانية من خطورة الهجرة اليهودية على وجودهم ومصالحهم.

فقد تزايد عدد اليهود في فلسطين من حوالي تسع آلاف نسمة عام 1840 إلى 12 ألف نسمة عام 1845، ثم إلى 24 ألف نسمة عام 1882. مما دفع الدولة العثمانية أن تأخذ موقفاً معارضاً للهجرة الجماعية، خاصة بعد أن وجه القنصل العثماني في "أوديسا" نظر الباب العالي تجاه الأعداد الكبيرة من المهاجرين الروس التي تعمل "جمعية محبي صهيون" على تهجيرهم إلى فلسطين في أبريل 1882، وعلى ذلك أصدرت الحكومة العثمانية تعليماتها بعدم السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين، وإن كان بإمكانهم الاستيطان في الولايات العثمانية الأخرى على أن يكونوا رعايا عثمانيين (خاضعين للقوانين العثمانية)، ورفضت الوساطة البريطانية والأمريكية في شأن الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وفي 29 يونيه من نفس العام أصدرت الأستانة تعليماتها إلى متصرف القدس بعدم السماح لليهود الذين يحملون جنسيات كل من روسيا ورومانيا وبلغاريا بالدخول إلى منطقته، ثم أبلغت البعثات الدبلوماسية لدى الباب العالي بقرار مجلس النظار العثماني الذي يقضي بمنع اليهود الروس من استطيان فلسطين. وبررت الحكومة العثمانية قرارها بعدة مبررات كان أبرزها خشيتها من ظهور مشكلة قومية جديدة في أراضيها تزيد من مشكلاتها القومية وتدفعها إلى حرب جديدة كما حدث مع القوميات الأخرى في البلقان .

ومع تزايد تسرب اليهود إلى فلسطين بأعداد كبيرة، بطريقة غير شرعية، حدد مجلس النظار عام 1884 زيارة اليهود لفلسطين بثلاثين يوماً، وعندما احتجت معظم الدول الأوروبية عام 1887 على هذه القيود التي تتعارض مع الامتيازات الأجنبية، اتخذ الباب العالي قراراً رسمياً حدد إقامة اليهود في فلسطين بثلاثة أشهر على أن يطبق ذلك على جميع اليهود المهاجرين. وعلى ذلك أصدر الباب العالي تعليماته إلى السلطات المحلية في القدس في فبراير 1887 بمنع جميع اليهود الأجانب من الإقامة في فلسطين عامة والقدس خاصة، على أن يسمح لهم بدخول البلاد بقصد الحج لفترة محدودة يغادرون البلاد بعدها.

وإزاء ذلك الموقف احتجت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا على القيود المفروضة على الهجرة بالنسبة لرعاياها من اليهود أما روسيا وألمانيا فقد أيدتا تلك القيود. إلا أنه تحت ضغط الحكومة البريطانية، اضطرت السلطات العثمانية إلى التصريح بأن إجراءات المنع بالنسبة لليهود البريطانيين لن تطبق إلا بالنسبة للذين يأتون بأعداد كبيرة. وظل ذلك موقف الدولة العثمانية حتى قيام الحركة الصهيونية السياسية بزعامة "تيودور هرتزل Theodor Herzel".

ـــــــــــــــ



الصفحة الأولى الصفحة السابقة الصفحة التالية الصفحة الأخيرة